البيروقراطية وسيلة لا غنى عنها لعقلنة
الادارة وتحويلها من سلطة شخصية تحكمية الى تجسيد لسلطة القانون. هذه هي الخلاصة التي توصل اليها ماكس فيبر ابرز
الاباء المؤسسين لعلم الادارة الحديث في كتابه المرجعي "نظرية التنظيم الاجتماعي
والاقتصادي".
لكننا الان نتحدث عن البيروقراطية باعتبارها رمزا للرتابة
وانعدام الابداع والتعطيل. هذا يكشف عن ان الشيء ونقيضه يمكن ان يجتمعا في الواقع
. او ربما يكشف عن امكانية انقلاب المعاني الراقية الى نقيضها حين تنقل المفاهيم
بطريقة القص واللصق ، اي نسخ الاليات والادوات من دون فلسفتها.
***
بين ابرز تطبيقات الادارة الحديثة نشير
الى تقسيم العمل ومنح الموظفين الصلاحيات المناسبة لاداء واجباتهم بصورة تامة بحيث
لا يحتاجون للرجوع الى رئيسهم في كل امر. نحن نعاني من علة حقيقية تتمثل في ان كل
موظف يعتبر نفسه مسؤولا عن كل شيء وفي الوقت نفسه مفتقرا الى صلاحية البت في اي
شيء ، فهو يراجع ما فعله الموظف الذي سبقه الى المعاملة رغم انه انه ليس مسؤولا عن
عمله ، ثم يحيلها الى المدير الذي لا يفعل شيئا سوى التوقيع . كان يمكن ان يقوم
الموظف الاول بانهاء المعاملة والتوقيع عليها طالما كانت مستوفية للشروط. واذا لم
تكن كذلك فقد كان يستطيع ببساطة مطالبة المراجع باستكمال المتطلبات ، وبهذا يوفر
وقت الجميع.
واذكر ان زميلا لي راجع بريد القاهرة
قبل سنوات لارسال بضعة كتب. يقول الزميل انه انفق يوما كاملا في التنقل بين
المكاتب ، وملأ ورقة كاملة بالتوقيعات والاختام ابتداء من توقيع موظف الوارد ثم
موظف التصدير والجمارك والثقافة والمالية والضرائب وبين كل اثنين هناك موظف ثالث
مهتمه التدقيق في عمل الموظف السابق حتى وصل اخيرا الى الموظف الذي مهمته وزن
الارسالية ولصق الطوابع عليها ومن بعده هناك طبعا المدقق والمدير وموظف الصادر. لا
ادري اذا كانت هذه الصورة الكاريكاتورية لا تزال موجودة الى اليوم ، لكنها مثال
واقعي على توزيع الاعمال دون توزيع متناسب للصلاحيات. ان الكلفة المالية للوقت
الذي انفقه مجموع هؤلاء الموظفين اضافة الى المراجع يبلغ اضعاف قيمة العمل الذي
انجز فعلا.
اذكر ايضا انني راجعت مسؤولا كبيرا
فوجدت على مكتبه رزمة ضخمة من الملفات ، وكان يفتح كل ملف ويوقع صفحته الاولى .
وحين انتهى بعد نصف ساعة تقريبا سألته عن فحوى هذه الملفات التي تتطلب توقيع مدير
في موقعه فاجاب بانه ينفق ما يعادل ساعتين كل يوم في التوقيع على مثل هذا النوع من
المعاملات التي يمكن لاصغر موظف في الوزارة انجازها ، لكن النظام يتطلب توقيع وكيل
الوزارة او من هو في مستواه.
في الادارة الحديثة يصنف الاداريون الى
ثلاث شرائح من حيث الفاعلية والانتاج : اداري ينفق وقته في الاعمال التي يقوم بها
في العادة موظفوه ، واداري يقوم بالاعمال التي يمكن تحويلها لموظفيه ، واداري يركز
جهده على الاعمال التي لا يمكن لمن هم دونه انجازها. فالاداري الاول فاشل تماما
والثاني معطل لعمل الادارة بينما الثالث هو المدير الناجح.
الموضة الجديدة في عالم الادارة هي تلك
المسماة بالنافذة الواحدة او المحطة الواحدة One-Stop Shop حيث
يقوم موظف واحد بانجاز المعاملة كلها دون ان يرجع الى غيره. وهناك ايضا مفهوم
الحكومة الالكترونية الذي يفترض انجاز المعاملات دون مراجعة الدوائر او اللهاث بين
المكاتب . وطبقا لتقرير في صحيفة بريطانية فان تطبيق هذا المفهوم قد وفر نسبة
معتبرة من نفقات التشغيل المعتادة في الدوائر التي اخذت به.
اظننا قادرون على التقدم تدريجيا في
هذا الاتجاه ، لكننا نحتاج قبل ذلك الى تيسير القانون وتوضيحه وفوق ذلك اعادة
النظر في فلسفته. يجب ان يكون غرض القانون هو تنظيم العمل والتيسير على الناس وليس
فقط سد الابواب امام العابثين . من بين ملايين الذين يراجعون الدوائر الحكومية
هناك اقلية صغيرة جدا تريد العبث بالقانون او الالتفاف عليه اما الاكثرية الساحقة
فهي تريد الالتزام به ، وليس منطقيا ان نعسر حياة الاكثرية من اجل اقلية لا تذكر.
ثم ياتي بعد ذلك التوزيع السليم للمهام والصلاحيات كي نجعل الادارة العامة حلالا
لمشكلات الناس لا عقدة في حياتهم.
عكاظ 11 يناير 2010