10/11/2008

اوباما : عودة امريكا الى حلم الانسان الاول



وصول باراك اوباما الى البيت الابيض هو دليل آخر على فضائل الليبرالية السياسية . يميز الليبرالية عن غيرها من المذاهب الفلسفية خيط دقيق هو ايمانها بان الانسان الفرد هو صانع مصيره . لدى كل فرد نوعان من الصفات ، موروث عن ابويه ومكتسب بجهده . لا يختار الانسان صفاته الموروثة مثل لونه وعرقه وجنسه ودينه وانتمائه الاجتماعي ، وقد لا يستطيع التحكم فيها . لكنه يستطيع اختيار صفاته المكتسبة مثل الارادة والمستوى العلمي والكفاءة التنظيمية والعملية والمقبولية الاجتماعية. في نظام اجتماعي ليبرالي يمكن للصفات الموروثة ان تلعب دورا مساعدا او معيقا في سعي الفرد الى الرقي والصعود في مدارج الحياة . لكنها جميعا ليست عوامل حاسمة. الصفات المكتسبة هي العامل الحاسم .

قبل اربعين عاما دعا زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر مواطنيه الامريكيين الى جهاد انفسهم الميالة للاستئثار واحتكار الحقوق والفضائل ، وطالبهم بالمشاركة في تحقيق الحلم الانساني الاجمل " المساواة بين الناس في الفرص والحقوق والمسؤوليات". كان همه يومذاك هو التمييز العنصري الذي يصنف السود والملونين كمواطنين من الدرجة الثانية .

 بعد مارتن لوثر كافح الافارقة الامريكيون من اجل فرص متساوية في السياسة والاقتصاد . المتفائلون والحالمون منهم راهنوا على الكفاح السلمي في ظل القانون ، انطلاقا من الايمان بان الليبرالية قادرة على تجديد نفسها واصلاح اخطائها. المتشائمون منهم قالوا ان الليبرالية  عاجزة عن تغيير ما في داخل الانسان من نزعات الاستئثار . لكن الذي ثبت اليوم هو حلم مارتن لوثر ، الذي فكر في كفاح سلمي وراهن على فضائل الليبرالية.

في اواخر القرن العشرين بدأت معالم التغيير تتجلى ، وكان ابرز مظاهرها تعيين كولن باول كاول امريكي اسود قائدا للقوات المسلحة الامريكية. رغم الصفحات الكثيرة السوداء في سجله ، سوف يذكر جورج بوش بانه الرئيس الذي قطع الميل الاخير في تحقيق المساواة العرقية ، فقد عين اثنين من السود في اعلى مناصب الادارة للمرة الاولى في التاريخ الامريكي: اختار كولن باول وزيرا للخارجية  وكوندوليزا رايس مستشارة لمجلس الامن القومي .

يمثل اوباما املا جديدا للشعب الامريكي في تلافي الاخطاء الكثيرة التي ارتكبتها ادارته السابقة وقادت الى المزيد من الحروب والمزيد من القلق ، والمزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية كما زادت ايضا من كراهية امريكا على امتداد العالم .

في ظل نظام سياسي ليبرالي يستطيع المجتمع تعديل توازنات القوة واتجاهاتها بصورة سلمية ، بل والى حد ما بصورة احتفالية. انتخاب اوباما ليس مجرد تغيير للرئيس بل هو اعلان عن تحقق الحلم الامريكي في اقرار تكافؤ الفرص وتجسيد التعدد والتنوع على المستوى السياسي كما هو على المستوى الثقافي والمادي ، الحلم بمجتمع يسمح بالتنافس الحر ، مجتمع تستطيع اكثريته ان تجعل ممثل الاقلية قائدا لها من دون ان تسيطر عليها هواجس الارتياب .

حتى يوم امس كان رمز امريكا رجلا ابيض هاجر اليها في القرن السابع عشر ، اما اليوم فان الذي يراس هؤلاء  شاب اسود من اب مسلم هاجر اليها في منتصف القرن العشرين . وبدأ حياته بين اقل الناس حظا ، ثم تغلب على صعوبات حياته الاولى حين اختار ان يصعد عبر الطريق الطبيعي الذي يسلكه ابناء الاقلية ، اي التفوق الدراسي . ثم اصبح ناشطا في السياسة عبر الحزب الديمقراطي ومنظمات المجتمع المدني حتى انتخب نائبا في الكونغرس ومن هناك مهد طريقه الى البيت الابيض.

في مجتمع ليبرالي يستطيع ولد فقير ان يصبح رئيسا للجمهورية ، لان الليبرالية لا تتوقف عند انتماء موروث ولا ثروة . الليبرالية هي الاطار الوحيد الذي يسمح لاي كان بالصعود من خلال الكفاح السلمي المدني وخدمة الاخرين والتنافس معهم .

امريكا التي اوجعت العالم واوجعت نفسها بالحروب والتهديدات والازمات والقلق ، جاهدت نفسها وجاهدت تقاليدها العتيقة فانتصرت على ذاتها وانتصرت على تقاليدها وجددت حياتها . كانت حياتها وهويتها احادية اللون وهي اليوم ملونة ومشرقة . امريكا لم تصبح الدولة الاعظم لانها الاغنى والاكثر تقدما في العلوم ، بل اصبحت اغنى واكثر تقدما لانها آمنت بالمساواة وحرية المبادرة وتكافؤ الفرص . هذا درس لكل المتشائمين من الكفاح السلمي ولكل المتحفظين على الليبرالية ولكل المتشككين فيها او الخائفين منها.

28/10/2008

حدود الديمقراطية الدينية : عرض كتاب


حدود الديمقراطية الدينية : عرض بقلم عمر كوش 
تأليف: توفيق السيف
الناشر: دار الساقي، بيروت، 2008

أضحت العلاقة بين الدين والديمقراطية موضوع دراسات ونقاشات عدَّة في البلدان العربية، نظراً لأن الديمقراطية باتت تشكل استحقاقاً لا يحتمل التأجيل، وتفرض نفسها على مختلف البلدان الإسلامية والعربية، إضافة إلى تأثير تيارات وحركات الإسلام السياسي في مجرى الأحداث الراهنة في العالم. وفي هذا السياق ينطلق مؤلف الكتاب من النقاش المستجد في منطقة الشرق الأوسط حول العلاقة بين الدين والديمقراطية، وإمكانية إيجاد نموذج ديمقراطي قادر على التفاعل مع الهوية الدينية للمجتمعات المحلية. ويحدد هدف كتابه في اختبار إمكان تطوير خطاب سياسي من هذا النوع، من خلال اتخاذ مدخل سوسيولوجي يركِّز على مدى التغيير الممكن في الفكر الديني كنتيجة لانخراط الدين في السياسة. ويتخذ من تجربة إيران بعد الثورة الإسلامية كموضوع اختبار لفرضياته، مع التركيز على التجربة السياسية للتيار الإصلاحي بين عامي 1997 و2004، بغية تحديد المبررات الموضوعية لفشل النموذج الديني التقليدي في الحكم، وظهور التيار الإصلاحي الداعي إلى الديمقراطية في السياسة، ونظام السوق الحرة في الاقتصاد.

ويقدم الكتاب كذلك صورة مقارنة عن الأيديولوجيا السياسية للتيار الديني المحافظ، ونظيرتها الإصلاحية التي تجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية- الليبرالية. كما يقدم تحليلاً مفصلاً للأسباب التي أدت إلى فشل النموذج الديني التقليدي ومهَّدت لظهور منافسه الإصلاحي، ومحاولة معرفة المواضع التي يمكن للإسلاميين أن ينجحوا في ممارسة السلطة فيها، والمواضع التي يفشلون فيها أيضاً، وذلك من خلال دراسة حالة محددة، تتجسد في كيفية تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية على المستوى الاقتصادي، والعلاقة بين الدولة والمجتمع.

ويعرض الكتاب موجزاً للعوامل التاريخية التي أثرت في تكوين الفكر السياسي الشيعي، ثم يناقش دور الخميني في تجسير الفجوة بين التشيع التاريخي والفكر السياسي المعاصر. كما يقدم صورة عن التحولات في بنية النظام والمجتمع الإيراني وانعكاسها على الثقافة والفكر الديني في السنوات اللاحقة للثورة الإسلامية. ثم يناقش التباينات الأيديولوجية الحادة بين التيارين المتنافسين على السلطة، الإصلاحي والمحافظ، وخلفيتها الاجتماعية والثقافية، وانعكاسها على مفهوم الدولة وممارسة السلطة عند كل منهما. ويعرض كذلك بعض المفاهيم الأساسية التي يدور حولها الجدل بين الفريقين، مثل مفاهيم الجمهورية، ومصادر الشرعية السياسية، ودور الشعب، سيادة القانون، وعلاقة الدين بالدولة. إلى جانب مناقشة التفسيرات التي يعرضها الإصلاحيون للعلمانية، والأرضية المرجعية التي يستند إليها كل من التيارين في أطروحاته، مع تقديم صورة عن الأحزاب الرئيسة الفاعلة في السياسة الإيرانية، بغية الإحاطة بالوضع الإيراني وتقديم قراءة دقيقة للقوة الشعبية التي تدعم الخطابين الإصلاحي والمحافظ، ومدى فاعليتها في المحافظة على زخمه.

ويهتم المدخل السوسيولوجي بالتمظهرات الاجتماعية للأفكار، ويسعى إلى اكتشاف العوامل البنيوية وراء تغيرها وتطورها، انطلاقاً من فرضية مسبقة، تعتبر أن فهم الإطار الاجتماعي الذي ظهرت فيه الفكرة وتطورت ضروري لفهم الفكرة نفسها وتقدير أهميتها ومدى تأثيرها، ذلك أن الأفكار، مثل جميع عناصر الحياة الاجتماعية الأخرى، هي كائنات متفاعلة مع محيطها، تتطور وتتغير بتأثير من مختلف العوامل التي تسهم في تشكيل منظومة الحياة، كما أنها تؤثر في تلك العوامل. ثم يجري الانتقال إلى تطور الفكر السياسي الشيعي، لاسيَّما نظرية السلطة الدينية في إيران خلال ربع القرن الماضي، أي منذ قيام الثورة الإسلامية في العام 1979 حتى العام 2005، والظروف الاجتماعية والسياسية التي جرى في ظلها ذلك التطور، بهدف اختبار العوامل الكامنة وراءه، وما إذا كان ممكناً في ضوئها تطوير خطاب سياسي ديمقراطي على أرضية دينية.

ويرى المؤلف أنه خلافاً للفرضية السائدة التي تقول إن الدين بذاته معوق للديمقراطية، تدلّ الملاحظة الميدانية لتجربة إيران خلال القرن العشرين على أن الدين يمكن أن يلعب هذا الدور أو يلعب نقيضه، حيث يتحدد دور الدين كمساعد للديمقراطية أو معوق لها، بتأثير عوامل خارج إطار الدين نفسه.
وهنالك معادلة خاطئة تجعل من الديمقراطية نداً منافساً للدين وهذا غير صحيح، إنه يشبه أن نسأل: هل نختار الدين أم مكارم الأخلاق؟ لقد بذل كثير من الكتاب المسلمين جهودا كبيرة ليقنعوا الناس أن الديمقراطية ليست من الدين بل هي كفر.. وهذا في الحقيقة ظلم للديمقراطية وتجنٍّ عليها، إن الديمقراطية هي الحل الأمثل للمجتمعات متعددة الأديان والمذاهب والاتجاهات، وهي حال معظم الدول في عصرنا هذا، وهي تشابه حال الدولة التي نشأت في المدينة المنورة بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها، فقد أصبح في المدينة أكثرية مسلمة وأقلية يهودية، وكان الحل هو إبرام عقد اجتماعي واقعي عادل ولكي تتم المصالحة بين الدين والديمقراطية، يجب أن يجرى تعديل في الرؤية الدينية وتعديل مواز في مبادئ الديمقراطية. وهذا التعديل المتوازي ضروري للتوصل إلى نموذج حكم يلبي في وقت واحد المعايير الأساسية للديمقراطية والقيم الدينية التي يؤمن بها المجتمع. وليست هذه العملية سهلة أو سريعة بطبيعة الحال، إذ ثمة تعقيدات نظرية وتعقيدات اجتماعية لابد من التعامل معها بأعلى قدر من الحساسية والالتزام كي نصل بالعملية إلى نهايتها السعيدة.

 وبالنسبة إلى التجربة الإيرانية، ورغم ما تنطوي عليه الجدالات الراهنة من وعود وما حققته فعلياً من تقدم على أكثر من صعيد، فإنه من الواضح أنه ما زال على الإيرانيين التوصل إلى حل للعديد من القضايا الإشكالية العسيرة قبل بلوغ الغاية المنشودة، أي صوغ معادلة تحقق التناغم والانسجام الكلي بين الديمقراطية والدين. وتبقى مسائل مثل مصدر السيادة، ووظيفة الدولة فيما يتعلق بالدين، والحقوق الدستورية، وما إلى ذلك، هي جميعاً مسائل جديدة في الفكر الديني.

ويعتبر المؤلف هيمنة الروحانيين على الحياة السياسية والاجتماعية معوقاً رئيساً للتحول الديمقراطي في الجمهورية الإسلامية، لأن الروحانيين يعتبرون أنفسهم أصحاب النظام وأولى الناس باحتلال المناصب الرئيسة في الدولة. وهم لا يكتفون بممارسة الأعمال التي تدخل ضمن نطاق اختصاصهم كطلاب شريعة، بل يتدخلون في كل أمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وفي بعض الأوقات، يشير بعضهم إلى ضرورة بقاء رئاسة الجمهورية في يد الروحانيين لنصف قرن على الأقل.

وتنطوي هذه المسألة على نوع من التمييز ضد عامة المواطنين، كما تؤسس لمبدأ خاطئ يتمثل في تقديم المكانة على الكفاية. لكن أخطر ما فيها هو إلقاء نوع من العصمة على الحاكمين باعتبارهم متحدثين باسم الله وممثلين رمزيين للإمام المعصوم. وأصبح من الصعب، من الناحية الواقعية، إخضاع الروحانيين للمراقبة والمحاسبة أو تحدي سلطتهم بالوسائل الديمقراطية. أما الديمقراطية فتتجسد أولاً وأخيراً في تحديد سلطات الحاكمين وتمكين الشعب أو ممثليه من مراقبة أعمالهم ومحاسبتهم عليها.
وقد عرفت إيران صعود حركة إصلاحية، تُوِّجت بوصول محمد خاتمي إلى كرسي الرئاسة، ثم ما لبث التيار المحافظ أن عاد إلى تسلم السلطة من جديد.

وهناك أسباب عدَّة أفضت إلى عودة المحافظين بخلفياتهم السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. ومن الصعب الحديث عن الديمقراطية في إيران في ظل نظام لا يسمح بالتعددية وحرية التعبير والرأي، مع أن الديمقراطية بالإضافة إلى أنها تقتضي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فإنها تقوم أيضا على مجموعة من المبادئ السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية التي تصلح لأن تجتمع عليها أصوات ثلثي الأمة أو أكثر، وهو المقدار الذي يلزم لإجراء تعديل دستوري في أغلب الأنظمة الديمقراطية.
ويحاول بعض المفكرين الإيرانيين البحث عن إمكانية تركيب مفهومي بين الدين والديمقراطية، وفي المجال نفسه يجادل مؤلف الكتاب مفترضاً أن الديمقراطية، بوصفها حكم الشعب، هي نظام ممكن من الناحية الدينية، بل هي نظام أفضل من الناحية الدينية، فيجري توافقاً وتطابقاً بين القبول التوافقي وإجماع الأمة، معتبراً أن القبول التوافقي بالقيم الديمقراطية والحكومة التي تجسدها سوف يوفر ظرفاً أفضل للاعتقاد الحر والممارسة الحرة لمقتضيات الإيمان، وعليه فإن النظام الديمقراطي أكثر إنسانية، كما أنه أكثر دينية من أي نظام استبدادي.

جريدة العرب القطرية 2008-10-26

مقالات ذات صلة:

09/10/2008

ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟



قبل عقدين من الزمن حذر باحثون من افراط دول الخليج في ربط حياة سكانها واقتصادياتها بتصدير البترول الخام . وظهرت في هذا السياق دراسات كثيرة تدعو الى تنويع مصادر الدخل القومي ، توسيع القاعدة الانتاجية للاقتصاد الوطني ، والاهتمام بتطوير القدرات البشرية. اواخر الثمانينات من القرن المنصرم تدهورت اسواق البترول ، فانخفضت اسعاره ومعها الدخل القومي في دول الخليج .
ونتيجة لذلك فقد شهدت جميع هذه الدول هزات اقتصادية اظهرت ان التحذيرات السابقة لم تكن كوابيس متشائمة ، بل رؤيا صادقة مستمدة من دراسات محايدة وتجارب فعلية . فقد بدأنا نسمع عن ازمة بطالة لا تستطيع الحكومات علاجها حتى في اقل الدول سكانا واكثرها ثروة . بطبيعة الحال فقد سالت انهار من الحبر في رثاء مرحلة الطفرة والدعوة للترشيد وحماية المال العام وما اشبه . لكن احدا من السياسيين والمخططين لم يخرج الى العلن ليقول انه قد اخطأ في حساباته القديمة وانه كان بحاجة الى توجيه معظم الاموال التي كانت متوفرة بكثرة الى الاستثمار المحلي ، ولا سيما في ايجاد مصادر جديدة للدخل القومي الى جانب البترول.

 لا نتوقع من الحكومات العربية الاعتراف بالخطأ ، فهذه ليست عادة عربية. لكننا ايضا لم نسمع عن دراسة لنقاط الضعف التي شابت السياسات الاقتصادية السابقة ، ولم نسمع عن استراتيجيات بديلة ، واقعية او افتراضية ، لتعويض ما فات . استراتيجيات تجيب على سؤال : ماذا سنفعل لو عاد زمن الطفرة النفطية وتوفر لنا نفس القدر من المال الذي غفلنا عن استثماره في عقد السبعينات؟.

خلال السنوات الخمس الماضية ، واصلت اسعار البترول ارتفاعها وحققت مستويات غير مسبوقة . واثمر هذا عن حل الكثير من المشكلات المؤرقة مثل مشكلة البطالة والسكن وانخفاض الاستثمار في الخدمات العامة. لكن يبدو اننا لا نتعلم من تجاربنا الخاصة فضلا عن تجارب غيرنا . خلال هذه الفترة تضاعف الدخل القومي في الخليج عدة مرات وحققنا للمرة الاولى منذ عقدين فوائض هائلة . لكن الاهتمام بتنويع مصادر الدخل القومي لا زال فاترا .

 نجد ان قطاع التطوير العقاري قد استحوذ على حصة الاسد من مجمل الاستثمار الاهلي والحكومي خلال هذه الفترة . نعرف طبعا ان هذا القطاع هو الاقرب الى قلوب الناس ، لان الثقافة التقليدية السائدة في الخليج تقول عادة "ان العقار يمرض لكنه لا يموت". بعبارة اخرى فان المخاطرة في هذا القطاع شبه معدومة. بخلاف الاستثمار في الصناعة والتقنية الذي يعتبر عندنا خطيرا بسبب احتياجه الى رساميل كبيرة وكفاءة تشغيل وادارة عالية.

لا يستطيع احد ان يلوم القطاع الخاص اذا ابتعد عن المغامرة ، لكننا بالطبع نلوم الحكومات اذا تبنت نفس هذا المنظور الكسيح. في كل دول العالم ، الراسمالية فضلا عن غيرها ، تتحمل الحكومات عبء المغامرة في القطاعات التي يعرض عنها بقية الناس . ولا سيما تلك القطاعات الضرورية للحفاظ على الثروة الوطنية او تطوير مستوى الحياة ، ومن بينها بطبيعة الحال الاستثمارات الضرورية لتنويع مصادر الدخل القومي وتعزيز الدورة المحلية لرؤوس الاموال.
كما نلوم الحكومات اذا وجدنا القطاع الخاص خائفا او مترددا . الخوف من المخاطرة الاستثمارية ليس صفة ثابتة او نهائية ، فهي تتناسب مع تقدير المستثمر للعناصر التي تشكل البيئة الاستثمارية في بلده. خلق البيئة الاستثمارية الجاذبة ليس مسؤولية المستثمرين بل مسؤولية الدولة. الدولة وحدها تستطيع اقناع الناس بان القانون سيد وحاكم ، وان الجميع يحصل على نفس الامتيازات ويتحمل نفس المسؤوليات. الدولة وحدها تستطيع اقناع المستثمرين بان السياسات توضع لتسهيل الاعمال لا لتعقيدها ، وانها مرنة في معالجة الاشكالات والعوائق التي تظهر بين حين واخر.
 اذا وجدت البيئة الاستثمارية المناسبة ، فسيقبل المستثمرون – بعضهم على الاقل – على العمل في بلدهم. لكنهم سيبحثون عن الفرص المتاحة خارجها اذا وجدوا الابواب مغلقة والاذان صماء.

رغم ان اسعار البترول لا زالت اعلى من اي وقت في السنوات الماضية ، الا ان الفوضى العارمة في اسواق العالم المالية تلقي بظلال سوداء على النشاط الاقتصادي في الدول المستهلكة للبترول . واذا حصل ذلك فسوف نشهد بالتاكيد تراجعا منتظما في اسعاره ، ربما تعيدنا الى الظروف التي عرفناها في الثمانينات ولم نتعظ بدروسها. قد لا يحدث الاسوأ ، لكن من يضمن ذلك؟. من كان يعرف ان اسعار البترول التي بلغت 45 دولارا في اواخر السبعينات ستعود الى 15 دولارا في منتصف الثمانينات ؟. من كان يعرف ان مئات المليارات من الفوائض التي تراكمت في تلك الحقبة سوف تتبخر مثل قطعة ثلج في عز الصيف ؟.

دعونا نقف الان لنفكر في الاجابة على ذات السؤال الذي سكتنا عنه خلال الازمة السابقة : ما هو العيوب التي ظهرت في نظامنا الاقتصادي ، وماذا كنا سنفعل لو توفر لدينا المال الكافي ؟.
الايام 9-10-2008

20/09/2008

من يستطيع اتخاذ قرار القتل

انشغلت البلاد هذا الاسبوع بفتوى الشيخ صالح اللحيدان الذي اجاز قتل ملاك القنوات التلفزيونية غير الملتزمة بتعاليم الدين الحنيف. ومع ان اللحيدان الذي يراس مجلس القضاء الاعلى حاول لاحقا التخفيف من حدة فتواه واصدر ما يشبه الاعتذار عنها ، الا ان الجدل حولها لم يتوقف. واللحيدان واحد من الثلاثة الكبار في المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية ، وهو ينتمي الى مدينة البكيرية بمنطقة القصيم التي جاء منها معظم الزعماء الدينيين وكبار رجال الدولة. 

هل يُعذر الجاهل بجهله في أمور دينه ؟ : الشيخ صالح اللحيدان حفظه ...

وخلال العقد الاخير اصبح مع زميله الشيخ صالح الفوزان نقطة جذب للتيار التقليدي المتشدد ، واتخذ مواقف معارضة للملك عبد الله ، كان ابرزها معارضته لالحاق تعليم البنات بوزارة التربية بعدما بقي نصف قرن تحت هيمنة المؤسسة الدينية ، فضلا عن تجميده لبرنامج اصلاحات في الجهاز القضائي. كما اظهر في مناسبات عدة قلقه من تساهل الحكومة مع ما يعتبره تناميا مضطردا للاتجاه الليبرالي بين السعوديين.

ولفت الانتباه في الجدل المذكور سكوت الاعلام الرسمي عن الهجوم الشرس الذي تعرض له اللحيدان. كما ان مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز ال الشيخ ، ناى بنفسه عن الجدل قائلا انه لم يبلغ بحيثياته . اما الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار في وزارة العدل وعضو مجلس الشورى فقد نشر ردا عنيفا على اللحيدان واتهمه بتبرير الارهاب والاساءة الى سمعة البلاد . وياتي الهجوم الصحفي على اللحيدان بعد ايام قليلة من هجوم مماثل على زميله في هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان على خلفية معارك مع صحفيين وكتاب راي. ويقول كثير من السعوديين ان ما جرى يدل على نهاية العصر الذي كان محرما فيه توجيه النقد الى رجال الدين ولا سيما الكبار منهم.

وتشكل القضية في مجملها دليلا على تصاعد الصراع بين جيلين من رجال الدين. الجيل القديم الذي استمد قوته من المؤسسة الرسمية ونجح في تحويلها الى مركز قوة شخصي ، والجيل الجديد الذي يحاول الاستقواء بالشارع ، ولا سيما الطبقة الوسطى ، لازاحة سلفه. ولم تحسم الحكومة امرها ، فهي من الناحية الرسمية تقف مع الجيل القديم الذي يعتبر حليفا معروفا ، لكنه في الوقت نفسه عاجز عن تفهم الحاجات السياسية للدولة ، سيما بعد احداث 11 سبتمبر التي رسمت صورة قاتمة للمملكة وتوجهاتها الدينية. من ناحية اخرى فان كثيرا من كبار مسؤولي الدولة يميلون الى الخطاب المعتدل نسبيا الذي يعبر عنه دعاة من الجيل الجديد مثل عبد المحسن العبيكان وعايض القرني وسلمان العودة . ويعتقد ان هؤلاء اقدر على اعاقة انتشار التيار الذي يوصف بالسلفية الجهادية ، المؤيد لزعيم القاعدة اسامة بن لادن . لكن الاجهزة الحكومية ، لا سيما الامنية منها ، لا تثق تماما في الدعاة الجدد ، خاصة وانهم جميعا صنعوا نفوذهم خارج الاطار الرسمي ، وكانت لهم توجهات معارضة في الماضي.

  من ناحية اخرى فان الجدل يمثل نوعا من الاختبار لنفوذ الاطراف المشاركة فيه. تساءل احد المراقبين : اذا كان اللحيدان يرى ان ملاك القنوات الفضائية يستحقون القتل ، فلماذا لم يحرك القضاء الذي يرأسه لاتخاذ اجراءات فعلية ، خاصة وان معظم القنوات التي يدور حولها الجدل مملوكة لسعوديين او يشارك في تمويلها سعوديون. "حين تكون خارج السلطة – يقول احدهم - فان فتواك هي مجرد رأي ودعوة ، اما حين تملك السلطة اللازمة فانك مسؤول عن تنفيذ ما تراه حقا وضروريا". لكن الجميع يعلم ان اللحيدان لا يستطيع تنفيذ فتواه حتى لو كان رئيسا للجهاز القضائي . قضية مثل هذه تحتاج الى قرار سياسي يتجاوز السلطة القضائية ، وهو يعلم انه لا يملك هذا القرار وان قرارا  كهذا لن يتخذ في اي وقت . في مناسبات سابقة تدخلت الحكومة لصالح منتقدين للمؤسسة الدينية الرسمية ورجال الدين . وقبل عامين حكم احد القضاء بالجلد على الدكتور حمزة المزيني ، وهو اكاديمي ومفكر اشتهر بنقده العنيف للمؤسسة الدينية ، لكن تدخل الحكومة ادى الى تعطيل الحكم استنادا الى نص في قانون المطبوعات يخص وزارة الاعلام بالحكم في جرائم النشر . وقيل يومئذ ان الحكومة لم تشأ السماح لرجال الدين المتشددين باستثمار سيطرتهم على القضاء في تصفية حسابات خاصة .

من المؤكد ان سكوت الهيئات الرسمية عن الجدل الحاضر هو اسلم الخيارات . فهو سيكفل من جهة تفهيم كل طرف بالحدود التي ينبغي ان يتوقف عندها ، وسيضمن من جهة اخرى اضعاف موقف رجال الدين الكبار الذين ربما فكروا في استثمار مكانتهم لاعاقة سياسات حكومية لا يرتضونها .

تكشف هذه القضية عن جانب من التجاذبات الكثيرة التي يحفل بها المشهد السياسي في منطقة الخليج ، ولا سيما تلك التجاذبات الدائرة حول مكانة الدين في الحياة العامة وحدود الدور السياسي لرجال الدين ، الذين في مؤسسة الدولة والذين في خارجها.

20 سبتمبر 2008

مقالات ذات صلة

تحولات الاسلام السياسي في السعودية ومستقبله

التيار الديني والدولة في المملكة : تحليل لمسار العلاقة

بعد عام على صدوره : بيان "نحو دولة الحقوق والمؤسسات" حجر زاوية في تاريخ التيار الديني السعودي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

ثوب فقهي لمعركة سياسية

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

رأي الفقيه ليس حكم الله

 فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

 في الفتوى والتخصص

 تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

الشيخ القرني في باريس وجهات "الخطر" وقهر العامة

  لتفاصيل حول فتوى الشيخ اللحيدان ، انظر  العربية.نت (14-9-2008)

12/09/2008

خدمات الشرطة التي لا يرغب فيها احد


نشرت الجمعية الوطنية لحقوق الانسان في المملكة العربية السعودية كتيبا بحجم الجيب عنوانه "حقوق السجناء والسجينات وواجباتهم". هذا الكتاب الصغير الحجم هو – في ظني – واحد من افضل ما نشر في مجال حقوق الانسان خلال السنوات الاخيرة. هناك بطبيعة الحال كتب عظيمة الاهمية في هذا الحقل ، لكن ميزة هذا الكتيب تكمن في مباشرته ، انه اشبه بدليل عمل لمن القت بهم اقدارهم الى التوقيف او السجن.


من دون مقدمات او ديباجة ، يبدأ الكتاب بعرض مختصر لحقوق الموقوفين والمتهمين التي تضمنها نظام الاجراءات الجزائية مثل المادة التي تنص على حق المتهم في معرفة اسباب توقيفه فورا ، وان يستند التوقيف الى امر مسبب من جهة ذات اختصاص. وتعالج المادتان مشكلة كانت شائعة في البلاد ، ويبدو انها لا زالت قائمة في بعض المناطق وبعض الظروف ، حيث يجري توقيف شخص بتهمة لكنه يحاكم او يسجن بتهمة اخرى ، او يجري توقيفه بامر اداري تصدره جهة غير امنية او قضائية. ويلخص هذه الحالة مثل مشهور ، مضمونه ان الداخل الى دار الشرطة مفقود والخارج منها مولود. بعبارة اخرى فقد كانت جهة التوقيف تعتبر الموقوف مكسبا لا يفرط فيه ، فاذا لم تستطع اثبات الاتهام الاول ، فهي ستناضل لايجاد تهمة اخرى قابلة للاثبات ، وبالتالي محاكمة المتهم او سجنه. مثل هذه الممارسة لم تعد شائعة كما كان الامر في الماضي ، لكنها لم تنته تماما ، ولا زال متهمون كثيرون يذهبون ضحية جهلهم بحقوقهم ، او ضحية اصرار جهة الضبط او الاتهام على انجاح قضيتها ، بغض النظر عن حقوق المتهم ومقتضيات العدالة.

وحسب علمي فان هذه الممارسة شائعة في دول عربية كثيرة. وهي بالتاكيد احد اسباب الهوة القائمة بين المواطنين واجهزة الامن خصوصا ، وبين المجتمع والدولة بشكل عام. واذكر من الحقبة التي عشتها في العراق شعار "الشرطة في خدمة الشعب" الذي يرفع امام دوائر الشرطة ، لكني لم اجد شخصا واحدا يثق في خدمات الشرطة او يرغب في التمتع بها. الجميع كانوا يخشون التورط مع الشرطة في اي قضية صغيرة او كبيرة ، لانهم اذا دخلوا فان خروجهم يحتاج الى معجزة. وكان الشعار الذي يتردد – عفويا - في نفوس الناس حين يجري الحديث عن اجهزة الامن : "ابعد عن الشر وغني له".

ومن ضمن الحقوق التي يعرضها الكتاب المذكور ، نشير الى حق الموقوف في الاتصال بمن يراه ، لابلاغه بواقعة القبض. وكانت العادة الجارية هي منع المتهم من الاتصال باي كان ، قبل اقراره بالتهمة وتوقيعه على محضر التحقيق. والمؤسف ان هذه العادة السيئة كانت تستند الى امر مكتوب من جانب احدى الجهات العليا. وقد سبق ان جادلت فيه احد المسؤولين المختصين ، ظنا مني انها مجرد تقليد لا يستند الى اساس قانوني. لكنه اطلعني على نص الامر الذي يخرق ابسط مقتضيات العدالة.

ويؤكد الكتيب – استنادا الى نظام الاجراءات الجزائية – على ان لا تتجاوز مدة التوقيف 24 ساعة ، ويجب ان يحال بعدها الى هيئة التحقيق والادعاء العام ، او يطلق سراحه. واذا حول الى هيئة التحقيق فيجب ان لا تتجاوز المدة القصوى للتحقيق ستة اشهر ، يسلم بعدها الى المحكمة او يطلق سراحه.

والمؤسف ان هذا البند لا يطبق الا نادرا. هناك الان عشرات من السجناء لم يوجه اليهم اتهام رسمي ولم يحدد موعد لمحاكمتهم رغم مضي شهور طويلة على توقيفهم ، ربما لعدم توفر عدد كاف من المحققين ، او لعدم توفر الادلة على الاتهام الاصلي ، او لاسباب اخرى. وكان حريا باجهزة الامن اطلاق سراحهم استنادا الى ذلك النص الصريح. لكن لسبب لا نعلمه بقي هؤلاء قيد التوقيف ، فلا هم مسجونون بشكل رسمي ولا هم احرار.

يعرض الكتاب ايضا حق المتهم في الاستعانة بمحام في مرحلتي التحقيق والمحاكمة. وهذا ايضا من الحقوق المعطلة ، لان جهات التوقيف لا تنتظر حصول المتهم على محام ، ولان الناس لا يعرفون ان من حقهم عدم الرد على اي سؤال قبل ان يحصلوا على مساعدة قانونية. واود الاشارة هنا الى ان من ابرز سمات النظام القضائي في الدول الغربية ، هو ضمان الدولة لحق المتهم في الحصول على مساعدة قانونية على نفقته ان استطاع ، وعلى نفقة الدولة اذا عجز. والمبدأ السائد هناك ، هو ان للمتهم الحق في رفض التعاون مع جهة التوقيف او الاتهام ، اذا كان تعاونه سيؤدي الى ادانته باي جرم. من حق المتهم ان يحظى بكل فرصة ممكنة لاسقاط الاتهام او تخفيف التهمة ، ولا يعتبر هذا تحايلا على القانون ، بل هو حق ثابت وطبيعي للمتهم حتى لو كان قد ارتكب جريمة بالفعل.

هذا الكتيب يمثل اضافة هامة الى ثقافة حقوق الانسان ، واتمنى ان يطلع عليه كل مواطن ، كما اتمنى ان يقراه خصوصا ضباط ورجال الامن في البلاد ، كي يضمنوا التزامهم بحدود القانون ومقتضيات العدالة ، عندما يتعاملون مع المتهمين او الموقوفين. التزام رجل الامن بالقانون ليس فقط ضرورة وظيفية ، بل هو ايضا واجب ديني ووطني واخلاقي. يمكن لرجل الامن ان يكون حافظا لحقوق الناس كما يمكنه ان يكون جلادا ، والفارق بين الحالتين هي التزامه بحدود القانون المكتوب.



صحيفة الأيام البحرينية - 12 / 9 / 2008م 

28/08/2008

دين يصنع الجماعة ودين تصنعه الجماعة


تجميد اتفاق التفاهم بين حزب الله والجمعيات السلفية في شمال لبنان ينطوي على مدلولات تستحق التأمل . سوف اركز هنا على زاوية محددة تدرس عادة في اطار علم اجتماع الدين. يدرس هذا الحقل كيفية تاثير الدين في افعال الافراد وحياتهم الاجتماعية ، وصولا الى تاثير العوامل الدينية في تنظيم المجتمع وحركته. وهو ينظر الى الطرفين :
حسن الشهال (الجمعيات السلفية) -  إبراهيم أمين السيد (حزب الله)

 الدين والجماعة كعاملين متفاعلين ، كل منهما يعيد صياغة الاخر على ضوء التاثيرات التي يتلقاها من العوامل الاخرى خارج اطار كل منهما . وكمثال على ذلك فان دين الجماعة (او مذهبها) يسهم في تمايز هويتها عن الجماعات الاخرى كما يسهم في ترتيب همومها واولوياتها على نحو مختلف عن غيرها. وفي المقابل فان اسلوب حياة الجماعة ، مصادر عيشها ، تراثها الثقافي ، وتجربتها التاريخية والحياتية ، ذات تاثير عميق على فهمها للقيم الدينية . 

ولهذا السبب نجد مجتمعات تتبنى نفس الدين (او المذهب) لكنها تتفاوت في فهمها للقيم الخاصة بذلك الدين او المذهب ، وتتفاوت في ترتيب نقاط التركيز والاولويات ونطاق المباحات والمحرمات او المكروهات.  من هذه الزاوية يختلف السلفيون اللبنانيون عن نظرائهم السعوديين في تحديد نطاقات الالتزام والامتناع . ترى ذلك واضحا في احكام الستر والنظر وعلاقة الرجال بالنساء ، وفي العلاقة مع غير السلفيين وغير المسلمين بشكل عام. 

ويختلف الشيعة البحرانيون والسعوديون عن نظرائهم اللبنانيين والايرانيين والعراقيين في تلك الموارد وفي العلاقة مع الدولة ، كما في الاطار القيمي لطرق ومصادر المعيشة ونواظمها. العامل الذي صنع الفرق هو فهم كل من هذه المجتمعات لمقتضيات واولويات دينه (او مذهبه) وكيفية انطباقها على وقائع الحياة اليومية ، وهو فهم متاثر كما اسلفنا بعوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية تولدت في مجملها خارج اطار الدين والجماعة.

موضع اهتمامنا هنا هو الشق الثاني ، اي كيف تعيد الجماعة صياغة دينها على ضوء ضرورات ومتغيرات الحياة اليومية . وسوف اركز خصوصا على تصور الجماعة للمصلحة (التي تسند دائما الى مبررات دينية). في تبريره لتجميد اتفاق التفاهم مع حزب الله قال الشيخ حسن الشهال رئيس "جمعية العدل والاحسان" السلفية انه مهتم بتهدئة  "الساحة السلفية" من الخلافات التي اثارها الاتفاق. وفسر ذلك بان الاتفاق كان يستهدف في الاساس اتقاء التناحر والنزاعات ، وتحصين الساحة اللبنانية ، وان التوقيع جاء: "إيمانا منا بالمنهج الإسلامي السلفي الصحيح" . لكنه ادى من جهة ثانية الى اختلاف داخل الطائفة السنية ، وان بعضهم اعتبره تجاوزا لدار الفتوى التي ينظر اليها كراس للهرم الديني السني ولتيار المستقبل وزعيمه سعد الحريري الذي يمثل الطائفة سياسيا ، كما عارضه بعض الزعماء السلفيين . ولهذا فان سلم الاولويات سوف يتغير وينتقل من تحصين الساحة اللبنانية الى تحصين الساحة السنية ولا سيما السلفية.
استقبلت الساحة اللبنانية اتفاق التفاهيم السلفي – الشيعي كخروج معلن من بيت الطاعة الذي تمثله الزعامة التقليدية المتمثلة في دار الفتوى وتيار المستقبل. ونظر اليه كثيرون كتمهيد لدخول التيار السلفي في الانتخابات النيابية القادمة منافسا لتلك الزعامة. وايا كانت نية اطراف الاتفاق ، فان النتيجة النهائية هي تحول التيار السلفي من جماعة دينية خارج السياسة الى جماعة سياسية تهتم باستثمار مخزون العواطف الدينية لصالحها بعدما كان احتياطيا مفتوحا لتيارات اخرى ، من تيار الحريري الى العائلات التقليدية مرورا بالاحزاب المختلفة النشطة على الساحة اللبنانية. بعبارة اخرى نحن نتحدث عن محاولة مقصودة لتحويل العلاقة الدينية من عامل محايد مفتوح للجميع الى فاعل محدد الاتجاه يخدم الجماعة السياسية ومشروعها الخاص. 
جاء الاتفاق كما قال الشهال تعبيرا عن المنهج الاسلامي السلفي الصحيح ، ولا بد ان تجميده يعبر عن ذات المنهج ، فاصحاب المنهج لا يرون انفسهم مخطئين او خارجين عليه . تكشف هذه المفارقة عن تحول مثير في فهم وتطبيق المنهج ، جرى خلال 48 ساعة فقط. فهل كانت الجمعيات الموقعة على الاتفاق جاهلة واكتشفت خطأها بعد ساعات من التوقيع ؟. ام انها اعادت تحديد المصالح والاولويات على عكس ما كانت قد توصلت اليه سابقا؟. هل كان الاتفاق عملا صالحا وتراجعت عنه ، ام كان فسادا اقدمت عليه ثم تابت الى الله منه ؟.
الواضح ان الحساب هنا ليس بمثل هذا التحديد . فقد وضع الاتفاق وتقرر التراجع عنه على ضوء حسابات عقلية للمصالح الخاصة بالجماعة . ما كان يحرك الجماعة في اول الامر هو مصلحتها الخاصة ، وما حركها في نهاية المطاف هو مصلحتها الخاصة ايضا . لكنها ادخلت القيمة الدينية كعامل تبرير وتسويغ لتلك المصلحة في الحالين. نحن اذن لا نتكلم عن دين يحدد ما هو صالح وما هو فاسد ، بل ارادة بشرية تقرر ما هو ديني ، اي صالح ، وماهو غير ديني ، اي فاسد. بعبارة اخرى فان الدين هنا صنيعة الجماعة وانعكاس لمصالحها ، وليس العكس.
يرفض التيار الاسلامي بجميع فصائله تقريبا العلمانية ويعتبرها خروجا عن الدين. لكن في التحليل العلمي يعتبر السلوك السابق علمانيا . لو قربنا المسألة بجعل العلمانية مساوية لعرف الجماعة ، اي اتخاذ القيم التي يصنعها البشر – وليس الوحي - معيارا للصلاح والفساد في فهم الدين او في تطبيقه ، فان ما حصل ينطبق عليه وصف العلمانية لان راي البشر ومعاييرهم قد طبقت في واحد من الحالين على الاقل ، اي في توقيع الاتفاق او في تجميده. هذه العملية التي يمارسها عامة الناس ، فضلا عن الجماعات السياسية كل يوم تقريبا ، تنطوي على اعادة صياغة للقيمة الدينية كي تطابق العرف مثلما يفصل الخياط الثوب كي ياتي على قياس لابسه . القيمة الدينية هنا مثل الثوب واللابس هو العرف او مصلحة الجماعة.
زبدة القول ان المثال السابق يكشف عن طبيعة التفاعل القائم بين الدين والجماعة ، وكيف ان الجماعة تعيد يوميا صياغة دينها وتؤثر فيه مثلما يؤثر الدين في الجماعة ويسهم في تحديد هويتها وسلوكها.

21/08/2008

شيعة وسلفيون على طاولة واحدة

 الاتفاق الذي اعلن هذا الاسبوع بين حزب الله وعدد من الجمعيات السلفية في لبنان (18 اغسطس 2008) يمثل اختراقا للاستقطاب الطائفي المتصاعد منذ العام 2003 . من نافل القول ان تفاهما كهذا لن يلغي الاستقطاب المذكور ، لكنه سيؤدي بالتاكيد الى تخفيف التوتر القائم فعليا بين شيعة لبنان وسنته . ويمكن مقارنة اتفاق التفاهم هذا باتفاق مماثل عقده حزب الله مع التيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشال عون في فبراير 2006 ، ويقال انه ساهم في احتواء نزاع محتمل بين الشيعة والموارنة.  وبالنظرالى قرب الانتخابات النيابية المتوقعة في اوائل العام الاتي ، فان تفاهم حزب الله مع الجمعيات السلفية سيكون له انعكاس واسع على توازن القوى ضمن الطائفة السنية اللبنانية ولا سيما في الشمال.
ممثلو الجمعيات السلفية وحزب الله اثناء توقيع الاتفاق
في انتخابات 2005 نجح تيار المستقبل الذي يقوده سعد الحريري في ازاحة جميع الزعماء التقليديين للطائفة السنية في الشمال كما في بيروت والجنوب ، وفرض نفسه ممثلا وحيدا للطائفة في الدولة اللبنانية . ولا يزال التيار قويا في بيروت كما ظهر لي خلال رحلة الى لبنان الشهر الماضي ، الا ان الوضع في الاطراف يبدو مختلفا . في طرابلس مثلا ، اثمرت النزاعات الطائفية بين السنة والعلويين عن صعود كبيرة لشعبية التيار السلفي المتشدد على حساب تيار المستقبل ، حيث يشعر الناس هناك بان الحريري عاجز عن حمايتهم كما انه عاجز عن الدخول في مفاوضات مع منافسيه طلبا لوقف الاقتتال .
واذا كانت الجمعيات السلفية تسعى من وراء اتفاقها مع حزب الله الى تامين طريقها في الانتخابات النيابية القادمة ، فقد يمكن القول ان الطريق باتت ممهدة لانتخابات مختلفة عما عهده لبنان منذ نهاية الحرب الاهلية حتى الان. يستطيع تحالف يضم حزب الله وتيار الجنرال عون والجمعيات السلفية ان يهيمن على المشهد الانتخابي في البقاع والشمال ، وقد يأتي بوجوه جديدة وغير مألوفة في المشهد السياسي اللبناني. خلال السنوات الثلاث الماضية اظهر التيار والحزب قدرة فائقة على تعبئة الشارع ، وفي الانتخابات الفرعية التي عقدت بعد مقتل بيار ، نجل الرئيس السابق امين الجميل ، نجح انصار عون في انتزاع المقعد النيابي الذي بقي منذ قيام الجمهورية اللبنانية في يد ال الجميل . وهو يمثل دائرة بكفيا مسقط راس العائلة ونقطة انطلاق نشاطها السياسي
صحيح ان الاشهر الستة التي تفصلنا عن موعد الانتخابات هي وقت طويل نسبيا . ويمكن ان تشهد خلط اوراق غير متوقع ، كما لا ينبغي اغفال دور القوى الخارجية التي تنشط عادة قبيل المواسم الانتخابية في توليد تحالفات واصطفافات وتمويلها ودعمها سياسيا واعلاميا . وهناك بين القوى السياسية  ، داخل لبنان وخارجه ، من لا يروقه تحالف السلفيين مع حزب الله ، لاسباب طائفية وسياسية . ولهذا لا ينبغي الظن بان ما جرى هذا الاسبوع هو اعادة صياغة للمشهد السياسي . لكن على اي حال فان ذلك التفاهم يمثل سابقة تستحق التوقف في العلاقة بين القوى اللبنانية خصوصا ، وفي العلاقة بين الشيعة والسلفيين عموما.
خارج لبنان ، ستكون دول مجلس التعاون الخليجي اكثر المجتمعات اهتماما بالاتفاق الشيعي – السلفي. ومنذ اللحظات الاولى التي اعلن فيها نبأ الاتفاق ، تحول الى واحد من اكثر نقاط الجدل في منتديات الانترنت التي يرتادها الخليجيون.  يمثل النزاع بين الشيعة والسلفيين ابرز محاور الجدل السياسي في مجتمعات الخليج . وقد بذل مصلحون من الطرفين محاولات كثيرة الا ان الفتور في احسن الاحوال والارتياب في معظم الاحوال لا زال سيد الموقف بينهما . ويمكن القول دون تحفظ ان عجز الشيعة والسلفيين عن التوصل الى تفاهمات مؤثرة ، هو احد المبررات الرئيسية لتاخر الاصلاح السياسي في المنطقة ككل. من المتوقع ان يثير اتفاق التفاهم بين حزب الله والجمعيات السلفية ارتياحا بين دعاة الاصلاح السياسي في الخليج ، وبين المعتدلين في التيار الديني الشيعي والسني على السواء. لكن المؤكد ان بعض السلفيين على وجه الخصوص سينظر اليه بعين الارتياب ،  وسوف يميل الى التبريرات التي ساقها داعي الاسلام الشهال ، الزعيم السلفي الذي رفض الاتفاق .
 لكن لو ركزنا على المحصلة العامة فان تفاهما على اي مستوى بين فريق شيعي واخر سلفي سوف يترك انعكاسات ايجابية جدا على النقاشات الدائرة في مجتمعات الخليج حول التنمية السياسية ودور المجتمع الاهلي في دعم الاصلاح . وقد لاحظنا طوال السنوات السابقة ان الاصلاحيين من الطرفين كانوا مضطرين الى التباطؤ احيانا وكتمان محاولاتهم للتفاهم احيانا اخرى بسبب ما يخشونه من ضغط الفريق الاكثر تشددا ، والاقدر في الوقت ذاته على تهييج الشارع بشعارات تعبوية . وبسبب هذا التخوف ، كان الصوت الاعلى دائما هو صوت دعاة الفرقة والتنازع ، سواء اولئك الذين ينطلقون من منطلقات مذهبية ضيقة او تجار الصراعات الذين يسعون لكسب النفوذ من خلال الظهور بمظهر المقاتل الصلب الذي لا يساوم ولا يناقش.
يجب الانتظار لبعض الوقت كي نرى قابلية اتفاق التفاهم للصمود والتفعيل ، لكن مجرد انعقاده هو دليل على قابلية المجتمع الاهلي لحل مشكلاته . وهو لا شك سيعزز دعوى القائلين بامكانية التقارب مهما تباعدت الافكار والمعتقدات.
21 اغسطس 2008

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...