16/12/2020

في انتظار عيد الميلاد المجيد


الاسبوع الاخير من العام الميلادي هو الاسبوع العالمي للسعادة والسرور. المسيحيون يحتفلون بذكرى ميلاد السيد المسيح ، وغيرهم ‏يحتفل بالعام الجديد.  وبقية الناس يتفرجون على هذا الحراك البهيج ، مسرورين بهذا المهرجان الكوني.‏

أنا واحد من اقلية صغيرة على مستوى  العالم ، اختارت هذه المناسبة على وجه الخصوص ، كي تشغل نفسها بتكرار الجدل القديم الذي عنوانه‏: هل يجوز تهنئة النصارى بيوم الميلاد وسائر الايام التي يتخذونها مناسبات للسعادة العامة؟

اني واثق تماما انكم ستسمعون من يذكركم بهذه المسألة العتيقة في الأسبوع القادم. هذه عادة ابتدعناها ثم استأنسنا بتكرارها في نهاية كل عام. وقد زاد التأكيد عليها خلال نصف ‏القرن الأخير ، حتى بات الواحد منا يظن ان أسلافنا ماكان يشغلهم شيء في مثل هذه الأيام ، سوى التاكيد مجددا على الحدود الفاصلة ‏بينهم وبين جيرانهم المسيحيين.‏

أما الداعي لهذا الحديث ، فهو رغبتي في دعوة القراء الاعزاء للتخلي عن هذه العادة التي رسختها نزاعات السياسة ،  حتى غدت دينا او شبه دين.

والصحيح ان العلاقة بين بني آدم ليست مسألة دينية على الاطلاق. بل هي مسألة اخلاقية بسيطة ، يدرك كل العقلاء موقعها من سلم القيم وحكمها الأخلاقي. كلنا نفهم بالفطرة ان الله خلق البشر كي يتعارفوا ويتعايشوا بالمعروف. وحين يكون جارك مختلفا عنك ، فالاولى ان تداريه وتحسن اليه ، مهما كان دينه او عرقه او لونه. واذا كان عدوا  لك ، فسوف تتباعد عنه كي تتلافى الصدام معه. هكذا يأمر العقل وهكذا يتصرف العقلاء.

ومع وضوح المسالة وكونها من البديهيات ، فليس ثمة حاجة لحكم شرعي. بل لو حكم الشارع فيها على نحو المنع  او الالزام ، لكان تكلفا وقولا زائدا في غير ضرورة. ولو جاء بخلاف حكم العقل ، لانكر العقلاء صدوره عن خالق العباد ، الذي جعل العقل حجة عليهم.

كنت قد أثرت هذه المسألة في وقت سابق ، فسألني قاريء عزيز: اذا كان الامر بهذا الوضوح ، فلم اجتمع الكثير من قومنا عليه؟.

وقد اخبرته يومها ان القائلين بذلك الرأي الغريب أقلية على مستوى العالم. ثم ان التشارك العاطفي جزء من فطرة الله التي فطر الناس عليها. لهذا ترى ان الانسان ينفعل بشكل عفوي ، حين يرى الفرح او الحزن على وجوه الآخرين ، حتى لو لم يعرفهم. بل ان اظهار الشماتة او الفرح في أحزان الآخرين ، ومثله اظهار الحزن في افراحهم ، يعتبره كافة العقلاء علامة للضعة وسوء الخلق ، لأنه نقيض الفطرة والطبيعة الخيرة.

والذي اميل اليه ان ذلك الميل لاستنكار المشاركة في افراح الاخرين واتراحهم ، الدينية منها والدنيوية ، جزء من توجه أوسع محوره الانكفاء على الذات خوف التأثر بالغالب.

زبدة القول ان تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد ، وتهنئة بقية الناس براس السنة الميلادية ، ليست مسألة شرعية ، ولايتعلق بها حكم شرعي ، حتى القول بانها حلال. ولذا فهي ليست مما يطلب فيه رأي الفقيه. ولو سئل وأجاب فجوابه ليس فتوى ، بل حديث في موضوع عام ، لايحتمل الالزام ولا التحريم.

اني أرى في مشاركة الاخرين افراحهم سببا لتعميم السلام والسعادة في الكون. ولذا ادعو كافة القراء الأعزاء لتهنئة معارفهم من غير المسلمين ، في اعيادهم ومناسباتهم ، والتخلي عن تلك العادة التي لايقبلها العقل ولا تنسجم ودواعي الفطرة السليمة.

الشرق الاوسط الأربعاء - 2 جمادى الأولى 1442 هـ - 16 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15359]

https://aawsat.com/node/2685156

مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

ان تكون مساويا لغير: معنى التسامح

بل التقارب قائم ومتواصل بين السنة والشيعة

تجريم الكراهية

التسامح وفتح المجال العام كعلاج للتطرف

التعايش أو التقارب.. طريق واحد

تعزيز التسامح من خلال التربية المدرسية

ثقافة الكراهية

 حقوق الانسان في المدرسة

سؤال التسامح الساذ: معنى التسامح

فرصة لتطبيق ما ندعو اليه

فلان المتشدد

في التسامح الحر والتسامح المشروط

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في بغض الكافر

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

وجهات "الخطر" وقهر العامة

 

09/12/2020

الحق الواحد والحق المتعدد: هل تراه معقولا؟

 

اشرت في مقال الأسبوع الماضي (وفي مقالات سابقة أخرى) الى مفهوم تعددية الحق. ولاحظت ان بعض القراء الأعزاء انزعج مما ظنه مساواة بين الدين واللادين ، بينما خلط آخرون بين التعددية والنسبية ، او افترضوا ان للمفهومين معنى واحدا.

ويسعدني جدا ان تلك الكتابات المتواضعة ، قد شجعت النقاش في قضايا وثيقة الصلة بما ندعوه "الرؤية الكونية" أي المفهوم الكلي للذات والعالم الذي يوجه تفكير الانسان وتعاملاته وتطلعاته.

ولن استغرب لو عارض اكثر الناس المنظور التعددي ، فنحن أبناء ثقافة أحادية ، تعامل الاجتهاد المختلف كانحراف عن الجادة لا كاحتمال قد يخطيء او يصيب. ولذا سأحاول توضيح مفهوم التعددية باختصار.

تنطلق التعددية الفكرية من فرضية ان للحقيقة وجوها عديدة ، بعضها جلي وبعضها غامض او مستور. ونحن نرى الواضح ، فنتخذه دليلا على المستور. لتوضيح الفكرة نستعير المثال التالي من الاستاذ مصطفى ملكيان: دعنا نفترض ان 100 شخص شاهدوا فيلما قصيرا يبلغ خمس دقائق. وكان واضحا في القصة وفي الصوت والصورة والألوان. لو سالت هؤلاء في نهاية الفيلم عن موضوعه ، فان 90 بالمئة سيتفقون على راي واحد او ربما رايين.

دعنا نفترض الان حالة مختلفة: فيلم طوله ساعة لكن بدايته ونهايته وبعض اجزائه الاخرى مقطوعة او مشوشة ، وكان الصوت غير واضح تماما في هذه الاجزاء. لدينا اذن نصف فيلم واضح تماما ونصف آخر مشوش. فلنسأل المشاهدين في ختام الفيلم عن قصة الفيلم وموضوعه ، فماذا تتوقع؟

ربما 100 رأي مختلف ، وربما 50 رأيا مختلفا ، لكن بالتأكيد ليس اقل من هذا.

نحن نفكر في العالم الذي أمامنا ، من أجل ان نطبق عليه فكرة او قيمة او رؤية ، او كي نقارنه بمثال ، أو كي نصفه ونفسر أحواله ، فما الذي نراه في واقع الأمر؟

لو كان عالمنا هو الفيلم ذي الخمس دقائق ، لما اختلفنا في ادراك حقيقته. لكن يا للأسف. ليس الامر على هذا النحو.

عالمنا هو ذلك الفلم الطويل ، الذي نصفه واضح ، ونصفه الآخر مستور وغامض. سوف نحاول دائما الاستدلال بما نراه على ما لا نراه. سنحاول فهم المستور استنادا للظاهر. لكن هل سيتوصل جميعنا الى نفس التفسير؟

اذا لم تكن واثقا من الجواب ، فخذ مسألة من مسائل التاريخ التي درسناها جميعا في المرحلة المتوسطة ، واسأل 10 اشخاص عما جرى فيها ولماذا. انا اضمن انك ستسمع 5 آراء مختلفة على الأقل ، مع اننا جميعا درسنا نفس القصة في نفس الكتاب.

معظم القضايا الكبرى مركبة. وهي تنطوي على قدر من الغموض ، فلاتكشف نفسها لكل ناظر الا بقدر. حين تنظر هذا العالم سترى شيئا بعينك او عقلك ، وربما تستعين بعقل ابيك او استاذك ، ستحاول تأليف فكرة تقيم معنى وقيمة لما تراه ، او ربما تطبق عليه معنى موجودا في موروثك الثقافي.

سيفعل الشخص الاخر نفس الشيء ، وسيفعل عشرات الناس كذلك.

فأيهم يا ترى أصاب الحقيقة وايهم اخطأها ، ام ترى كلا منهم أصاب جانبا من الحقيقة وليس كلها.

افترض انك نفيت صحة كل الآراء سوى واحد (ربما لانك افترضت ان الله امرك بهذا) فماذا لو كان موضوع الآراء المتعددة هو امر الله نفسه: كيف ستنفي بعضها مع احتمال ان يكون بينها احتمالات صحيحة.

ان الطريق الوحيد لضمان الانصاف ، هو احترام جميع الآراء باعتبارها احتمالات ممكنة ، لكن دون التزام او الزام بأي منها. انت تحترمها وربما تناقشها كآراء ، لكنك تلتزم - ان شئت – بما تظنه ايسر او أكثر توفيرا للاطمئنان. وهذا ما يفعله كل عاقل.

الشرق الأوسط الأربعاء - 24 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 09 ديسمبر 2020 مـ رقم العدد [15352]

https://aawsat.com/node/2671806/

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...