21/10/2015

كي لا يمسي الخيال دليلا في السياسة

 

تدور مشكلات السياسة كلها تقريبا حول عامل "الندرة". هناك على الدوام مطالب وحاجات متزايدة ، في مقابل امكانات محدودة كما ونوعا. ولا يمكن للمحدود ان يستوعب اللامحدود. بل ليس من المتوقع ان يصل البشر الى يوم يشعرون فيه بالاكتفاء وعدم الحاجة. منطق الحياة يقول ان كل حل يكشف عن مشكلة جديدة ، لم تكن منظورة قبله. ولهذا فان عمل الحكومة لا يدور حول تلبية الحاجات جميعا ، بل عقلنة التبادل بين الحاجات الراهنة والامكانات المتاحة او القابلة للاستنباط في المدى المنظور.

صمويل هنتينجتون

عقلنة التبادل تعني ببساطة ايجاج نظام توافقي ، اي مقنع للجمهور ، بأن مصالحهم تدار بشكل منصف ، وان ما يحصلون عليه ، ولو كان اقل من مطالبهم ، فهو متناسب مع الامكانات المتاحة ، وأن أحدا لا يستأثر بنصيب الاسد ويرمي اليهم الفتات. هذا يتطلب ان يكون الجمهور جزء من النظام وليس مجرد مستمع سلبي لما تقرره النخبة السياسية. نحن إذن نتحدث عن  نظام مؤسسي لادارة المصالح العامة يضمن تفاعل الجمهور ، ويعزز الثقة المتبادلة بينه وبين الدولة ومساهمته في حل مشكلات البلد.

استأثرت هذه المسألة بنصيب كبير جدا من نقاشات علم السياسة. وسوف أعرض هنا رؤية صمويل هنتينجتون ، المفكر الامريكي البارز ، الذي عرفه العرب من خلال مقالته المشهورة حول صراع الحضارات )1993). لكنه قبل ذلك وبعده يعد واحدا من اهم منظري التنمية السياسية ، وله تنظيرات عميقة حول عملية التحديث في الدول النامية ، أثارت الكثير من الجدل ، لكنها تعتبر اليوم من النظريات المرجعية في بابها.

انشغل هنتينجتون بموضوع محدد هو انعكاس التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى على بنية النظام الاجتماعي ورؤية المجتمع للدولة. ورأى ان تلك التحولات تطلق دائما امواجا من التطلعات والتوقعات المتفائلة ، التي لا يمكن تحقيقها في مدى زمني معقول. فشل الدولة في تحقيق تلك التطلعات ، سوف يؤدي الى هيمنة الاحباط والقنوط على نفوس الناس ، الأمر الذي يوجد أرضية للدعوات المتطرفة والدوغمائية التي تعد الشعب بحلول سحرية أو غيبية.

وأستذكر لهذه المناسبة حديثا اجريته مع عدد من الشباب بعد محاضرة طويلة لأحد العلماء حول "حكومة الامام علي بن أبي طالب". سألت اربعة منهم عما إذا كانت الأساليب التي اتبعها الامام في زمنه كافية لحل مشكلاتنا الحاضرة ، فأجابوا جميعا بالموافقة. ثم سألت المحاضر نفسه فأجاب بالنفي ، موضحا ان لكل زمن مشكلاته والحلول المناسبة لظرف المشكلة. وأظن ان جواب الشبان الاربعة يمثل رأي شريحة واسعة جدا من الجمهور العربي ، الذي يشعر بالاحباط ازاء تراكم المشكلات وتطاول الزمن عليها ، الأمر الذي يدفعهم للبحث عن حلول مستندة الى ذاكرة تخيلية ، تقدم لهم احداث الماضي معزولة عن ظرفها الخاص.

زبدة القول ان فشل الادارة في تحقيق تطلعات الجمهور ، قد يؤدي مع مرور الوقت ، الى انتشار النزعات المتطرفة التي تتخيل حلولا سحرية او حاسمة ، مستندة الى مخزون تراثي يقدم صورة متخيلة عما جرى في ماضي الزمان.

يقترح هنتينجتون اربعة معايير لتحديث الادارة العامة ، على نحو يمكنها من اقامة علاقة تفاعلية وبناءة بين المجتمع والدولة. المعيار الاول هو عقلنة الادارة بمعنى اخضاع جميع اعمالها لقانون واحد ، وتحديد مقاييس ثابتة لقياس الانتاجية وكفاءة الاداء. المعيار الثاني هو استهداف تعزيز مبدأ المواطنة ، اي الغاء التمايزات القائمة على اي أساس غير المواطنة المتساوية ، وصولا الى التحقق الكامل لمبدأ الدولة الوطنية ، الهدف النهائي للتنمية. المعيار الثالث هو توسيع الممارسة الديمقراطية ، بمعنى ان يكون القرار الرسمي انعكاسا لارادة الجمهور. المعيار الاخير هو تعزيز حركية المجتمع وميله للمشاركة في الشأن العام والتنافس على الفرص المتاحة في المجال العام ، بما يعزز دور المجتمع كصانع لحياته ومستقبله وليس مجرد منفعل بسياسات الدولة.

الشرق الاوسط 21-10-2015

http://aawsat.com/node/479216

مقالات ذات علاقة

نبدأ حيث نحتاج

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

كي لا يمسي الخيال دليلا في السياسة

المطالب الشعبية والنظام العام

شبكة الحماية الاجتماعية

عسر القانون كمدخل للفساد الإداري

 أم عمرو وحمار أم عمرو

 العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

 

14/10/2015

بدايات تحول في الازمة السورية


ليس في الافق حل سريع او سهل المنال للازمة السورية. لكن ثمة تحولات في المشهد لا ينبغي اغفالها اذا ما اردنا فهم مسارات الاحداث في الاشهر القليلة القادمة.
شهدت الاسابيع الثلاثة الماضية اربعة أحداث ، تشكل ما أظنه ابرز عناوين التحول في مسارات الازمة. لعل ابرزها هو التدخل العسكري الروسي ، ثم اعلان وزير الخارجية السعودي انفتاح الرياض على مبدأ المفاوضات مع بقاء بشار الاسد خلال فترة انتقالية محددة المدة ، واعلان الولايات المتحدة انزال خمسين طنا من الذخيرة والسلاح لقوات معارضة "صديقة" في الحسكة شمال سوريا. وأخيرا الانفجار الدموي في العاصمة التركية انقرة ، الذي ذهب ضحيته نحو 100 مدني.
الخطوتان الروسية والامريكية تندرجان تحت عنوان واحد هو تعزيز الموقف الميداني للقوى الحليفة. كانت واشنطن قد فشلت في مشروع سابق يتضمن انشاء فرقة عسكرية عالية التدريب ، وبات موضوعا للتندر ، بعدما انكشف ان جميع اعضاء الفرقة سلموا انفسهم وسلاحهم لقوى اخرى ، باستثناء اربعة افراد.
ارسال الذخيرة والسلاح الى قوى المعارضة التي وصفت بالصديقة ، يعني ببساطة ان واشنطن قررت التعامل مع الساحة كما هي ، ومن دون شروط مشددة ، كما فعلت في الماضي. بمعنى آخر فان الهدف المباشر للولايات المتحدة قد تحول من "تصنيع" قوة جديدة ، الى "توضيب" قوى قائمة وتعزيزها ماديا وسياسيا ، كي تكون إطارا يجمع الأطراف التي تقبل بخياراتها السياسية.
التدخل العسكري الروسي يعمل على نفس المفهوم. فغرضه اقناع الجميع بأن حكومة دمشق هي خيار موسكو النهائي ، وهي التي ستتفاوض على مستقبل سوريا.
تصريح وزير الخارجية السعودي في موسكو عن انفتاح الرياض على حل تفاوضي بين الحكومة السورية ومعارضيها ، يشكل تطورا هاما في الموقف العربي. من المفهوم ان دولا ثقيلة الوزن مثل مصر والجزائر تميل الى هذا المبدأ الذي يتيح اقتسام السلطة بين الموالين والمعارضين. هذا يعني ان ابرز الدول العربية تقترب من توافق حول مبدأ الحل السياسي ، الذي يتضمن معالجة منفتحة للعقدة التي عطلت حتى الآن انعقاد مؤتمر جنيف-3 ، اعني عقدة بقاء الرئيس السوري بشار الاسد في السلطة خلال المرحلة الانتقالية.
يتسق هذا الاتجاه مع الموقف الذي اعلنه يوم الاحد الماضي وزير الخارجية البريطاني حول "امكانية" القبول ببقاء الاسد لفترة محددة ، مع نقل صلاحياته الى حكومة توافقية.
اما في تركيا فقد قالت الحكومة انها تشتبه بقوة في مسؤولية تنظيم داعش عن انفجار انقرة الذي يعتبر الاكثر دموية منذ زمن طويل. من الطبيعي ان يتبع هذا الهجوم موقف مختلف تجاه ما يجري في جارتها الجنوبية. ليس سرا ان الموقف التركي تجاه القوى المتشددة في سوريا ، بما فيها داعش ، لم يكن صلبا بما يكفي. وقيل احيانا انها ربما تنظر الى الجماعات الاسلامية المقاتلة كمعادل – ولو مؤقت – للقوة الكردية التي تنامت على حدودها الجنوبية بشكل مثير للقلق في العامين الماضيين.
ثمة على الساحة السورية عشرات من المجموعات المقاتلة ، بينها اربع او خمس قوى رئيسية. واظن ان واشنطن ستسعى لفرز يؤدي الى قيام تحالف سوف يضم اسلاميين بالتأكيد ، لكنه يستثني "المقاتلين الاجانب". ان الهدف المباشر لهذا المسعى هو تشكيل جبهة قادرة على تقديم التزامات سياسية حين تبدأ مفاوضات الحل.
هذه ليست مهمة سهلة. لكن توافق الاطراف الاقليمية على المبدأ سوف يدفع بالتوافقيين الى الواجهة ، مما يجعل الحل السياسي الخيار رقم واحد ، في ساحة عجزت حتى الآن عن تحديد ما تريد وما لاتريد.
الشرق الاوسط 14-10-2015

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...