17/10/1994

حول المضمون القومي للصحوة الدينية



يقول المفكر الهندي المعروف وحيد الدين خان ان الصحوة الدينية المعاصرة ، هي في عمقها صحوة قومية ، وهي اتت كرد فعل على الاضرار التي لحقت بالاقطار الاسلامية ، من جراء العلاقة غير المتوازنة بينها وبين الدول القوية في العالم ، منذ بداية الحقبة الاستعمارية .


 وحسب مارأى وحيد ـ وهو مفكر بارز في حقل الاسلاميات ـ فان الحركات التي ظهرت في العالم العربي ، انما هي رد فعل المجتمع على الاحتلال اليهودي لفلسطين ، كما ان الحركات التي قامت في شبه القارة الهندية ، تكونت كنتيجة لتبلور الشعور بعدم الامان ، في ظل النظام الاجتماعي الذي يفرض سيطرة الاكثرية الهندوسية ، على ازمة الامور في البلاد .

ويعتبر وحيد الدين خان ، واحدا من اكثر المفكرين الاسلاميين اثارة للجدل ، بافكاره الجريئة والفريدة  ، ولاسيما الافكار التي عرضها خلال السنوات العشر الاخيرة ، ولذلك فان قليلا من الناس ، لاسيما بين النشطين في العمل الاسلامي سيوافق على هذه الفكرة الاخيرة ، مع انها كأي فكرة اخرى جديدة تستحق العناية والنقاش .


الشريعة والحركة
ويبدو لي ان الاساس الذي ينطلق منه وحيد ، هو التمييز بين الاسلام كشريعة ، والحركة الدينية كمشروع اجتماعي ، وهو يقول بهذا الصدد ان المنطلق الوحيد الذي يسمح لنا  باعتبار الصحوة دينية على وجه الحقيقة ، هو منطلق الايمان بانها امتداد للعمل التنويري والتحضيري الذي قام به رسول الله (ص) اي الايمان بان مهمة حمل الرسالة وابلاغها قد انتقلت الينا ، حسب فهمه للاية المباركة (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) .
وعلى خلاف ذلك ، فان الصحوة التي يتمحور مشروعها في صناعة نظام سياسي بديل في دولة من الدول ، او مصارعة قوة من القوى الاجتماعية او السياسية المنافسة ، ان هذه انما تنطلق من نقطة رد الفعل التي اشرنا اليها في السطور السابقة .

والتمييز الذي يعرضه وحيد بين الشريعة والحركة ، تمييز مقبول عند الاكثرية الساحقة من النشطين في العمل الاسلامي ، حيث لايجادل احد في ان المشروع الذي تطرحه الحركة الاسلامية ، هو محض اجتهاد في فهم النص الشرعي وتطبيقاته ، وفي تحديد العلاقة بين مقاصد الشريعة ومكونات المشروع او خطابه الاجتماعي ، وليس هناك من يدعي ـ حسب علمنا على الاقل ـ بان المشروع الفكري او الاجتماعي الذي يدعو اليه ، هو عين مرادات الخالق سبحانه وتعالى ، او انه هو الصورة الوحيدة الصحيحة للدين ، فالكل يرى نفسه مجتهدا يحتمل عمله الاصابة كما يحتمل الخطأ ، بل ان معظم العلماء من شتى المدارس الاسلامية ، يميلون ـ اليوم ـ الى ماكان يطلق عليه منذ تاسيس علم اصول الفقه بالتخطئة ، وهو اعتبار النتائج التي يتوصل اليها المجتهدون (محتملة الصحة) ، رغم ثبوت حجيتها شرعا ، بخلاف الاتجاه الاخر الذي اطلق عليه التصويب ، اي اعتبار نتيجة الاجتهاد (ضرورية الصحة) في كل الاحوال ، بل سببا لايجاد الحكم الشرعي كما يشرح الامام الغزالي .

مصدر الحرج
على ان القبول بهذا التمييز لايعني القبول بالفكرة نفسها ، فمعظم الاسلاميين يجد حرجا في اعتبار حركته رد فعل للخسائر الناتجة عن العلاقات الحرجة مع الغرب ، او نتيجة لتفاقم التهديد الخارجي ، بل على العكس من ذلك ، فان معظم العاملين في الحقل الديني ، يؤمن بانه يتحرك لايمانه بوجوب السعي لانجاز الاهداف الدينية ، ضمن اطار بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر او ضمن اطار الجهاد في سبيل الله ، وكلاهما من الواجبات التي ينبغي للمؤمن ان يقيمها باعتبارها فعلا ابتدائيا مطلوبا من المسلم ، لاباعتبارها رد فعل سياسي الجوهر يتغطى بالشعار الديني ويتوجه نحو الخارج بالدرجة الاولى ، كما هو فحوى كلام الاستاذ وحيد .

من ناحية أخرى فان فكرة الجوهر القومي في الصحوة ، تثير حرجا مصدره صعوبة المواءمة بين الايمان الديني والانتماء القومي ، ولوازم كل من الخيارين ، ان الاسلام ـ كما هو متفق عليه ـ لايعتبر الانتماء  القومي مصدرا للالتزام او قاعدة للتقييم ، بخلاف الايمان الديني  ، ويزيد الامر حرجا ان العلاقة بين دعاة الفكرة القومية ودعاة الفكرة الدينية ، في معظم المجتمعات المسلمة ، لم تكن حتى الان قائمة على الود ، ولذلك فان اعتبار الصحوة الدينية قومية في العمق ، سيثير الحرج عند الذين يؤمنون بوقوف القومية والدين على طرفين مختلفين ، على الرغم من ان مناقشة الاشكال ، ربما ساعدت على فهم اعمق للعلاقة بين المضمون الديني في الاطار الاجتماعي للحركة ، وبين المقومات المادية والتاريخية لهذا الاطار.

علاقة متكلفة
والذي نعتقد ان التمييز الذي يعرضه وحيد الدين خان ، بين المظهر الديني والجوهر القومي للصحوة الاسلامية ، ينطوي على شيء من التكلف ،  في اصطناع العلاقة بين الطرفين ، وثمة صعوبة في العثور على براهين قوية ، لاثبات صحة تفريقه الحازم بين المضمون القومي والمضمون الديني ، ففي عديد من الدول الاسلامية كان الكفاح ضد الاستعمار ، ينطلق من منطلقات دينية ، وكانت المحافظة على الهوية القومية جزءا من هذا الكفاح ، لالخصوصية ذاتية في الهوية القومية ، ولكن لكونها احدى رموز وحدة المجتمع ، وهي في الوقت ذاته الوعاء المتفق عليه لثقافة المجتمع وذاكرته التاريخية ، بما فيها الثقافة التي توفر الدوافع نحو استمرار مقاومة المستعمر ، ففي شمال افريقيا على سبيل المثال ، كان السعي للحفاظ على اللغة العربية ومقاومة الفرنسة ، جزء لايتجزأ من الجهاد للاستقلال ، وكان ذلك ضروريا لابقاء الهوية الاسلامية ، وثقافتها المحفوظة في الوعاء اللغوي العربي فعالة ، في منع محاولات اختراق المجتمع وضرب التوجهات الاستقلالية داخله ، اما في شبه القارة الهندية ، فان الشعور القومي الذي اقام باكستان ، في اواخر النصف الاول من هذا القرن ، لم يكن سوى الاسلام بذاته ، فقد جرى اعتباره مجسدا لتمايز قومي ، بين الاقلية المسلمة والاكثرية الهندوسية في شبه القارة ، اي مبررا لقيام دولة قومية مستقلة .

ونستطيع القول ـ كخلاصة ـ ان الاسلام كما يفهمه معظم ابنائه ، ليس ايمانا مجردا عن اطاره الاجتماعي او التاريخي ، بل هو متجسد بصورة ما ، في تفاصيل حياة المجتمع المسلم ، يلعب دوره كناظم للحركة الاجتماعية حينا ، وكأطار لها حينا آخر ، وهو يوفر في كل الاحوال المادة الثقافية والروحية ، الضرورية لتعبئة امكانات المجتمع ، في سبيل حياة امثل واكثر انسجاما مع طموحاته .

نشر في (اليوم) 17/10/1994

10/10/1994

من طموح التغيير الى الحرب الاهلية


قريبا من هذا الوقت من العام المنصرم سئل الشيخ محفوظ النحناح ، السياسي الجزائري المعروف ، عن طريق الخروج من الدائرة الدموية التي سيطرت على الجزائر ـ وكانت الازمة بين الاسلاميين والجيش في ذروتها ـ فأجاب باختصار (كفوا ايديكم واقيموا الصلاة) .

 فحين يتحول الجدل السياسي او الفكري الى حرب اهلية تسيل فيها الدماء انهارا ، فالحل الوحيد هو ان يتوقف الجميع  عن اراقة الدماء ، او البعض ان لم يقبل البقية ، وان ادى الى فنائه ، ولم يكن الامر موصلا الى هذه النتيجة على وجه التاكيد ، فخروج المصارع من الميدان مغلوبا ، لكنه غير متورط في دماء المسلمين ، خير له وانجى من ان يسير الى النصر عبر بحر من الدم ، لايدري اي بعض منه اريق عدلا واي بعض اريق ظلما .

لربما كان الشيخ ـ مثل اكثر المؤمنين الاخرين ـ تواقا الى رؤية الشريعة الاسلامية حاكمة في بلاده ، مسيرة لامورها ، على يده كان تحقيق هذا التحول التاريخي ، او على يد آخرين من دعاة الاسلام ، لكن هذا الهدف الغالي لاينبغي ان يتحقق عبر نفق من الويلات والمصائب .
 ان بلوغ الهدف ولاسيما في مرحلة الكمال المأمول ، يبقى حتى يوم تحققه الفعلي ضمن دائرة المحتملات ، أما الدماء الغزيرة التي يسيلها الصراع من يوم شروعه وحتى يوم حسمه ، فهي نتائج متحققة وفعلية ، انها ايضا دماء المسلمين  المشاركين في الصراع ، بلا فرق بين اولئك الذين شاركوا عن وعي بموضوعه ومؤدياته ، وبين الذين جرجروا اليه قسرا او اضطرارا .

ثمن الهدف
يعتقد بعض الناس ان الاهداف الغالية تستحق انهارا من الدماء تسال لانجازها ، وربما تعاطف اهل الحماسة مع هذا التصوير ، سيما اذا ارتسمت في اذهانهم صور التناقض الشديد ـ الحقيقي او المصطنع ـ بين ماهو واقع في حياتهم ، وما يتصورونه من كمال مطلق في ظل دولة الفكرة المأمولة .
لكن المشكلة ليست في هذا الثمن الغالي ، فلعل هناك الكثير ممن لايمانع في ان يدفع ويضحي ، المشكلة فيما يلي الدخول في حلقة الدم ، حيث الخروج منها ليس بسهولة الدخول فيها ، وحيث تتمدد آثار الصراع على شكل تعقيد في النسيج الاجتماعي ، من مظاهره سيادة الخوف والشك وانعدام الثقة والامان ، وتراجع احتمال الخير من الاخرين وازدياد احتمال الشر والسوء ، وانتشار التفسيرات المتشائمة او المشككة لكل حركة من حركات من يصنف بانه طرف آخر ، واستحسان عقلية التآمر ، بدل عقلية التعاون ، وبصورة عامة انعدام حالة التوافق والتراضي ، التي تؤسس للمحبة واالشراكة بين فرقاء المجتمع المختلفين ، اي استبدال السلام الاجتماعي القائم على شعور كل طرف بالحاجة الى الاخر ، بتوازن القوى القائم على بديل نقيض ، هو سعي كل طرف للاستقلال والاستغناء بامكانياته عن الاخر ، اي تحول المجتمع الى مجتمعات متعددة وان جمعتها ارض واحدة .

وعلى صعيد المعيشة يؤدي انعدام الاطمئنان المترافق مع ظرف الانقسام ، الى تعطيل العديد من عناصر الحركة التقدمية في الحياة ، فالخوف على المستقبل او الخوف من التقلبات السياسية يؤدي الى تباطؤ النشاط الاقتصادي ، ويعيق الاستثمارات الكبرى الضرورية للنمو والرفاهية ، كما يختزل الحياة الثقافية في الصراع اللفظي والخطابي بدلا من النشاط العلمي ، ويقلص مساحة الاعتدال في المجتمع لصالح التطرف على كل صعيد.

وثمة بين الطامحين من لايهاب المغامرة ، حيث يوفر ظرف الانقسام هذا لبعض الناس  فرصة الارتقاء الاجتماعي السريع ، مما لايتحقق بنفس السهولة في المجتمع المتوحد المتوافق ، فهو من هذه الناحية سبيل الى تبديل في توازن القوى الاجتماعي ، ليس لصالح الاكفاء بل لصالح الاقوياء والمغامرين .

هذه النتائج المأساوية هي التي توفر المبررات للتساؤل الملح عن ثمن الانجاز ، اذ يحكم العقل الطبيعي بفساد الصفقة التي تكلف مايزيد عن المكاسب المرجوة منها ، ونحن في اي نشاط حيوي انما نتعقب مصاديق المصالح التي يتعارف عليها العقلاء ، كما نتجنب المفاسد ، فهل يستحق السعي الى الهدف المنظور كل هذا الثمن؟ .

  سيجيب العديد من الناس بان اسلمة الدولة يستحق فعلا هذا الثمن وما هو اعلى منه ، وهو صحيح على افتراض ان الوصول الى الهدف بكماله المأمول مؤكد او هو ضمن دائرة الاحتمالات الغالبة ، ثم انه قد يعتبر صحيحا اذا ثبت انحصاره في هذا السبيل دون غيره ، اما اذا كان المتحصل دون مستوى الكمال ، كما يظهر من بعض التجارب السابقة ، او مع وجود سبل أخرى لايترتب عليها تقديم الخسائر الباهضة ، فان القبول بخيار الصراع المسلح والانجرار من ثم الى الحرب الاهلية ، يصبح مغامرة غير عقلانية .

اخلاقيات الاختلاف
في سبيل الارتقاء الحضاري فان الحاجة ماسة الى جو متوتر في النطاق العلمي ، يتحقق بتوفير الحرية والاعتبار الاجتماعي للباحثين واهل العلم ، وهذا يختلف اختلافا بينا عن التوتر في النطاق الاجتماعي ، اي التنازع بين القوى الاجتماعية على المكانة والنفوذ ، لاسيما اذا كان ثمة امكانية لبعض هذه القوى لتحويل النزاع من مستواه السلمي الى المستوى العنيف والدموي .

ومن المؤسف ان معظم مجتمعات العالم الاسلامي والعالم الثالث عموما ، هي من هذا النوع من المجتمعات التي لاتفصل بين الجدل الفكري والصراع الاجتماعي ، ولاتفصل بين حق الانسان في التفكير والتعبير عن الراي ، وبين موقعه ضمن نظام العلاقات الاجتماعية ، فما ان يبدي احد ، شخصا او جماعة ، رايا مخالفا لشخص آخر أو لجماعة اخرى ، حتى يتنادى هؤلاء الى تصنيفه ثم مجابهته ، ليس بمناقشة ارائه ودحضها امام الملأ ، بل بعزله والسعي الى تحطيم شخصيته .

في كل النزاعات فان الالتزام التام برعاية الاسس التي يقوم عليها المجتمع ، واولها بقاؤه جماعة واحدة موحدة ، ورعاية حقوق الافراد الاساسية ، هو الميزان الدقيق لتقييم  النشاطات العامة ، وهو السبيل لتشخيص صلاحية القوى الفاعلة على الصعيد الاجتماعي ، وتمييز المخلصة منها عن الانتهازية او الجاهلة ، ان هذا الالتزام هو مانسميه التراضي والتوافق الاجتماعي ، وهو الذي يضمن وقاية المجتمع من الانزلاق الى دوامة الشك والفتنة .

نشر في (اليوم) 10-10-1994

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...