‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحرية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحرية. إظهار كافة الرسائل

20/04/2010

تحولات التيار الديني – 4 الخروج من عباءة الاموات

حين تسمع باسم "السلفية" فان اول الصور التي ترد الى ذهنك هي صورة الماضي . صحيح ان السلفيين ينسبون هذا الوصف الى التزامهم بمرجعية السلف ، اي اهل القرون الثلاثة الاولى بعد البعثة المحمدية ، الا ان الانطباع السائد يفهمه كاشارة الى انكار الجديد والمعاصر. على اي حال فان الاسم يبقى مجرد عنوان ، وقد يتغير مضمونه بين حين وآخر او بين مكان وآخر. ما هو مهم في هذا الصدد هو قابلية التيار الديني السلفي للتحرر من ثقافة الماضي وتقاليده ، والانتماء الى العصر الحاضر بما فيه من سبل عيش وهموم وانشغالات ومعارف ونظم انتاج وقيم وعلاقات.

الشيخ عبد الرحمن البراك

الانشغال بالماضي لن يضمن الصفاء العقيدي او الثقافي كما يتصور البعض . انه مجرد ارتباط افتراضي يشبه الهندسة العكسية. اي النظر الى الحاضر ثم تجريده من بعض ما يعتقد الانسان انه جديد ومبتدع . هذا يؤدي الى انفصال شعوري عن الواقع دون ارتباط واقعي بالماضي. ومثل هذه الحالة تثير الكثير من المشكلات الثقافية والنفسية وقد تؤدي الى احد اشكال الاغتراب ، ولا سيما انكار الذات بوصفها جزء من واقع قائم ، او انكار الواقع باعتباره وعاء للذات.

بعض شيوخ السلفية يرفضون بالجملة مقولة المعاصرة ، وهم يرونها قرينا للتراجع او الانهزام في مواجهة المد اللاديني. وفي اخر بياناته ندد الشيخ عبد الرحمن البراك بمن وصفهم بالعصرانيين ، اي رجال الدين والناشطين الدينيين الذين يدعون الى التجديد . وشهدت السنوات الماضية نشر العديد من الكتب والمقالات التي تندد بهذا الاتجاه ، حتى اصبح وصف "العصراني" مرادفامخففا للعلماني او الليبرالي .

لكن يبدو ان هذا هو اتجاه الاقلية. وثمة في مقابلها شريحة تتسع بالتدريج ، تسعى الى الانفتاح على العصر ومكتسباته ومواجهة اشكالاته بطريقة او باخرى. بعض السلفيين الجدد يفهم المعاصرة باعتبارها موضوع "علاقات عامة" او وسيلة لتصحيح صورة التيار السلفي ، ومفهومها ينصرف عنده الى "تحسين طرق العرض والتعامل" ، وليس الى تجديد الافكار والمتبنيات والمناهج. تحسين العلاقات العامة هو امر طيب ، لكنه لا يؤدي الى تطوير التيار الديني ، ولا يجعله اكثر قدرة على البقاء والتجدد.

اذا اراد التيار الديني تجديد نفسه فانه يحتاج اولا الى مراجعة تصوراته عن ذاته وعن العالم المحيط ، كي يبنى علاقة سليمة معه. لا زال نشطاء هذا التيار ينظرون الى انفسهم كحراس للحقيقة الدينية ضد الاخرين الجاهلين بها او المتامرين عليها . يتجسد هذا التصور عادة في التركيز المبالغ فيه على الجانب العقيدي من الدين ، والتذكير الدائم بالحدود الفاصلة بين النسخة السلفية من العقيدة وعقيدة المسلمين الاخرين. من المفهوم ان هذا التركيز غرضه حمائي في الاساس ، لكنه قاد السلفيين – بوعي منهم او غفلة - الى منزلق التكفير الذي اصبح مثل ماركة مسجلة للادبيات السلفية ، فكل فتوى او مقال او كتاب او اعلان موقف ، يتضمن وصما لجهة ما بالكفر او تحذيرا من الكفر او كلاما عن الكفر.

 لا يمكن اختصار الاسلام في العقيدة ، ولا يمكن اختصار المسلمين في الجماعة السلفية ، كما لا يمكن لاحد كائنا من كان ادعاء وحدانية الحقيقة ولا تقزيمها وحصرها في طريق احادي الاتجاه. ونعرف من تاريخ البشرية المعاصر ان الكنيسة الكاثوليكية قد خسرت مكانتها ونفوذها وخسرت ملايين المؤمنين بدينها بسبب انتهاجها لهذا الطريق . البديل السليم هو تبني مبدأ "التسامح" . التسامح ليس السلوك اللين او التواضع او اللطف في الكلام ، بل هو بالتحديد : "اعتبار حقي في تبني مذهبي الخاص مساويا لحق غيري في تبني مذهبه الخاص" ، اي الاقرار للناس بالحق في الايمان بما تمليه عليهم عقولهم وضمائرهم. قد نرى ما عندنا خيرا مما عند غيرنا ، لكن لا يصح ان نصم المختلف عنا بالردة والخروج عن الملة، لانه تمهيد للقطيعة وربما الحرب ، كما حصل في  العراق وغير العراق.

اذا فهم السلفيون انفسهم كفريق من المسلمين ، لهم – مثل غيرهم – حق اختيار عقائدهم ومناهج حياتهم ، فانهم  سيرون عصرهم ومن يعيش فيه بعيون مختلفة ، وسوف يكتشفون عند الاخرين الكثير مما يستحق التامل والتفكير ، وعندئذ سوف يتحولون من حراس لتراث الماضين الى شركاء في بناء المجتمع المسلم في هذا العصر المختلف.  



نشر في الايام  العدد 7680 | الثلاثاء 20 أبريل 2010 الموافق 5 جمادى الأولى 1431هـ

19/08/2009

مجتمع العبيد


؛؛ اهتزاز شخصية الفرد وتبعيته العمياء للاخرين ، هي ثمرة لثقافة عامة تنبذ التسامح وتنكر استقلال الفرد وتساويه في القيمة مع الاخرين ؛؛


حتى منتصف القرن العشرين كان بوسعك ان ترى رجالا ونساءا يباعون ويشترون او يورثون بعد موت اسيادهم ، مثل اي بضاعة اخرى في السوق. لكن العبودية او الرق زالت من العالم تماما. واصبح جميع الناس - من الناحية القانونية على الاقل – احرارا. بالنسبة للمملكة  العربية السعودية فان اخر العبيد قد حرروا بموجب بيان وزاري في نوفمبر 1962.


الكلام حول الحرية لا ينظر اذن الى موضوع الرق، بل الى درجة الحرية التي يتمتع بها الانسان العادي ، اي الفرد الذي يملك نفسه وارادته ، ويستطيع – نظريا على الاقل – ان يفعل ما يمليه عليه عقله او ترغب فيه نفسه. يدور جدل الحرية المعاصر حول الموانع الداخلية ، تلك التي ترتبط بثقافة الفرد وتكوينه النفسي والروحي ، والموانع الخارجية ، اي تلك التي ترتبط بالقانون او السياسة او المجتمع. 

 لعل ابرز المعوقات الداخلية لتحرر الانسان هو الطفولة الثقافية او النفسية ، اي اعتقاد الفرد بانه ما يزال بحاجة الى كفيل او راع او حام او وصي او ناظر او مرشد يفكر نيابة عنه ويختار له طريق السلامة في حياته. تجد مثل هذا الفرد مبهورا بما عند كفيله او مرشده ، وانبهاره هذا يترجم في صورة ذوبان تام في شخصية المرشد اوالكفيل ، بحيث يسير وراءه مغمض العين ، محجوب الفكر . كلامه تكرار لكلام الكفيل وعاطفته انعكاس لحبه وبغضه.

 مثل هذا الفرد لا يوصف بانه حر ، كما انه ليس عبدا في المعنى القانوني . ولعلنا نعتبره ناقص الحرية او تابعا. تجسد الحرية في مفهومها العام قابلية الانسان على صياغة وجوده المستقل ونظام حياته وتعديلها بين حين واخر بحسب ما يمليه عليه عقله. يجادل المفكرون بان هذه القدرة فطرية وجزء من طبيعة الانسان وتكوينه .

 يتميز الانسان على سائر المخلوقات بعقله وارادته وقدرته على اختيار طريقه واعادة توجيه مساره الحياتي بين حين وآخر . يستطيع الانسان تغيير صفاته وسلوكياته بشكل ابداعي ومتجدد ، بحيث يكون هو المتحكم في معيشته ومتبنياته وعمله وعلاقته مع العالم المحيط ، وفي تحديد اهدافه ومصيره  النهائي. شعور البعض بالحاجة الى كفيل ومرشد لا ينفي حقيقة ان كل فرد بذاته قادر على ان يقرر كيف سيكون وماذا سيفعل بغض النظر عن ارادات الاخرين.

قد يظن بعض القراء ان هذه مسألة شخصية ، فطالما كان الانسان قادرا على اختيار الطريق ، فمن الافضل اذن ان ينشغل بها الفرد الذي يعاني منها . لكن الحقيقة انها من قضايا  الشأن العام . افتقار الفرد الى الارادة الحرة ، او تبعيته العمياء للاخرين ، هي ثمرة لثقافة عامة تتصف بعدم التسامح او عدم الاقرار بمكانة الفرد واستقلاله وتكافؤه القيمي مع الاخرين. في غالب الاحيان فان المجموعات المتعصبة والراديكالية تلعب على هذه الورقة .

 تتحول الفكرة المتطرفة الى جماعة متطرفة عندما يقتنع بعض الافراد بالطاعة الكاملة لشخص معين ، قد يكون صاحب الفكرة او رجلا حالما او شخصا ذكيا ذا نزعة قيادية . تتوسع الجماعة من خلال الضغط الثقافي والنفسي على الافراد الاقل قدرة على محاكمة الافكار الجديدة ، ويمارس الاعضاء المتحمسون نوعا من غسيل الدماغ على انفسهم وعلى الافراد المستهدفين ، بغرض اقناعهم بان طريقهم هو سبيل الخلاص الوحيد وان بقية الناس جميعا مضللون او جاهلون . هذه القناعة هي التي تبرر للفرد التخلي عن ارادته بتذويبها في ارادة الجماعة ، وتوجيه عقله ونشاطه الفكري في الاتجاه الذي اختارته الجماعة .

هل يستطيع فرد ذائب في جماعة ان يتحرر منها ؟

نعم هو قادر بكل تاكيد ، لان الانسان يستطيع في كل الاحوال ان يستخرج عقله من صندوق الجماعة المغلق ، ويمنحه الفرصة كي يحاكم وضعه الراهن ويقارنه باوضاع الاخرين او بما ينبغي ان يكون عليه.  وينبغي للمجتمع الذي يخشى من تفاقم دور الجماعات المتعصبة والراديكالية ان يبحث عن الشروط والوسائل التي تجعل افراده قادرين على مراجعة احوالهم ونقدها والتفكير فيها واعادة صياغتها بين حين واخر ، كي لا يصبح انضمام الفرد الى الجماعة الراديكالية اعلانا عن مصيره النهائي.

17/08/2009

دعاة الحرية وأعداء الحرية

الذين يدعون إلى الحرية والذين يرفضونها ، ينطلقون من رؤيتين حول طبيعة الإنسان ، تتعارضان في المبدأ أو في التطبيقات. تركز الرؤية الأولى على الجانب البيولوجي الذي يشترك فيه الإنسان مع بقية الحيوانات. ويعتقد أصحابها أن الناس لو تركوا من دون رقيب ، فسوف يتحول اجتماعهم إلى ما يشبه الغابة ، التي يأكل فيها القوي حق الضعيف ، فلا يردعه إلا ظهور من هو أقوى منه.

الذي يحول بين الناس وبين عودتهم إلى الطبيعة الحيوانية ، هو وجود السلطة القاهرة التي تخيف القوي وتحمي الضعيف. أما أصحاب الرؤية الثانية ، فيعتقدون أن الإنسان بطبعه مخلوق خير ، وأنه مؤهل ذاتيا كي يكون عطوفا أو يكون باغيا. فطرة الإنسان تدعوه إلى مواساة الغير والتألم لما يصيبهم وليس العدوان عليهم. وإنما يميل إلى العدوان بتأثير التربية أو الظروف المحيطة به.
ترجع كلتا الرؤيتين إلى أزمان متطاولة ، ولذا يصعب الجزم بتاريخ محدد لظهور أي منهما ، أو ما إذا كانت قد سبقت أختها. المؤكد أن كلاهما كان معروفا في التراث الفلسفي والإنساني القديم. ما نستفيده من تاريخ المعرفة ، هو أن الرؤية المتشككة في طبيعة الإنسان ، سيطرت على الفكر الإنساني حتى القرن السادس عشر الميلادي ، حينما بدأت في التراجع لصالح نظيرتها المتفائلة ، وصولا إلى القرن التاسع عشر ، الذي هيمنت فيه الفكرة الاخيرة على الفلسلفة والفكر الإنساني لا سيما في العالم الغربي.
يمكن بسهولة ملاحظة انعكاسات كل من الرؤيتين على أسلوب التعامل مع عامة الناس ، سواء من جانب المؤسسات الحكومية التي تطبق القانون ، أو حتى الشركات التجارية التي تعمل في ظل القانون. ولعل الذين عاشوا في البلاد الغربية أو زاروها ، قد لاحظوا بالتأكيد كيف أن تلك المؤسسات والشركات ، تبني على الثقة في تعاملها مع مراجعيها والمتعاملين معها.
 حين تبعث برسالة إلى دائرة حكومية أو شركة تجارية تطلب شيئا ما ، فإنهم ينظرون إليها بثقة ولا يهملونها ، كما لا يطلبون منك الحضور شخصيا. يكفي أن تذيل الرسالة بتوقيعك وعنوانك ، كي يأخذ طلبك مساره الاعتيادي للتنفيذ.
يعلم هؤلاء أن بعض الناس قد يعبث أو قد يستغل القانون. لكنهم – قبل ذلك - يؤمنون بأن الأغلبية الساحقة من الناس طيبون ، يريدون العيش بسلام في ظل القانون ، ولا يبحثون عن مشكلات. قارن هذه الطريقة بنظيرتها المعتادة في المجتمعات التقليدية ، حيث لا تستطيع إجراء معاملة إلا إذا حضرت شخصيا ، وعرضت بطاقتك المدنية ، وربما يطلب منك إحضار من يشهد على قولك أو يزكيك ، كما هو الشأن في دوائر القضاء، أو ربما يطلب منك إحضار ورقة تعريف من العمدة أو شيخ القبيلة.. إلخ.
الذين رأوا أن الإنسان أميل بطبعه إلى الجانب الحيواني ، قالوا إنه يتصرف بتأثير نفسه السفلى ، أي تلك التي تضم غرائزه الحيوانية وشهواته. وهي تميل به إلى الاستحواذ والسيطرة والتسلط والعدوان. والذين رأوا أن الإنسان أميل إلى الخير ، قالوا بأنه لو ترك وشأنه فإن عقله وإنسانيته ، ستقودانه إلى التزام حدوده وإلى التعاون مع الآخرين من أجل تحسين النطاق المعيشي المشترك فيما بينهم.
ذهب إلى الرؤية الأولى معظم قدامى الفلاسفة ، ومن بينهم الفلاسفة المسلمون. ويذهب إليه في العصر الراهن التيارات المحافظة والشمولية ، في شرق العالم وغربه. ويرى هؤلاء جميعا أنه لا سبيل لتحسين بيئة العيش الإنساني ، إلا بوجود أنظمة وقوانين متشددة ، تحدد المسموح والممنوع ، ووجود دولة قوية تفرض تلك القوانين كي لا يعيث الناس في الأرض فسادا.
وذهب إلى الرؤية الثانية الفلاسفة الرومانسيون. ثم أصبحت في العصر الحديث أرضية تقوم عليها الفلسفة الليبرالية ، ولا سيما في موقفها من الحريات الشخصية والمدنية.
تؤمن هذه الفلسفة بالحاجة إلى القانون كما تؤمن بالحاجة إلى دولة قوية يحترمها الجميع.
لكن دور الدولة هنا يختلف عن نظيرتها المحافظة. فغرضها ليس إجبار الناس على الصلاح. بل توفير الحماية القانونية للجميع كي يمارسوا حريتهم ، من دون أن يخرقوا حدود الآخرين ، أو يتجاوزوا على حقوقهم.
بعبارة أخرى ، فإن هذه الرؤية تريد دولة محدودة التدخل. بينما تدعو الرؤية الأولى إلى تدخل لا محدود من جانب الدولة ، في الحياة العامة وربما الخاصة أيضا. كلتا الرؤيتين لهما مبررات وأدلة. لكن الواضح أن الرؤية المتشائمة تنتمي إلى الماضي بينما تنتمي الثانية إلى العصر الحديث.

    صحيفة عكاظ  - 17 / 8 / 2009م
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20090817/Con20090817299063.htm

03/08/2009

مجتمع الاحرار



في يوم بارد من شتاء 1984 وصلت الى مدينة الباسو غرب ولاية تكساس الامريكية ، التي تحاذي مدينة اخرى كانت تحمل الاسم نفسه لكنها تتبع جمهورية المكسيك. تقع الاولى على مرتفع من الارض وتقع الثانية في الوادي. وقفت وزملائي على حافة المرتفع ونظرنا الى الباسو المكسيكية .

 لا ادري اذا كان حال هذه المدينة البائسة قد تغير اليوم ، لكني شعرت في ذلك اليوم بالفارق الهائل بين المجتمعات التي تنعم بالحرية وتلك المحرومة منها . تجد اثار ذلك على الناس كما في الاشجار والمباني والطريق ، وفي كل شيء تقريبا .

اذا كان احد سيجادل في صحة استنتاجات العلماء طوال التاريخ حول العلاقة الوثيقة – واحيانا السببية - بين تحرر الانسان وتقدمه ، فان تجارب الانسانية في مختلف عصورها ولا سيما في عصرنا الحاضر دليل قاطع على ان تقدم الانسان وازدهاره مشروط بتحرره من القيود الداخلية التي تكبل روحه وعقله ، ومن القيود الخارجية التي تكبل حركته ومبادراته .

قارن بين حال المجتمعات التي حصلت على الحرية ، كما هو الحال في الدول الصناعية ، وتلك التي لا زالت سجينة قيودها الداخلية والخارجية مثل مجتمعات العالم الثالث . واذا كان احد سيحتج بوجود عوامل اخرى لتخلف هذه عن تلك ، وهو احتجاج لا نختلف فيه ، فان مقارنة الدول الاوربية نفسها ، تلك التي تحررت ثقافيا وسياسيا منذ زمن طويل ، وتلك التي لا زالت حديثة العهد بالحرية ، تكشف بالتاكيد عن العلاقة الوثيقة بين الحرية والتقدم. 

ثلاث دول يمكن ان تضرب مثلا على هذا: فرنسا التي تحرر شعبها منذ زمن طويل ، والبرتغال الاحدث عهدا بالحرية واسبانيا التي تقع في منتصف المسافة بين الاثنتين. هذه ثلاث دول تعيش ضمن محيط اقليمي واحد ، وتدين شعوبها بدين واحد لكن الفرق شاسع بين مكانة كل منهما في تقدم العلم والثقافة والتقنية وفي القوة والتاثير على المستوى الدولي .

قارن ايضا بين دولتين متماثلتين في كل شيء تقريبا عدا النظام السياسي : كوريا الشمالية واختها الجنوبية . يعاني الشماليون من الجوع والفاقة ، بينما المنتجات التقنية لاخوتهم في الجنوب تملا الاسواق في شرق العالم وغربه.

قارن ايضا بين شرق المانيا وغربها قبل اتحادهما وبعد الاتحاد. شعب واحد مقسم بين نظامين سياسيين ، احدهما يحمي الحريات الفردية والمدنية والاخر يحجبها او يحددها . بين قيام الدولتين قبيل منتصف القرن العشرين واتحادهما في اوائل التسعينات من القرن نفسه تحولت المانيا الغربية الى ثاني اقوى اقتصاد في العالم وارتفع انتاج التقنية ومعه مستوى المعيشة الى الصف الاول على المستوى العالمي ، بينما بقيت المانيا الشرقية دون المستوى المتوسط في معيشة شعبها وفي انتاجها العلمي والتقني وفي دورها على المستوى الدولي .

الفرق الوحيد بين شطري المانيا هو احترام الحريات في شطرها الغربي وهيمنة الاستبداد في شرقها ، الى ان قرر الشرقيون ان لا حل سوى اعادة توحيد البلد المقسم ، اي – في حقيقة الامر – الغاء النظام الشرقي والانضواء تحت لواء النظام القائم في الشطر الغربي.

يتقدم المجتمع اذا اصبح افراده احرارا . ان تكون حرا يعنى ان تملك حق الاختيار بين بدائل عديدة لحياتك وتفكيرك وعملك وسلوكك الشخصي ، ان تكون آمنا حين تعبر عن رايك ونتاج عقلك حتى لو خالف المعتاد والسائد ، وان تكون قادرا على تحقيق ذاتك من خلال خياراتك الخاصة. يفقد الانسان حريته حين يفرض عليه الاخرون نمطا من الثقافة او السلوك او العمل او المعيشة ، او حين يتدخل الاخرون بشكل اعتباطي في خياراته الخاصة.

من الناحية الواقعية فان معظم خيارات الانسان تخضع لقانون البلد. ما هو ممكن او ممتوع يتبع غالبا معايير محددة . لكن الصحيح ايضا ان القانون قد يكون ضيقا الى درجة استعباد الناس ، والصحيح ايضا ان الاخرين قد يتجاوزون القانون ويفرضون عليك مراداتهم خارج اطاره.

القانون ليس كلمة القوي ، بل القواعد التي جرى اقرارها سلفا وصدرت بشكل رسمي واعلنت من جانب الجهة التي لها وحدها الحق في وضع القانون.

15/01/2009

الحرية وحدودها القانونية


نشر في نشرة مساواة – يناير 2009

شغل تعريف مفهوم "الحرية" جانبا عظيما من اهتمام الباحثين في علم السياسة . ولعل اكثرها انتشارا هو تعريف توماس هوبز الذي يقرن الحرية بعدم التدخل . فقد رأى هوبز واتباعه ان جميع القوانين تمثل قيودا على حرية الفرد . فالقانون بطبيعته اما محدد لحركة الانسان بمعنى انه يفرض عليه السير في طريق معين ، او كابح له من السير بحسب رغبته وارادته الخاصة[1]. ومال الى نفس الفكرة الفيلسوف الانجليزي جيريمي بنثام في القرن التاسع عشر فقرر ان كل حرية تعطى لفرد تنطوي ضرورة على تقييد لحرية غيره ، حتى القانون الذي تسنه الحكومة لحماية ملكي هو قيد عليك كما ان القانون الذي يحميك هو قيد علي ، بل ان القانون الذي تسنه الحكومة لحماية حريتي هو بشكل او بآخر قيد علي لما ينطوي فيه من الزامات ذاتية او متقابلة [2]. خلاصة هذه الرؤية اذن ان الحرية الحقيقية تكمن في صمت القانون.

اما جان جاك روسو فقد قرر ان جميع الناس يولدون احرارا متساوين ، لكن على الانسان ان يتخلى عن حريته الطبيعية لصالح الحرية المدنية . حرية الانسان في الحالة الطبيعية تكمن في قوته الجسدية التي تمكنه من فعل ما يشاء ، والاكثر حرية هو الاكثر قوة والعكس بالعكس . اما في المجتمع المدني فان حقوق الانسان وحريته محمية بالقانون والسلطة التي تنفذه نيابة عن المجموع . بعبارة اخرى فان ما يخسره الفرد حين ينضم الى المجتمع المدني هو حريته في استعمال قوته الجسدية لممارسة حرياته الاخرى ، وما يربحه هو اعتراف المجتمع بحريته المدنية وملكية ما يحوزه باعتبارها حقوقا ثابتة لا تحتاج الى قوة فردية تحميها. وحسب روسو فانه لا فرق بين الحريتين الطبيعية والمدنية من حيث الجوهر والمحتوى، انما  تختلفان في الارضية التي تقوم عليها والحدود النهائية لكل منهما . من هنا قد يمكن القول ان الحرية المدنية هي ذاتها الحرية الطبيعية لكن مع تاطيرها وتحديدها بالارادة العامة المتمثلة في القانون.

يقوم هذا المفهوم على التمييز بين الحرية والقدرة . "انا قادر على" هي شيء مختلف عن " انا حر في". يستطيع الانسان فعل ما يشاء حين تغيب الموانع التي تحول بينه وبين مقصوده او تزاحم فعله فيه . وما دام الفرد يعيش مع الاخرين فان تلك الموانع حاضرة ، ان الظرف الوحيد الذي تغيب فيه الموانع والمزاحمات للحرية الفردية تماما هو ظرف العزلة ، اي حين يعيش الفرد وحيدا وبعيدا عن اي فرد آخر ، لان مفهوم الحرية لا يكون له موضوع الا حين يوجد آخرون تتزاحم اراداتهم مع ارادات الفرد .

نستطيع اذن التمييز بين حرية خارج المجتمع المدني وحرية في المجتمع المدني ، او حرية طبيعية وحرية مدنية ، وابرز سمات الاخيرة هي كونها مضمونة ومحمية بالقانون الذي يمثل اجماع الجماعة وارادتهم العامة حسب تفسير جون لوك.

ترى .. هل يعني هذا ان القانون هو الذي يمنح الحرية ؟. اذا كان الامر كذلك فان القانون (اي ارادة الجماعة) اعلى من الحرية الفردية ؟.
اشرنا سابقا الى تقسيم الفلاسفة للحقوق الفردية الى صنفين : صنف ثابت للانسان بالولادة وهو ما يسمى الحقوق الطبيعية ، وصنف يثبت له بمقتضى العقد الاجتماعي ، اي كونه عضوا في المجتمع المدني . مرجع الصنف الاول هو قانون الفطرة وهو اعلى من كل قانون يضعه البشر ، بل هو مرجع كل قانون بشري وحاكم عليه . الحقوق الطبيعية - تبعا لهذا المبدأ - فوق القوانين الوضعية وحاكمة عليها ، بمعنى انه لا يجوز للمجتمع او الدولة اصدار قانون يخرق حقوق الافراد الطبيعية لانها جزء من جوهر انسانيتهم وضرورة لها . ولعل ابرز ما يدخل في تلك الحقوق هو حق الحياة ، اذ يحق لكل فرد فعل ما شاء للمحافظة على حياته ، بما فيها الهرب حين يحكم عليه القاضي العادل بالموت . ومنها المساواة مع الغير ، ويدخل فيها ايضا الحريات المرتبطة بالضمير مثل حرية الاعتقاد والدين ، وحرية التفكير والتعبير ، والحرية في اختيار نمط المعيشة واساليب العيش . كما يدخل فيها حق الملكية واستثمار الجهد الشخصي.

اما الصنف الثاني فيطلق عليه اسم الحقوق الدستورية او التعاقدية ، وهي حقوق يحددها القانون وترتبط بالوصف القانوني للفرد ، اي كونه مواطنا او عضوا في مجتمع مدني . من هذه الزاوية فان الصنف الاول سابق للقانون وحاكم عليه ، اما الصنف الثاني فهو تابع للقانون وخاضع له . وابرز ما يدخل ضمن هذا الصنف هو حق المشاركة المتساوية في الشؤون العامة للجماعة ، بما فيها حق الوصول الى المناصب العامة وانتخاب الغير لها . ومنها ايضا حق الاستفادة المتساوية من الموارد العامة المادية وغير المادية الخ . ويعتبر اعلان حقوق الانسان والمواطن الذي اصدره برلمان الثورة الفرنسية (1791) من بين الوثائق المبكرة التي حددت العلاقة بين الحقوق الطبيعية والدستورية التي يتمتع بها الفرد ، فقد اكد هذا الاعلان على تمايز النوعين لكنه اعتبر الحقوق الطبيعية ارضية واساسا للحقوق الدستورية للمواطنين ، واكد على الارتباط العضوي بين انسانية الفرد وتمتعه بالحقوق الطبيعية التي تشمل "حقه في الحرية ، الملكية ، الامان ، ومقاومة الظلم" ، انها حق له حيثما كان وفي اي ظرف عاش ، وليس للفرد التخلي عنها وليس لاحد حرمانه منها لان "الناس يولدون احرارا متساوين"[3]

من العسير في حقيقة الامر وضع خط فاصل يحدد بدقة اين تبدأ واين تنتهي الحقوق المنطوية في كل من الصنفين . ولعل اكثر صيغ التمييز بين الصنفين شهرة هي تلك التي توصل اليها ايزايا برلين في كتابه المعروف "مفهومان للحرية"[4] ، والذي يصف فيه النوع الاول كحريات سلبية والثاني كحريات ايجابية . طبقا لهذه الرؤية فان الحرية السلبية تساوي عدم التدخل من جانب الغير ، اي "الحرية من.." ، او المساحة التي يستطيع فيها شخص او جماعة ان يفعلوا ما يريدون دون تدخل من اي شخص اخر. بينما تساوي الحرية في معناها الايجابي القدرة على فعل شيء يتطلب مباشرة او مداورة موافقة الغير ، اي "الحرية في .." وينطوي هذا المعنى في جواب سؤال : من هو او ما هي الجهة التي يمكن ان تقرر ماذا يفعل شخص ما او كيف يكون على هذا النحو وليس سواه . اذا منعت من جانب الاخرين من فعل ما اشاء فاني الى ذلك القدر غير حر. واذا كانت المساحة التي استطيع التصرف فيها بحرية محددة من قبل اخرين فانه يمكن وصفي حينئذ بالمقهور coerced او يمكن ان اكون مستعبدا. القهر هو التدخل العمدي من جانب الافراد الاخرين في المساحة التي اريد ان اعمل فيها . انت محروم من حريتك فقط حين تمنع من الوصول الى غاياتك من جانب الغير. وليس مجرد العجز عن الوصول الى الغايات لاسباب تتعلق بعدم كفاية الانسان نفسه مثلا او لظروف طبيعية . بطبيعة الحال لا يمكن تصور هذه الحرية من دون حدود ، لان الحرية المطلقة تعني ايضا حرية الانسان في ان يخترق مساحات الاخرين ، وربما تقود الى فوضى اجتماعية ، تضيع معها فائدة الحرية ، ويستأثر بها الاقوياء على حساب الضعفاء[5]. المبرر الوحيد لهذا التقييد هو العدالة ، فالبديهي ان الحرية حق متساو لجميع الافراد ، وتقتضي العدالة ان يتمتع كل فرد بنفس القدر الذي يتمتع به غيره ، وهذا يؤدي بالضرورة الى تقييده.



[1] Pettit, Philip, Republicanism: A Theory of Freedom and Government, (Oxford, 1997), p. 41
[2] Pettit, Philip, ibid., p. 45
[3]  Macdonald,  M.,  “Natural Rights”, in Laslett, Peter (ed.),  Philosophy, Politics and Society, Basil Blackwell, 1970 , p. 40
[4] Berlin, Isaiah, Two Concepts of Liberty, Clarendon Press, 1958

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...