‏إظهار الرسائل ذات التسميات توماس هوبز. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات توماس هوبز. إظهار كافة الرسائل

29/03/2005

الغول

اذا لم يكن توماس هوبز ابرز صناع الفكر السياسي المعاصر على الاطلاق ، فلا شك انه اكثرهم تاثيرا على مختلف المذاهب السياسية ، والى حد كبير على الاتجاهات الفلسفية الجارية في عالم اليوم. ولد هوبز في ويلتشير جنوب بريطانيا ، في 1588 وتوفي في 1679 ، وسجل نظريته السياسية في كتابه الاشهر "لفياثان" وهو اسم يلخص جوهر فلسفته السياسية . ورد مصطلح لفياثان في التوراة كوصف لحيوان بحري خيالي هائل القوة قادر على ابتلاع الناس والمراكب. وورد في نصوص اخرى كرمز للامبراطورية البابلية في العراق القديم التي كانت يومها اعظم الدول على وجه الارض.
اظن ان قرب المصطلحات العربية الى هذا المعنى هو "الغول" وهو ايضا رمز لكائن خيالي ذي هيمنة لا تقاوم ، لكنه – مثل اللفياثان – غير موجود في الحقيقة ، بل هو رمز يصنعه الانسان لوصف القوى التي لها وجود بشكل او باخر ، لكنه لا يعرف حقيقتها ولا يستطيع مقاومتها. انه من هذه الزاوية مثل الجن الذين يرمزون لخوف الانسان اللاواعي من المجهولات. انها اذن كائنات اعتبارية ، وجودها المادي الموضوعي مشروط باعتبار الناس وليس مستقلا بذاته .
هذه الفكرة تلخص تصور هوبز للدولة التي يراها ضرورة للحياة الاجتماعية التي لا تستقيم بدون مصدر للخوف ، اي عامل ردع للافراط في استعمال الحقوق الطبيعية من جانب بعض الناس. الدولة في نظر هوبز هي كائن اعتباري ، قوتها وقابليتها للردع ليست نابعة من ذاتها بل من رغبة الناس في ان تكون كذلك . لقد ارادها الناس رمزا للقوة المطلقة فاصبحت كذلك . ولولا هذا الاعتبار لما كانت كذلك ، لانها في نهاية المطاف تتكون من افراد يمكن ان يختلفوا او يتفقوا ، يمكن للناس ان يقبلوهم او يرفضوهم ، ويستطيعون استعمال القوة المادية لفرض مراداتهم وقد يعجزوا . بكلمة اخرى يمكن للدولة ان تكون القوة المطلقة في مجتمع معين ويمكن ان تكون مجرد واحدة من قوى كثيرة تتصارع على السلطان.
رأى هوبز المجتمع الانساني قبل الدولة ميدانا للصراع بين المصالح المتنافسة المتاتية من نزعة طبيعية في الانسان للتملك والسيطرة والاستمتاع . وهو يصف هذا النوع من الحياة بالحالة الطبيعية ، حيث يلقي كل شخص على مراداته صفة الحق وما دونها صفة الباطل . الحق والباطل في راي هوبز هي اوصاف لغوية للارادات ، انها بكلمة اخرى فن بلاغي وقدرة على رسم صورة لما يريده المدعي وما لا يريده . ان قدرة هذا الشخص على استعمال فنون اللغة في اقناع الغير او دحض حجتهم هو ما يحول ارادته الى حق وارادة الاخرين الى باطل .

بهذا الوصف المتطرف لفكرة الحق (والمقصود بطبيعة الحال الحقوق الدنيوية) اراد هوبز اضعاف حجة الكنيسة التي تزعم ان الحق هو كلمة البابا ، وان هذه الكلمة لها قدسية ذاتية نابعة من اتصالها بالسماء. اراد هوبز التشديد على ان المجادلات السياسية كلها تقوم على اعتبارات دنيوية ، وتستهدف بصورة او باخرى الحصول على قدر اكبر من القوة المادية او السلطة . السعي للسلطة ، ضمن اطار الدولة او ضمن اطار المجتمع ، هو المجال الذي لا يتعب الناس منه ولا يملون ، وهو الامل المحرك لآمالهم وفاعليتهم في الحياة حتى ياتيهم الموت.

اراد هوبز من تشديده على الطبيعة الدنيوية للسلطة ، معالجة الاشكال الرئيسي في جدل الدولة والسياسة ، اي الطاعة ، وفي الحقيقة فقد اراد القول انه في مجتمع معين ، لا يمكن ان تتعدد الطاعة والا فسد النظام ، يجب – في رايه – ان تكون الطاعة العامة مختصة بالدولة خلافا للاعتقاد الذي روجته الكنيسة بان طاعة البابا مقدمة على طاعة الدولة . كان هذا التشديد ضروريا بالنظر الى الظرف الخاص الذي طرح فيه هوبز نظريته ، حيث كانت السيادة ، او ما يسمى اليوم الحاكمية العامة ، موزعة بين الدولة والامارات شبه المستقلة والكنيسة ، فقد رأى ان قيام نظام اجتماعي متين وفاعل ، مستحيل في ظل هذا التعدد .

اعتبر هوبز ان قيام الدولة هو نتاج لعقد اجتماعي فرضته الضرورة لكنه قام باراداة عقلانية من جانب كل افراد المجتمع . الناس توصلوا الى استحالة الحياة في ظل تصارع الارادات والمصالح ، فقرروا ان ضرورة النظام تقتضي حصر السيادة والسلطة والطاعة في جهة واحدة هي الدولة . من هذه الناحية فان السلطة والدولة والسياسة ، كلها كائنات اعتبارية ارضية ، اوجدها الناس لتنظيم امورهم ، وهم شركاء فيها شراكة اصلية بمقتضى الطبع الاولي ، وهي لم تقم الا على هذا الاساس ولا تستمر الا به.

استقطبت طروحات هوبز الكثير من النقد ، ولا زالت دراسات في نقد "لفياثان" تظهر بين حين واخر. لكنه مع ذلك لا زال ينظر اليه باعتباره مؤسس الفلسفة السياسية الحديثة ، والرجل الذي اضعف مرجعية الفلسفة اليونانية  القديمة ، فحولها – في نظر الباحثين - من مصدر وحيد للتفكير في السياسة الى مجرد تاملات خيالية ، اقرب الى الاخلاقيات الرومانسية منها الى تصوير السلوك الطبيعي للانسان.

اواخر مارس 2005

مقالات ذات علاقة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

03/01/2005

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون

في الاسابيع الماضية انتقد عدد من الكتاب توسع بعض اهل الفقه في اصدار فتاوى التحريم ، ووجدوا انهم لا يستندون الى أدلة متينة بل الى اعادة تفسير لتلك الادلة او اغراق في السماح بتسلسل الحكم الى موضوعات تتجاوز – واحيانا تختلف ذاتيا وعلائقيا – عن موضوع الحكم الاول . وقد وجدت ان كثيرا من تلك الفتاوى تستند الى قاعدة ثانوية من القواعد المعمول بها في اصول الفقه هي قاعدة "سد الذرائع" . والمقصود بسد الذرائع هو منع الافعال التي يظن ان الاخذ بها مؤد في الغالب الى الفساد حتى لو لم يكن الفعل بذاته ممنوعا في الشريعة . وعلى هذا الاساس صدرت الفتوى في سياقة المرأة للسيارة وكثير من الفتاوى المماثلة.
في قديم الايام كان خطيب المنبر يعلمنا قولا من المأثورات "اذا حسن الزمان فظن بالناس خيرا واذا فسد الزمان فظن بهم شرا" وكانت الاشارة الى ان الزمان يتجه الى الفساد . وكبر الولد الصغير وتحولت محفوظاته الى اسئلة: متى يحسن الزمان ومتى يفسد؟ ، وما هي حدود الفساد وما هي حدود الظن؟. حين شب الولد ودرس اصول الفقه ، تعلم ان من القواعد الراسخة في منهج الاجتهاد هي قاعدة "بناء العقلاء" ، وهو ما يساوي في لغة اليوم الرجوع الى العرف العام باعتباره توافقا ضمنيا بين العقلاء ، وقاعدة "حمل عمل المسلم على الصحة" وهي تساوي اعتبار قصد الاحسان في عمل الغير حتى لو لم تعرف دوافعه . ثم تقادمت الايام فتعلم الولد التفريق بين الصور الذهنية عن الاشياء والحقيقة الواقعية لتلك الاشياء ، وفي التطبيق وجد ان الصورة الذهنية لعامة الناس في الادب المدرسي هي اعادة انتاج للفكر اليوناني القديم.

طبقا لراي افلاطون فان الانسان لو ترك وشانه لكان اميل الى الفساد منه الى الصلاح ، وان اجتماع الناس بذاته مولد للفساد ، ولهذا فانه نظر الى السلطة باعتبارها اداة ردع للفساد في المقام الاول . وقد تأثر بهذا الاتجاه معظم العلماء المؤسسين للتراث الاسلامي الذين حفظ الزمان نتاجاتهم ، ولا سيما علماء القرن العاشر الميلادي ، وتاثر بها الطوسي والغزالي والماوردي وابن سينا وغيرهم . وانتقل منهم الينا عبر قراء التراث المعاصرين. والحقيقة انه قد اثر ايضا على مساحة واسعة من الفكر الاوربي فانتج ما يعرف اليوم بالتيار المحافظ الذي تجده في السياسة والفلسفة والسوق وفي كل مجال.
من ابرز سمات التيار المحافظ السياسي هو تعظيمه من شأن النخبة وتهوينه من شأن عامة الناس وتركيزه على فكرة الردع باعتبارها مضمونا بارزا للسلطة . فكرة الحاكم المطلق التي دعا اليها المفكر المعروف توماس هوبز هي نتاج للوهم الانثروبولوجي الذي اسماه بمجتمع الحالة الطبيعية الذي يتقاتل فيه الافراد على المصالح والرغبات حتى يصل الى حالة الحرب الاهلية بين الافراد. الصورة التي يقدمها هوبز لمجتمع الانسان ، هي ذاتها التي عول عليها افلاطون ومن تاثر به .
التساهل في التحريم والميل الى اساليب الردع قد يكون ثمرة لتلك الخلفية الثقافية التي تنظر الى الناس كمادة للفساد ، ولا سيما في الازمان الفاسدة . والمشكلة انه لا توجد اي وسيلة معيارية لقياس ما يوصف بالفساد او الصلاح ، كما ان السائرين على منهج التجريم لا يظهرون عناية كبيرة بالقواعد الاصولية الراسخة ، مثل "حمل عمل المسلم على الصحة" و"بناء العقلاء" وما يماثلها من الامارات المعتبرة من قبيل الرجوع الى العرف العام في تقرير المصالح والمفاسد. وفي ظني ان المدارس الدينية هي الان اكثر ميلا الى اعتبار الزمان الحاضر زمان فساد ، ويرجح عندي ان هذا التصور هو احد انعكاسات ما يسميه الاجتماعيون المعاصرون بالصدمة الثفافية التي نجمت عن الانفتاح على المدنية الغربية ، وما اثمر عنه ذلك من تفكيك واسع لبنى المجتمع التقليدي ، الثقافية والاقتصادية والعلائقية ، الامر الذي ادى الى انهيار منظومات القيم ومعايير السلوك المتعارفة في المجتمع القديم او انكماشها الى نطاقات ضيقة تنكمش بالتدريج.
ضمن هذا الاطار الموسع نسبيا ، فاننا نفهم الميل الى تجريم العامة والتساهل في تحريم الافعال ، باعتباره نوعا من الرفض الذهني للتغيير القسري في الحياة الاجتماعية . وهو رفض يقف عند حدود التمرد على هذا الواقع لكنه لا يقدم بديلا افضل منه ، ولهذا فانه سرعان ما يتلاشى ويصبح مجرد خبر . هذا هو المصير  الذي آلت اليه محاولات مماثلة في اوقات سابقة ، مثل تحريم تعليم البنات ، وتحريم بعض العلوم مثل الجغرافيا واللغات الاجنبية ، وتحريم العمل في بعض القطاعات مثل البنوك والجمارك ، وتحريم السفر الى بلاد الاجانب ، ووو.. الخ

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...