03/04/2004

الأخ الأكبـــر

كانت احداث العراق فرصة للمحافل العلمية في الغرب – وربما في بعض العالم العربي – لاستعادة النقاش القديم حول طبيعة التحول السياسي في الدول النامية . 
السؤال المحوري في هذه النقاشات يتناول قدرة مجتمعات العالم الثالث على استنباط نموذج للديمقراطية يتناسب مع اوضاعها المختلفة عن اوضاع الدول الصناعية الغربية. ثمة مبررات كثيرة وجدالات حول صحة هذا المنحى ، بعضها مجرد تبرير لاستمرار واقع الحال ، وبعضها يكشف عن حاجة جدية لاعادة تعريف بعض المفاهيم بما يسهل تنسيجها ضمن الثقافة العامة المحلية . لكن لا انوي الدخول في هذه المناقشة حاليا.
 من بين الافكار التي طرحت في الماضي وبعثت من جديد ، مفهوم الديمقراطية الموجهة ، وهو نموذج يبدو انه ينطوي على امكانات تستحق التامل. ولعل اقرب تطبيقاته المعاصرة هو النموذج الروسي . النظام الدستوري في روسيا يقرر انها دولة ديمقراطية ، وهناك انتخابات نيابية ورئاسية ، كما ان الدستور – والممارسة الفعلية – تضمن قدرا كبيرا من الحريات العامة وتعدد المنابر والاراء . لكن ثمة اتفاق بين الباحثين الروس والغربيين على ان توازن القوى ضمن هذا النظام لا يخضع تماما لمعايير الديمقراطية الليبرالية . من ذلك مثلا ان السلطة التنفيذية لا تزال هي الجزء المهيمن على الحياة العامة ، وهي تتحكم الى حد كبير في اللعبة السياسية . ان الرئيس فلاديمير بوتين مثلا لم يكن معروفا كمرشح قوي لرئاسة الدولة ، لكن جرى تظهيره من قبل "المؤسسة" حتى اصبح الرجل الاقوى في البلاد ، ويبدو ان اي رئيس قادم سيكون من انتاج هذه المؤسسة في المقام الاول وليس تعبيرا دقيقا عن توجهات المجتمع ، ويمكن ان يقال الامر نفسه عن المواقع الرئيسية وذات الخطر في النظام السياسي ككل.

تذكر فكرة "المؤسسة" باسطورة الاخ الاكبر التي ابدعها الروائي الانجليزي جورج اورويل ، والتي تلخص قلقا جديا لدى الكثير من الناس بان كل ما يجري في الحياة العامة هو تمظهر لخطة محكمة يدير خيوطها من وراء الستار اشخاص بدون وجوه معروفة. ومع المبالغة المقصودة في مفهوم اورويل للسلطة الشمولية ، وبطبيعة الحال المبالغات الموازية – العفوية غالبا - لتلك الشريحة من المثقفين والعامة الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة ، الا ان شيئا قريبا من فكرة "الاخ الاكبر" موجود واقعيا في كل دولة من دول العالم ، ويتعارف عليه بين مراقبي الحياة السياسية بالمؤسسة.
وظيفة "المؤسسة" هي المحافظة على ثوابت النظام السياسي وتوازنات القوى السائدة فيه ، او ادارة تغييرها بصورة تحول دون تفكك الهيكل العام لنظام السياسي . يختلف سلوك المؤسسة في كل بلد باختلاف الفلسفة السياسية السائدة ، لكن فيما يتعلق بالتحرك نحو الديمقراطية ، فان الفلسفة العامة هي فلسفة محافظة تماما وتقوم على فكرة ان التغيير ضروري من اجل الاستمرار.
يمكن اعتبار المفكر والسياسي البريطاني ادموند بيرك (1729-1797) ابرز المنظرين لهذه الفكرة في اواخر القرن الثامن عشر . وخلاصة رايه ان منظومات القيم والمؤسسات التي يقوم عليها النظام السياسي التقليدي لن تستطيع الصمود في وجه تيارات التغيير الليبرالية ما لم تبد مرونة وقابلية للانعطاف . ورأى بيرك ان مصلحة الطبقة التقليدية تكمن في تبني بعض الافكار التي يطرحها الليبراليون ، واعادة انتاجها ضمن الخطاب المحافظ كوسيلة لادارة التغيير وجعله يتحرك ضمن حدود معلومة . وحسب بيرك فان تجاهل التغيير سيؤدي الى انفلات زمام الامور ، وتحول القوى الاساسية في النظام السياسي من قوة فعل الى قوة رد فعل .
خلاصة ما تطرحه النقاشات الحالية هو ان نموذج الديمقراطية الموجهة قد يكون بديلا مناسبا للدول النامية التي تفتقر الى تقاليد عمل سياسي مفتوح . والاقتراح المحدد هو ان تقوم النخبة الحاكمة ، او ما يسمى بالمؤسسة ، بوضع برنامج للتحول نحو الديمقراطية ، يستهدف بصورة خاصة بعث الامل لدى عامة الناس بامكانية التغيير ضمن الاطر القائمة . ينبغي ان يركز برنامج كهذا على الاعمدة الكبرى للاصلاح ، اي حاكمية القانون ، ضمان حرية التعبير ، واعادة استيعاب القوى الاجتماعية المهمشة او المعزولة . اذا تبنت "المؤسسة" فكرة التغيير من اجل الاستمرار ، فسوف تستعيد ثقة الراي العام المتشكك عادة ، كما انها سوف تتحكم - في الوقت نفسه – في حدود وطبيعة وتوقيت التغيير بما يصون جزءا معتبرا من ثوابت النظام وتوازن القوى والمصالح السائدة فيه.







 http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/4/3/Art_90597.XML

27/03/2004

الليبرالية ليست خيارا

ثمة فوارق كثيرة بين الايديولوجيا الليبرالية ونظيرتها المحافظة او التقليدية ، في النظام السياسي الذي تدعو اليه كل منهما ، كما في الاقتصاد والفلسفة والمجتمع ..الخ . لكن الفارق الاساس – حسب ظني – هو في رؤية كل من المنهجين لموقع الفرد في الجماعة ، وعلاقته مع مكونات المجتمع الاخرى ، كالعائلة والسلطة والسوق والمدرسة وما الى ذلك.

هذا التصوير يقوم على فلسفة متعارضة تماما. في المنهج المحافظ تعتبر فكرة "الواجب" هي القاعدة الاساس التي يقوم عليها نظام القيم الاجتماعية. وترجع هذه الفكرة الى الفيلسوف اليوناني سقراط ، الذي قرر ان المدينة الفاضلة هي تلك التي "يقوم كل فرد من اعضائها بواجباته". وفي راي سقراط ان الحياة الاجتماعية هي منظومة واجبات متقابلة ، فاذا قام كل فرد بواجبه سارت حياة الجميع على اكمل وجه.

بينما يفترض المنهج الليبرالي ، ان الحياة الاجتماعية صنيعة مجموع ارادات الافراد الذين وجدوا مصلحتهم في العيش معا. وبالتالي فان منظومة القيم التي يقوم عليها السلوك الجمعي ، اي ما نصفه بالهوية الاجتماعية ، هي حصيلة اشتراك مجموع الافراد في تقرير ما هو اصلح لحياتهم.

قبل قيام النظام السياسي كان الناس يعيشون ما يصفه جون لوك بمجتمع الحالة الطبيعية ، حيث يحق للناس ان يفعلوا كل ما ارادوه ان لم يتعارض بشدة مع حقوق الغير.

النظام الاجتماعي اذن ليس بديلا عن مجتمع الحالة الطبيعية ، بل منظم للحرية الكاملة التي تسوده ، وبالتالي فان المجتمع الليبرالي ينظر الى الحريات الفردية كاصل في الحياة الاجتماعية ، كما ينظر الى الانظمة التي يسنها المجتمع كتقييدات على حرية الفرد.

يصنف المجتمع التقليدي الحقوق الفردية كاستثناء من القاعدة ، وعلى العكس من ذلك فان الحقوق والحريات في المجتمع الليبرالي هي الاصل بينما الواجبات هي الاستثناء . لكن لا ينبغي الظن بان المجتمع الاول عدو لحق الفرد ، او ان الثاني عدو للالتزام. في المجتمع التقليدي يحصل الفرد على حريته كمقابل لقيامه بالواجبات المفترضة ، اما في المجتمع الليبرالي فان اداء الواجبات يصنف في اطار المسؤولية التي تترتب على تمتع الفرد بحريته وحقوقه .

ينعكس هذا المعنى ايضا في الجدل بين الفرد والنظام الاجتماعي ، فالمجتمع الاول يميل الى فرض الزامات جديدة على الافراد ، الامر الذي يزيد تدخل السلطة في حياة الفرد ، ويتبع هذا تعدد الاجهزة الخاصة بالتوجية والرقابة والضبط وتضخم حجمها. بينما في المجتمع الثاني ينصب الجهد على تحجيم السلطة وكبح تدخلها في حياة الافراد. ومن هنا يزداد الميل الى تقليص الجهاز البيروقراطي وايكال امر التوجيه والرقابة للهيئات الاهلية التي لا تتمتع بسلطة الردع ، بينما تتخصص اجهزة الردع الرسمية في مكافحة الجريمة والعدوان.

ويبدو ان عالم اليوم يميل بمجمله الى الاخذ بالمنهج الليبرالي ، الذي اظهر – رغم المؤاخذات عليه – انه اقدر على توفير السلام الاجتماعي في المجتمعات المعقدة والكبيرة . يتباين هذا الميل العالمي من المستوى الاولي اي التخلي عن هيمنة الدولة على قطاعات الانتاج الصغيرة الى مستوى اوسع يتمثل في تخليها عن قطاع الخدمات العامة الكبير نسبيا – مثل التعليم والصحة والكهرباء والمواصلات- حتى يصل الى المستوى الاعلى ، اي التحول من فلسفة المجتمع العضوي الى المجتمع التعاقدي . والواضح ان اقطار الخليج العربية تتحرك بين المستويين المتوسط والاعلى ، والمؤمل ان تواصل تطورها في هذا الاتجاه .

يبدو ان التطور المشار اليه يتحقق بصورة طبيعية – وبطيئة الى حد ما - ، لكننا بحاجة في كل الاحوال الى وعي بحقيقة هذا التحول ومعرفة كافية بما يحتاجه وما يترتب عليه ، كي لا نفاجأ بانعكاسات التغيير قبل توقعها او الاستعداد لها. وفي ظني اننا بحاجة الى الكثير من المناقشات العامة لاستيضاح كيفية انعكاس التحول الجاري على ثقافتنا ونظامنا الاجتماعي ، ولا سيما على منظومات القيم والمؤسسات التي نريد الحفاظ عليها او تطويرها كي تناسب حياتنا الجديدة.

 

Okaz ( Saturday 27 March 2004 ) - ISSUE NO 1014 http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/3/27/Art_88261.XML



مقالات ذات علاقة 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...