30/10/1994

من ثقافة النخبة الى ثقافة الشارع


تدل احصاءات التعليم على ان معظم الاقطار العربية ، قد تقدمت بصورة حسنة في مكافحة الامية ، وحصل نحو ثمانين بالمائة من الذكور الذين تقل اعمارهم عن 30 سنة ، على قدر من التعليم الاولي او المتوسط في خمس عشرة دولة عربية ، وهذا تطور يعتبر طيبا ، بالقياس الى الوضع الذي كان قائما عند نهاية النصف الاول من القرن العشرين .
سلامة موسى
ترى هل ادى هذا التطور الى جعل العلم موضع اهتمام لعامة الناس ، وهل ادى الى جعل العلم قاعدة نؤسس عليها حياتنا ؟ من الواضح ان هذه النتيجة المتوخاة لم تتحقق الى اليوم ، وهي ربما تتحقق في المستقبل ، لكن ليس اذا بقينا في حالة الاسترسال الراهنة ، ان أي تطور مهما قل شأنه ، لايتحقق الا بوجود محرك يدفعه ويقود عناصره الى غايتها.

بضـاعة بائـرة
 فعلى الرغم من تلك الجهود لايزال العلم بضاعة بائرة في عالم العرب ، ربما يرجع هذا الى ارتفاع نسبة صغار السن قياسا الى مجمل السكان ، وربما الى الفقر الذي من شأنه ان يشغل الفرد بهموم تدبير المعيشة عن هم الارتقاء العلمي ، او لظروف عدم الاستقرار السياسي التي تسود بعض البلاد ، او لاسباب اخرى ، ايا كانت فانها لاتغير من النتيجة شيئا ، فتراخي الاهتمام بالعلم ينتج تأثيراته السلبية ، التي من اهمها تراخي الاندفاع نحو التطور ، او انحراف الحركة في طريق غير قويمة ، ان العلم هو الدليل الامين لحركة المجتمع ، ومتى ماغاب فلا يأمن السائرون ان يضلوا درب السلامة.

وليس من الصعب العثور على مشجب ، نعلق عليه وزر ماحدث من قصور او تقصير ، لكن ليس هذا موضع التحقق من مسئولية التقصير ، فالذي ينبغي ان يأخذ اهتمامنا هو سبل العلاج ومسئولية القادرين عليه .

مسئولية المثـقفين
من الواضح ان جميع الفئات الاجتماعية تتحمل بدرجة او باخرى ، قدرا من مسئولية نشر العلم وتعميمه ، نظرا لانها تستفيد كغيرها من نتائج هذا العمل ، لكن فئة المثقفين واصحاب الفكر تتحمل في هذا الميدان مسئولية اكبر من غيرها ، لا تخصيصا لها بهذا الحمل الثقيل ، بل لانها اول مستفيد من تصحيح الوضع الخاطيء ، فقد استتبع انكماش الاهتمام بالثقافة ، انحدارا في الاعتبار الاجتماعي الذي هو حق لاهل العلم ، فاصبحوا ياتون ـ من حيث التسلسل الواقعي للمراتب الاجتماعية ـ في المرتبة الثالثة أو الرابعة ، وربما ادنى من ذلك ، خلافا لماينبغي ان يكون عليه الحال ، من تقديم للعلم واهله ، ووضعهم في مواضع الشرف والريادة الاجتماعية .

الحلول والاحلام
ثمة وسائل عديدة لاستعادة هذه المكانة اهمها ـ في تقديري ـ الاقتراب من قضايا الناس الصغيرة واليومية ، والاقتراب من الفهم العام عند معالجة القضايا المختلفة ، ان الانصراف الى معالجة القضايا الكبرى واقتراح الحلول التاريخية ، والاقتصار على مخاطبة المختصين ، انما ينتج في حقيقة الامر ضيقا في المساحة الاجتماعية التي تتعامل مع النتاج العلمي .
 المسألة هنا ليست صعوبة الفكرة أو سهولتها فقط ، المسألة هي ايضا في ابتعاد الفكرة عن المعاناة اليومية للناس ، او غربتها من طموحاتهم القصيرة الأمد ، ستجد الكثير من الكتب التي تبحث في مشكلات الأمة العربية وهي تطرح لذلك حلولا تاريخية جذرية ، فالعديد من الباحثين الذين عالجوا اسباب الفشل الذي منيت به تجارب التطور الاقتصادي والاجتماعي في العالم العربي ـ على سبيل المثال ـ شخصوا المشكلة باعتبارها نتيجة مباشرة لوضع التنمية في اطار الإقليم أو الدولة الواحدة ، التي لاتستطيع نتيجة لضيق الموارد او المساحة او الكفاية السكانية ، ان تواجه التحديات الضخمة لمتواليات التخلف ، وعلى ذلك فان حل هذه المشكلة لن يكون ميسرا إلا بتنمية في إطار قومي .

بكلمة أخرى فان الرسالة التي تنطوي عليها مثل هذه المعالجة ، هي ان على كل دولة من دول العالم العربي ان تنام على وسادة الانتظار حتى تتحقق الوحدة العربية ، أو نمطا جزئيا من أنماطها على الأقل ، حتى تتوفر الفرصة للاقلاع من مستنقع التخلف ، مثل هذا الحل الذي ربما ينظر اليه أهل الإختصاص باعتباره جذريا وتاريخيا ، لاعيب فيه سوى ان أحدا من الناس حكاما ومحكومين لايستطيع القيام به ، في المدى المنظور على الأقل ، ليس لأن الشعب العربي لايريد الوحدة ، بل لأن همومه اليومية وهموم حكوماته كثيرة وضاغطة ، بحيث يبدو هذا المطلب بالنسبة اليهم مؤجلا الى زمن بعيد في المستقبل ، اي انه قابل للتصنيف ضمن دائرة الاحلام ، وليس الاهداف والمخططات ، ولهذا السبب فان المعالجة التي تشترط قيام الوحدة قبل التنمية ، تعتبر بالضرورة غير ذات قيمة على الصعيد التطبيقي ، لانها تعجز عن اثارة اهتمام الناس ، فضلا عن اصحاب القرار ، فتبقى مجرد محاولة حظها الوحيد هو الحفظ على الرفوف .

ثقافة للشارع

وفي منتصف القرن ، كان المفكر المصري سلامة موسى يدعو في مقالات صحفية ، الى خطة وطنية لتوفير المراحيض الصحية للفلاحين في القرى ، قائلا ان انعدامها أدى الى استيطان الأمراض في الريف ، فعاب عليه نظراؤه من المثقفين هذه الدعوة ، لأنها - كما قالوا - نزول بالثقافة من عليائها الى أوساخ الشارع. وكتب احدهم مقالا عنوانه (الثقافة المراحيضية) كرسه للسخرية من دعوة الكاتب. كما دعا بعضهم - على سبيل التهكم - الى تحويل المعاهد العلمية الى معاهد سمكرية ، انسجاما مع دعوة سلامة موسى تلك .
لكن هذا يرتبط بتشخيص المثقف العربي لدوره في المجتمع. فأمثال سلامة موسى يتطابق جدا مع مثقف يعتبر ان دوره تحريضي في المقام الأول. هو قد يدعو الى أمور مختلفة ، بحسب مايناسب الزمان والمكان ، ولدينا أمثلة على قصائد شعراو مقالات أو كتب الهبت حماس الناس لمقاومة مستعمر ظالم ، أو عالجت مشكلة مستعصية لأنها جاءت في وقتها ، ولأنها انطلقت من تشخيص دقيق للداء وتحديد مماثل في الدقة للدواء ، فالمثقف هنا مارس دوره كمحرض للمجتمع ، واستعمل قلمه ليس لاظهار مقدرته الابداعية ، او استعراض عضلاته العلمية ، بل للتعبير عن حاجات الناس .
ولابد من افتراض ان مثل هذه المعالجة على بساطتها ، هي احد الاساليب الفضلى لتجسير الفجوة بين اهل العلم وعامة الناس ، هناك بطبيعة الحال عشرات من القضايا ، هي هموم قائمة لاكثرية الناس ، بعضها نظري واكثرها عملي ، تمثل ميدانا يستطيع المثقف من خلاله التدليل على الفائدة الحقيقية للعلم ، بدل التحويم حول الخيالات والرموز أو الدعوة الى الاحلام .
نشر في (اليوم) الاحد 30 ـ10ـ 1994

24/10/1994

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !



أصبح تقليديا القول بان الاسلام قد خص العلم وأهل العلم ، بالمكانة الارفع في سلسلة المراتب الاجتماعية ، وتعارف المسلمون على هذا المفهوم ، حتى استحال ثابتا من ثوابت العلاقات الاجتماعية .

لكن المسلمين ـ مع هذا ـ بين اقل شعوب العالم ، استفادة من العلم واستثمارا لنتائجه ، في شئون حياتهم المختلفة ، وتدل احصائية نشرتها اليونسكو قبل اعوام قليلة ، على ان نصيب الدول  العربية من انتاج الكتب ، يقل في مجموعه السنوي عن مثيله في معظم الدول المتقدمة ، كما توصل باحث لبناني في دراسة عن تجارة الكتاب في العالم العربي ، الى نفس الاستنتاج ، ولاحظ ايضا ان نسبة تفوق الثلث ، من الكتب التي تحتويها الاحصاءات الوطنية ، هي اعادة طباعة لكتب قديمة ، ويؤيد هذا المنحى استطلاعات نشرتها الصحف عن معارض للكتب ، اقيمت في اربع عواصم عربية ، خلال عامي 1988 و 1989 ، تضمنت تصريحات للناشرين ، تشير جميعها الى ان الكتب التي تحظى باكبر قدر من المبيعات ، هي الكتب التراثية على اختلاف موضوعاتها وانواعها .

وباستثناء الكتب المدرسية وكتب الدعاية الرسمية ، فان ايا من الكتب التي صدرت باللغة العربية في الاعوام الاخيرة ، لم يتجاوز توزيعه بضعة الاف ، ولم نسمع عن كتاب وصل توزيعه الى المائة الف نسخة ، اما في الغرب فان بعض الكتب تطبع لاول مرة ، بما يجاوز هذا الرقم ، ولدي معلومات عن كتب طبعت نصف مليون نسخة .

ويرجع هذا التباين بيننا وبين الغرب ، الى الفارق في مستوى التعليم ومستوى المعيشة ، فضلا عن الصعوبات السياسية ، التي تحول دون انتشار المصنفات الفنية ، وهذه وغيرها ناتجة بدروها عن عدم تحول العلم الى جزء من الحياة اليومية لمعظم الناس في بلادنا.

واذا كنت ممن اتيحت له زيارة اي قطر اوربي ، فلابد انك شاهدت مدى اهتمام الناس بالمعرفة ، فهم يستثمرون اي وقت يحصلون عليه في القراءة ، في القطار او الباص او على مقعد في الطريق فضلا عن المنزل ، وهذا هو السبب الذي يجعل صحيفة يومية توزع مليون نسخة في اليوم ، رغم انها ليست وحدها في الميدان ، فثمة عشرات اخرى غيرها ، يوزع بعضها مليونا ويوزع بعض آخر نصف هذا الرقم او ثلثه .

ان الثقافة والعلم لايزال على رغم انتشار التعليم في العالم العربي ، حرفة اقلية من العرب ، بينما يشك اكثر الناس في جدواها ، أو على الاقل في قدرتهم على استنباط فائدة منها . واتذكر بهذا الصدد حادثة قديمة عميقة المعنى ، شهدتها قبل عقدين من الزمن ، كنت اتشاغل بتصفح ديوان شعر جديد للشاعرة العراقية نازك الملائكة ، ريثما يحين دوري عند احد المصورين ، وعندما وصلني الدور نظر المصور من فوق نظارته متسائلا : ما هذا ؟ واشار الى الكتـاب ، فاجبته بانه ديوان شعر ، فقال مستهجنـا (يوكل خبز ؟) اي  هل يطعم خبزا ؟ اجبته ضاحكا : يوكل علم ... قال : يعني مايفيد.

ليس غريبا بعد هذا ان تعقد المؤتمرات ، وتلقى الخطب والمحاضرات ، في الشكوى والتحذير مما يطلق عليه الغزو الثقافي والغزو الاعلامي ، والغزو الاخير مصطلح ابتكر خصيصا ، لمناسبة انتشار الاطباق اللاقطة للقنوات التلفزيونية الاجنبية .

ـ لماذا نشعر بالقلق من الثقافة الاجنبية ؟
ـ اليس لما عندنا من ارضية خصبة تستقبل الغث والسمين ؟
ـ واليس هذا بسبب الفراغ الثقافي الكبير الذي نحن فيه ، والا فما الذي يجعلنا في قلق من امرنا ، ولانجد مثل هذا القلق عند المجتمعات المصدرة للثقافة ؟ .

لقد مضى على قيام التعليم الحديث في العالم العربي نحو قرن من الزمن ، وثمة عشرات الالاف من الناس يتخرجون من الجامعات كل عام ، ولازلنا ـ مع ذلك ـ نحتاج الى الخبرة الاجنبية في كل مشروع جديد ، وفي اي مخطط للتطوير ، ثم ـ من بعد ذلك ـ نرفع اصواتنا بالشكوى من مظاهر الغزو الخارجي لمجتمعاتنا .

هل نتخلى عن سعينا لتطوير حياتنا مع مايتطلبه هذا من استيراد للخبرات والمعارف ؟ ام نتحمل ـ بالرضى او القهر ـ النتائج المترتبة على خيار التطوير ، لابد لنا ان نختار ، ولابد لنا ان نختار مواجهة التحدي ، لان الحياة لاتقبل التوقف او النظر الى الوراء .

مواجهة التحدي تعني ان نتعلم ما استطعنا من الاخرين ، وان نسعى في الوقت نفسه لمعالجة الاسباب ، التي تجعلنا عاجزين عن الوفاء بحاجاتنا ، مضطرين الى التطلع لما عند الغير .
ان قصورنا العلمي هو مايجعلنا مهددين بالغزو الثقافي والغزو الاقتصادي ، وكل انواع الغزو الاخرى ، وهو ايضا مايجعلنا عاجزين عن التحرك الحثيث ، نحو مهماتنا الوطنية الكبرى ، من تصحيح مسارات الحياة الاجتماعية ، الى الاكتفاء في ميدان الانتاج الصناعي ، الى تطوير الامكانات القائمة في مجال الغذاء ، فضلا عن ضمان استمرار القدر المعقول من اسباب الحياة الكريمة ، اذا لم نطمع في بلوغ قدر من الرفاهية لعامة الناس ، مشابه لما هو موجود في دول العالم الاخرى الغنية .

ويقتضي هذا اعادة نظر في الاسباب ، التي ادت الى التباعد الفعلي بين عامة المواطنين العرب وبين الممارسة العلمية ، اني اتحدث بالتحديد عن اهتمام عامة الناس بالعلم ، لان خاصتهم مهتمون فعلا ، لكن هذا الاهتمام ـ كما راى المرحوم مالك بن نبي قبـل ثلاثـين عاما ـ لايجدي فتيلا ، فما الذي يستطيعه رئيس عالم اذا كان اعوانه اميين .

نستطيع البداية بالمدرسة ، فالاهتمام المبكر بالشبيبة ضمان لانتظام الجيل الاتي ، وهذا مشروط بتمكين طلاب المدارس ، من قراءة اي شيء خارج المنهج الدراسي ، بتخفيف العبء الدراسي المرهق ، وبوضع منهج توجيهي خاص لتشجيع الطلاب على القراءة الخارجية.

وحسب تجربتي الشخصية الراهنة ، فلا ارى اي مجال للطلاب لكي يقرأوا شيئا خارج المقررات ، بل يعز علي ان أرى اطفالي الذين اعتادوا تخصيص وقت للقراءة ووقت للهو ، وقد اصبحوا سجناء للمذاكرة والواجبات التي لاتنتهي  ، وهذا وضع لا اظنه صالحا او مفيدا في تطوير قدرات الطالب الذهنية او تعويده الاستراحة الى الكتاب ، خاصة مع الطريقة العجيبة التي يتبعها معظم المدرسين ، في اجبار الطالب على حفظ النصوص بدل فهمها واعادة انتاجها بلغته الخاصة .

اما الخطوة الثانية فهي جعل العلم ـ على اختلاف فروعه وموضوعاته ـ مرغوبا من عامة الناس ، قريبا من مجالات حياتهم الاعتيادية ، وهذا يقتضي اعادة النظر في بعض التقييمات التي اكل عليها الدهر وشرب ، والتي يحتاج البحث فيها الى مجال اوسع ، فلنتركها  لمقال قادم بعون الله .
نشر في (اليوم ) 24-10-1994

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...