01/05/2004

الوعد المستحيل


كان وزير العمل د. غازي القصيبي ضيفا ثابتا على الصفحات الاولى في الصحافة المحلية خلال الايام الاخيرة . وهو ما يظهر مدى النفوذ الذي يتمتع به شخص الوزير فضلا عن الاهمية الاستثنائية لمشكلة البطالة التي وعد بعلاجها خلال عام كما ذكر في حديثه لرجال الاعمال الاربعاء الماضي.

والصحافة تتغذى على الكلام كما هو معروف . وفي بلدنا فان مثل كلام القصيبي يوزن بالذهب لانه يتحدث بطلاقة عما سيفعل ، خلافا للطريقة الشائعة عندنا ، اي الكلام العمومي الذي يعد بكل شيء ولا يلزم نفسه بشيء. فالوزير اذن يوفر فرصة للمراقبين لمناقشة سياساته ثم اختبار نتائجها على ضوء ما وعد . وهذه هي الطريقة السليمة للتعامل بين الراي العام والهيئات الرسمية .

المشكلة على اي حال ليست هنا بل في الوعود التي لا يمكن الوفاء بها ، والتي هي بذاتها مشكلة ربما لا تقل حرجا – ضمن مجالها الخاص – عن مشكلة البطالة التي يريد الوزير علاجها . من ذلك مثلا وعد معاليه بان سيتكفل شخصيا بالتوقيع على اصدار التاشيرات وسيمنع اجهزة الوزارة الاخرى من اصدارها دون موافقته . هذا الوعد يغري السامعين بما يشير اليه من شدة اهتمام الوزير باعمال وزارته ، لكنه وعد يستحيل تحقيقه . وحتى لو افترضنا امكانيته ، فانه سيقصم ظهر النظام الاداري للوزارة الوليدة التي يأمل كثيرون ان تكون مثالا يحتذى في تطبيق فنون الادارة الحديثة.

وعد لا يمكن تحقيقه : سوف نجري حسبة بسيطة لبيان ان وعد الوزير بالتوقيع بنفسه على طلبات التاشيرات مستحيل التحقيق. فطبقا لتصريحات معاليه فانه سيخفض عدد التاشيرات الصادرة عن وزارة العمل الى نصف مليون ، وان هذا التخفيض سيتواصل في السنوات اللاحقة . لو افترضنا ان الوزير سينشغل بجزء من هذه المعاملات ، ولنفترض انه سيطلع ويوقع على عشرة الاف معاملة من اصل مجموع النصف مليون طلب الذي يقدم اليه طوال السنة . لدينا هنا احتمالان ، فاما انه سيوقع على الملف المقدم اليه دون فتحه ، وهذا لا يغير شيئا مما اراد تغييره ، فهو هنا سيعمل مثل ماكينة توقيع لا اكثر . او انه سوف يقرأ بعض محتويات الملف ، ولنفترض انه سيصرف في كل ملف عشر دقائق . في هذه الحالة سيحتاج معاليه الى 208 يوم عمل . اذا طرحنا العطلات الاسبوعية والسنوية فان ما يتبقى من سنة العمل المتاحة للوزير يقل عن 200 يوم ، اي ان السنة بكاملها لن تكفي لتوقيع المعاملات فقط ، هذا اذا لم ينشغل الوزير باي عمل اخر سواها .

وهو من ناحية اخرى وعد خاطيء حتى لو امكن تحقيقه : من مباديء الادارة الحديثة تفويض الصلاحيات الى الاجهزة وتفرغ القادة الاداريين للتخطيط الاستراتيجي ومتابعة الخطط الكبرى وتذليل الصعوبات الناشئة عن تداخل عمل الوزارة مع الوزارات او الجهات الاخرى. يفترض ان الوزير او الوكيل هو ارفع الموظفين كفاءة وسلطة في الجهاز . ولهذا توكل اليه اكثر الاعمل اهمية ، اي تلك التي لا يمكن لغيره القيام بها لما تحتاجه من سلطة وكفاءة .

لكي يؤدي تفويض الصلاحيات اغراضه فان الجهاز الاداري يحتاج الى قوانين عمل واضحة واهداف محددة واليات مناسبة للمتابعة وقياس الاداء بالمقارنة مع الاهداف . وفي هذه الحالة فان اي موظف في المراتب الوسطى يمكن ان يتخذ القرار المناسب ، اي يوقع على المعاملة – حسب التعبير الدارج - . وفي المقابل فان من العيوب الكبرى في جهازنا الاداري هو تركيز الصلاحيات في ايدي كبار الاداريين والاستغناء عن القوانين واليات العمل . ولهذا السبب فان كل مراجع يستطيع في حقيقة الامر الحصول على ما يريد من اي وزارة – ضمن نطاق القانون او بالالتفاف عليه - اذا حصل على خيط يوصله الى احد الكبار. ومن هنا ايضا شاعت الواسطة والمحسوبيات .  ان اصدار مئات التاشيرات التي شكا وزير العمل من المتاجرة فيها ليس عمل صغار الموظفين ، فهم اساسا يفتقرون الى مثل هذه الصلاحيات.
الحل اذن ليس في ايكال التوقيع على المعاملات الى الوزير ، لان هذا سيكرس نموذج الهرم المقلوب في الادارة ، او ما يسمونه في الفن : مسرح الممثل الواحد . اي الجهاز الذي يعتمد بصورة مطلقة على رئيسه ، بدل الاعتماد على الوحدة المنظومية للعمل التي تقوم باداء جميع الوظائف سواء حضر الرئيس او كان غائبا .

لا ادري ان كانت الارقام المذكورة اعلاه دقيقة ام لا ، لكن وعد الوزير بالاطلاع شخصيا والتوقيع على كل معاملة ، حتى لو كان يعني بها المعاملات الكبرى ، يثير القلق من اننا لا نزال نعالج مشكلاتنا بالطريقة القديمة ، حتى لو تولى العمل رجل في مثل كفاءة الوزير القصيبي . ليس خفيا ان الجهاز الاداري في بلدنا يعاني من امراض مزمنة ، ربما كان اهمها هيمنة الجانب الشخصي وغياب روح العمل المؤسسي . والاعتقاد السائد ان نسيم الحداثة سيعيد الروح الى هذا الجهاز اذا تولى قياده من يؤمن بالمؤسسة والقانون كاداة لا غنى عنها للتطوير ، ولهذا نامل ان يعيد وزير العمل النظر في وعوده تلك  وان يخبرنا عن شيء يمكن القيام به ، ويحسن القيام به.

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/5/1/Art_100750.XML
( السبت - 12/3/1425هـ ) الموافق  1 / مايو/ 2004  - العدد   1049

مقالات ذات صلة

10/04/2004

تعـزيــز الامــل


يعتذر بعض قومنا عن تباطؤ الحراك السياسي بتجارب الامم الاخرى التي احتاجت عشرات من السنين كي تنزع عنها رداء التقاليد. والفكرة ليست غريبة على اي حال فقانون اصلاح التعليم الذي غير وجه المجتمع البريطاني صدر في اواخر القرن التاسع عشر ، اما الجدل حول البدائل السياسية للنظام التقليدي فيرجع الى القرن السابق. هذا الكلام الذي يبدو متماسكا ، باطل في الجملة والتفصيل.  نتفهم طبعا ان الحال لا يتغير في يومين او ثلاثة ، لكن هذا لا يعني بالضرورة ان الامر يحتاج الى عشرات من السنين .


الكلام السابق باطل في الجملة لانه يطابق بين وضعيتين مختلفتين تماما . فالتغيير في اوربا بدأ فعليا باقرار مباديء للحراك السياسي تحولت الى قاعدة تفاهم بين القوى الاجتماعية والسياسية ، وشكلت من ثم فلسفة عمل مرجعية يستند اليها الجدل حول موضوعات الاصلاح . وبالمقارنة مع الوضع القائم في البلاد العربية ، فالواضح ان مثل هذه المرجعية مفقودة . معظم الناس في السلطة وفي المجتمع يتحدثون عن الاصلاح باعتباره من المسلمات ، لكن طرف السلطة وطرف المجتمع ليسا متفقين على المراد بالاصلاح وحدوده.

ذلك الكلام باطل في التفصيل ايضا ، لان المسار الاصلاحي الذي اتبعته الامم الاوربية كان غير مسبوق ، ولهذا اتسم بالنزعة التجريبية والتعلم من الاخطاء . لكن الاقطار التي اخذت بهذا النهج في وقت لاحق لم تحتج ابدا الى اعادة التجربة ، فقد استفادت من تجارب من سبقها ، وتلك هي الحكمة في النظر الى تجارب البشر باعتبارها مصدرا للحكمة المتجددة. اسبانيا والبرتغال مثلا تحولت من انظمة عسكرية الى ديمقراطيات برلمانية في ظرف ثلاث سنوات فحسب. اما اليابان فقد انتقلت السلطة من الامبراطور الذي كان يعد في تقاليدهم ابنا للالهة ومالكا للارض والرقاب الى برلمان منتخب في ظرف اشهر معدودة . ولم يكن هناك اي تمهيدات ذات شان ، بل جرى التحول بقرار اتخذه الجنرال ماك ارثر قائد القوات الامريكية التي احتلت البلاد في نهاية الحرب العالمية الثانية.

خلاصة القول ان التحول السياسي يتطلب وقتا ، لكنه بالتاكيد ليس عشرات السنين . عناوين التحول ، فلسفته ، اهدافه ، ادواته والقيم الناظمة له ، لم تعد اسرارا ولا الغازا تحتاج الى عباقرة لحلها ، فتجارب العالم مكتوبة بالتفصيل وجرت حولها دراسات وابحاث ، وكشفت نقاط قوتها وضعفها ، ونوقشت نقاط التلاقي والاختلاف بين مختلف التجارب . وهذه كلها اصبحت علما قائما بذاته عنوانه التنمية السياسية او التنمية الشاملة اذا اريد تعميمها على الجوانب غير السياسية ايضا . وبهذا فلم نعد بحاجة الى اعادة اختراع العجلة او تعريف الماء .

يبدو مثل هذا الكلام تحصيل حاصل ، فما الداعي الى قوله اذن ؟

خلال الاشهر القليلة الماضية كانت هناك مبادرات جيدة جدا وكانت هناك اخفاقات للحراك الاصلاحي. وليس من العسير اكتشاف اهمية بعض المبادرات الجديدة على الحياة السياسية في البلاد ، مثل نشر نتائج التحقيق في حريق سجن الحائر وما ترتب عليه من اقالة المسؤولين عنه ، وتشكيل جمعية حقوق الانسان وجمعية الصحفيين . وكانت بموازاة هذا بعض الاخفاقات التي ليس متاحا لنا الحديث عنها وان كانت معروفة للجميع .

الامر الذي يستحق الاهتمام هنا ، هو ان الحراك الاصلاحي الذي تتفق الغالبية على عنوانه العريض ، جسد خلال السنوات الاخيرة املا لشرائح واسعة جدا من المجتمع ، او نقطة ضوء اعادت اليهم الثقة بوجود مستقبل افضل يمكن صناعته من الداخل وبادوات داخلية . هذا الامل بحاجة الى تعزيز وتركيز ، فوق انه بحاجة الى شحن بالمصداقية ، كي لا يقتله توالي الاخفاقات.

من اجل تعزيز الامل ، فاننا بحاجة الى التخلي عن الخطابات الجوفاء حول تجارب الامم التي استغرقت عشرات السنين . لكننا بحاجة في المقام الاول الى تطوير الحراك الاصلاحي من تصريحات صحافية الى جدول زمني محدد لتطبيق الاصلاحات المنشودة. مثل هذا الجدول سوف ينهي الشكوك في جدية التحرك نحو الاصلاح ويحول الامل من عاطفة او رغبة الى هدف عملي مرسوم.

www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/4/10/Art_92891.XML

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...