07/02/2006

سلاح الجبنة وسلاح الحليب



 القرار العفوي الذي توافق عليه الشارع المسلم بمقاطعة المنتجات الدانمركية هو موقف سياسي حضاري يؤكد مرة اخرى على ان الراي العام يمكن ان يغير المعادلات . والمؤكد ان كثيرا من الناس قد اكتشف اليوم ان التوقف عن استهلاك منتجات تلك البلاد لن يوقعنا في مجاعة ولن يعطل حياتنا ، فثمة على الدوام بدائل ، كما ان اقوى سلاح بيد الانسان هو قدرته على الاستغناء عما يشتهي .

بعد ايام او اسابيع سوف تنحدر موجة الغضب ويعود الناس الى حياتهم المعتادة ، وتلك طبيعة الحياة . ولهذا فقد يكون من المهم التامل في العبر التي يمكن استفادتها من تلك الحادثة ، ولا سيما ذلك النوع من الدروس التي لها اثر دائم وكبير في حياة الناس . واريد التذكير هنا بما جرى في مطلع هذا العقد حين قرر كثير من المسلمين مقاطعة المنتجات الامريكية ردا على انحيازها الاعمى للعدوان الاسرائيلي . المهم في تلك التجربة ان معظمنا قد اكتشف وجود بدائل عن تلك المنتجات في العالم الاسلامي . فيما يخص دول الخليج مثلا فقد ادت تلك المناسبة الى تبدل وجهات السياحة من الولايات المتحدة واوربا الى ماليزيا واقطار الشرق الاسيوي اضافة الى الدول العربية ، كما ادت بطبيعة الحال الى مضاعفة الاقبال على منتجات هذه الدول كبدائل عن المنتجات الامريكية والاوربية .

بغض النظر عن المجادلات الفنية والسياسية والثقافية حول قدرتنا على الاستغناء الكامل عن منتجات الدول الغربية ، وحول فائدة موقف مثل هذا. اقول بغض النظر عن هذا ، فان الامر الذي يستحق الاهتمام هنا هو استثمار هذه المناسبة لتشكيل موقف شعبي داعم للاهداف المباشرة والفورية للمجتمعات المسلمة نفسها واشير خصوصا الى هدف النمو الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة .

لا يزال من المبكر تقديم ارقام دقيقة عن الخسائر التي سوف تتحملها الشركات الدانمركية بسبب المقاطعة ، فثمة تقديرات توصل الرقم الى مئة مليون دولار خلال هذا العام ، بينما تضعها تقديرات اخرى في حدود الاربعين مليونا ، وكلا التقديرين لا يمكن الاعتماد عليه ، لاننا  لا نعرف على وجه الدقة المدى الزمني الذي سوف تستغرقه المقاطعة ونوعية المنتجات التي ستكون هدفا لها . لكن اذا اردنا ان تكون هذه عملية كاملة ومفيدة ، فان علينا استثمار الفرصة التي اتاحتها هذه النهضة الشعبية بالدعوة الى استبدال المنتجات الغربية بمنتجات الدول النامية والدول الاسلامية  حيثما كان ذلك ممكنا .
بالنسبة للدانمرك مثلا فان الاغذية تمثل الجزء الاكثر ظهورا من صادراتها الى الاسواق العربية ، ولا شك ان في الامكان استبدالها بالاغذية التي تنتجها المجتمعات المسلمة نفسها . بكلمة اخرى : فبدلا من شراء الحليب الدانمركي او الجبنة الدانمركية ، دعونا نجرب الحليب السعودي او الجبنة السورية .

تمثل المواد الغذائية والاثاث والاجهزة غير المعمرة الجزء الاكبر من استهلاكنا الاعتيادي ، ومعظم هذه المواد تنتج محليا او في دول اسلامية او دول صديقة ، وما نحتاجه فقط هو التفاتة الى مصدر تلك المواد قبل شرائها . ان مبادرات بسيطة مثل هذه يمكن ان تحدث تغييرا كبيرا . وكمثل على ذلك فلو ان الاربعين مليون دولار التي ننفقها على المنتجات الدانمركية تحولت الى شراء المنتجات السورية ، فانها ستوفر اربعة الاف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة في الريف السوري ، ونعلم ان كل فرصة عمل جديدة تنقذ عائلة كاملة من الفقر .

يمكن للناس العاديين ان يساعدوا بعضهم ، ويمكن لهم ان يوجدوا تغييرا جديا ، ولا شك ان مبادرات من هذا النوع يمكن ان تكون مؤثرة وفعالة . وقد جربناها في اوائل هذا العقد واثمرت عن نمو كبير للصناعات المحلية من جهة وللعلاقات الاقتصادية بين الدول الاسلامية من جهة اخرى ، كما جربها الامريكيون في اوائل الثمانينات حين اوشكت صناعة السيارات الامريكية ان تنهار تحت ضغط الواردات اليابانية . وجربها الايرانيون في مواجهة الحصار الاقتصادي في الثمانينات واثمرت عن تطور هائل في صناعاتهم ، بما فيها الصناعات الثقيلة .

لنقل ان كل دولار ننفقه يمكن ان يوفر حياة افضل لمسلم واحد على الاقل في دولة اسلامية ما ، فلنجعل من حياتنا العادية وسيلة للاحسان والتكافل ، وعندئذ فسوف نكون اوفياء لاهدافنا وعرضة لعون الله ولطفه ، وكما ورد في الاثر فان الله في عون العبد مادام  العبد في عون اخيه .

الايام – الاسبوع الاول من فبراير 2006

31/01/2006

الوجه الاخر لعاشوراء


صحيح ان احياء مناسبة عاشوراء يتمحور حول التذكير بما جرى في الماضي السحيق ، لكنها ليست مجرد حديث يتلى على المستعمين كما يحصل في الخطب الاعتيادية ، بل هي اقرب الى نوع من الاستذكار الجماعي لتجربة تمتزج في اطارها الفكرة بظرفها العاطفي وتبريرها الديني وصورتها الشعرية . انها ممارسة تفاعلية يتحول خلالها المستمعون جميعا مع خطيبهم الى جزء من القضية التي يروونها ، اي تجربة روحية مشتركة تتوحد خلالها مشاعر الافراد للتاكيد على الهوية او اعادة ترسيم مقومات وعناصر هذه الهوية .

ترى هل نستطيع استثمار التاثير الثقافي والروحي الهائل الذي ينطوي عليه هذا الموسم لصياغة حياتنا على النحو الاحسن ؟

نفهم بالبديهة ان الغرض الاسمى للدين هو الارتقاء بحياة الناس في مدارج السعة والقوة والتقدم المادي . لكن في المقابل فان جانبا مهما من ثقافتنا الدينية ، وبينها بالطبع الثقافة التي نتلقاها في موسم عاشوراء ، لا ترتبط من قريب ولا بعيد بالحياة التي نعيشها ، بل ان بعضها يؤدي فعليا الى تغريب الانسان عن عصره وفصله عن محيطه الحيوي الكوني . ولعل سبب هذه الحالة يكمن في فشلنا كمثقفين في التوصل الى معادلة سليمة في العلاقة بين الدنيا والاخرة . تؤكد الثقافة الاسلامية على الاخرة باعتبارها الحياة الحقيقية التي تستحق التضحية والعناء . وتؤكد في جانب آخر على الحياة الدنيوية كمجال لاختبار اهلية الانسان للفوز باعلى المراتب في الاخرة . و لهذه الغاية فهي تدعو المسلمين الى اكتساب اسباب القوة المادية والعلمية التي تؤهلهم لقيادة العالم .

نجح مسلمو العصور السابقة في التوصل الى علاقة مناسبة بين دنياهم وآخرتهم ، ولعل هذا من بين اسباب نهوضهم الحضاري . لكن من البين ان مسلمي هذا العصر ما زالوا يقفون على ابواب الحيرة ، ولهذا فان مساهمتهم في الحضارة القائمة يعد صفرا او قريبا من الصفر . نحن لا نساهم في حضارة الاخرين لاننا منفصلون عنها روحيا وثقافيا ، ولا نسعى لتخليق نموذجنا الحضاري الخاص لاننا لا نعرف من اين نبدأ . ولهذا فاننا نعيش على حاشية الحضارة ، لا راضين عنها كي نشارك فيها ولا في غنى بما عندنا كي ننفصل عنها.

نفهم بطبيعة الحال ان الاسلام لايتحمل وزر ما وصلنا اليه . في كل الاحوال فان الدين الحنيف ينطوي على خيارات متعددة : كقوة تعبئة ونهوض كما حصل في ماضي الزمان ، او كوسيلة تبرير لواقع الحال كما يحصل في هذا الزمان . وفي ظني ان جوهر مشكلة المسلمين اليوم تكمن في ضياع الاولويات او ضياع البصيرة كما في التعبير التراثي . ولعل ابرز الامثلة على ذلك هو فشلنا في الاتفاق على تحديد المسار الرئيسي لحياتنا : هل هو مسار توافق وانسجام مع التجربة الانسانية الكونية او هو مسار انفصال عنها . لكل من الخيارين تبعات وعواقب لا بد من وعيها واحتمالها .

 اذا قررنا التواصل والانسجام فسوف يتوجب علينا التضحية ببعض ما نعتبره من المسلمات والبديهيات من ثقافتنا او تقاليدنا او متبنياتنا وحتى بعض مفاهيمنا الدينية . واذا قررنا الانفصال فان علينا ان نقيم بديلا يستطيع منافسة الحضارة القائمة ماديا ومعنويا ، والا فانه سيكون مجرد اعتزال للعالم ، قد يؤدي في نهاية المطاف الى القضاء علينا تماما مثل ما حصل للهنود الحمر . هناك بطبيعة الحال الخيار الراهن ، اي المساوقة بين الانسجام والتخارج ، وهو ليس خيارا بالمعنى الدقيق فنحن نتبعه بسبب العجز عن الاختيار. وهو على اي حال ليس المثال الافضل لامة تحترم نفسها وقدراتها.

بديهي ان الانسجام والتوافق مع التجربة الانسانية الكونية هو اكثر الطرق عقلانية وفائدة ، لكنه لا يعني النقل الحرفي وتقليد ما عند الاخرين من دون تمحيص . نحتاج في حقيقة الامر الى تطوير علاقة نقدية ثنائية الاتجاه ، تشمل نقد عناصر ثقافتنا على ضوء نظائرها في العالم ، ونقد ما لدى العالم على ضوء ثقافتنا ، ومحاولة اختيار الافضل والاكمل من دون تحجر او انحياز لما عندنا او ما عندهم . اذا اردنا ان نبدأ فعلينا ان نبدأ بالقيم المؤسسة للحياة ولا سيما قيمة الحرية وقيمة العلم . قيمة الحرية تعنى ان جميع الناس احرار في اعتقاداتهم ومتبنياتهم وسلوكياتهم ، وانه لا يجوز لاحد ان يفرض على غيره اعتقادا او سلوكا من دون رغبته . وقيمة العلم تعني ان نتاج العقل البشري هو الارضية الصالحة التي تقوم عليها الافعال ، وانه يجب تحرير العقل والعلم من قيود التقاليد والافهام الجاهزة ، وبشكل عام ، تحريره من سلطة المجتمع .

عاشوراء يمكن ان يكون مناسبة للامعان في تغريب الانسان عن عصره ، ويمكن ان يمثل فرصة عظيمة لاعادة ربط الانسان بعصره ودفعه الى الارتقاء في مدارج الحياة الدنيا . وفي هذه النقطة تحديدا تتحقق فكرة خلود الدين ، وتمكينه من اغناء الحياة وريادتها . بينما لا يكون الدين في الحالة الاولى سوى تراث قديم تتناقله الاجيال كما يرث الابن كتب ابيه . بديهي ان الامنية الغالية لكل خطيب ومتحدث في هذه المناسبة ، هي تقديم الدين كمحرك حي متفاعل مع الحياة المعاصرة ودافع لاتباعه الى النهوض والغلبة . واذا كانت المسألة على هذا النحو ، فاني ارجو ان يسعى الخطباء خاصة الى تبصير مستمعيهم بالحاجة الى التواصل مع الحضارة الكونية القائمة ، باعتبارها الاولوية المطلقة للنهضة . كما اتمنى ان يؤكدوا على الحاجة الى صياغة فلسفة لحياتنا الجديدة تقوم على قيمتي الحرية والعلم . نحن نحتاج الى الحرية كي نعيش ، ونحتاجها كي نفكر ، كما نحتاج العلم كي نكتشف ما لا يزال خبيئا من طاقاتنا ومجهولا في حياتنا وعالمنا.

الايام 31 يناير 2006

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...