‏إظهار الرسائل ذات التسميات الثقافة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الثقافة. إظهار كافة الرسائل

23/01/1995

ضمير الكاتب ومحدداته


 عرضنا في مقال الاسبوع الماضي صعوبة الكتابة انطلاقا من وحي الضمير ، في ظرف التداخل الحرج بين الكاتب ومجتمعه ، وتوصلنا الى ان التزام الكاتب تجاه المحيط ، باي صورة من صوره يعيق تعبيره الكامل عن رأيه ، على انه لاينبغي تفويت الاشارة الى ان الالتزام تجاه المجتمع ليس بالضرورة جبرا أو قدرا ، انه في حالات كثيرة ، اختيار من جانب الكاتب .

انواع الالتزام
 ثمة اطارات ثلاثة للالتزام ، يمكن تصنيف الكتاب والمتحدثين في الشأن الثقافي تحت كل واحد من عناوينها ، الاطار الاول هو الالتزام المهني ، حينما تكون الكتابة مهنة ، ويكون التفكير والبحث حركة مضبوطة الايقاع ، باغراض ومحددات تلك المهنة ، فكاتب هذه الفئة هو مهندس للشكل وليس صانعا للافكار ، لاتقلقه الفكرة بل الصورة ، اذ يفترض ان الفكرة التي يعرضها كانت جاهزة قبل ان يبدأ البحث ، فيكون جهده العلمي منصبا على عرضها في احسن الصور ، حتى وان ترافق معها بعض الابتكارات الفرعية ، التي يحسبها الناس تجديدا ، وهي في حقيقتها مجرد تفريع تزيـيـني على الفكرة الاساس ، يستهدف تحسين صورتها وحسب .
 وفي حالات معينة فان الفكرة لاتولد الا ساعة الكتابة ، اي ان الحاجة الى تسويد الصفحات ، هي التي تستدعي الفكرة وليس العكس ، وفي هذه الحالة فانك لاتجد فكرة في ما تقرأ بل (كلام جرايد) كما يقول اخواننا المصريون ، يشرق الكاتب في طياتها ويغرب .

الالتزام الايديولوجي
 والاطار الثاني هو الالتزام الايديولوجي ، وكاتب هذه الفئة قد يبذل غاية الجهد في ابداع الافكار الجديدة ، او تطوير الافكار السائدة الى مستويات اعلى ، لكنه في كل الاحوال ، يظل سجين التفسيرات التي يوفرها متبناه الايديولوجي ، بحيث لايرى  الامور المختلفة الا بموازينها ، فالصحيح هو ماكان صحيحا عندها ، والخطأ هو ماجرى تخطئته في منهجها ، بغض النظر عن الثوابت العقلية والمنطقية المتعارف عليها عند الجميع ، وبغض النظر عن رايه الخاص .
فهذا الكاتب على الرغم من قدرته على الابتكار ، الا ان هذه الأهلية تظل محدودة بحدود المنهج الخاص الذي يتبناه ، ان الشك ، مجرد الشك ، في تنافي اي جزء من الفكرة او التحليل مع جزء من المعتقد ، او المتبنيات التي يفرضها انتماؤه المجتمعي ، هو سبب كاف ـ عنده ـ للتوقف عن التفكير ، لانه يتحمل التخلي عن نتاج جهده العقلي ، لكنه لايتحمل الاصطدام بعقيدته أو انتمائه ، ويمكن اعتبار هذا الكاتب كاتب منهج او كاتب تبرير ، لاكاتب فكرة .

 ويضرب لنا د. اكبر أحمد عالم الاجتماع المسلم المعروف ، مثالا على هذه الحالة في علم الاجتماع الماركسي ، الذي ضجر من تحليلاته الماركسيون فضلا عن غيرهم ، لان رجاله (تحدوهم الرغبة للعمل داخل اطار نظرياتهم دون اعتبار لطبيعة البيئة والعنصر) حتى ان م. جودلييه ـ وهو نفسه باحث ماركسي ـ وصف تحليلات بعض زملائه للمجتمعات القطاعية البناء بانها (ماركسية فجة) .
  اما الاطار الثالث فهو الالتزام بالمجتمع او بقضاياه ، وكاتب هذه الفئة متحرر من الضوابط المهنية ، وغير مضطر للاستسلام للتفسيرات النمطية ، لكنه لايستطيع ان يتحرر ـ في مرحلة اعلان الفكرة على الاقل ـ من مقتضيات العلاقة الضرورية بين المجتمع والكاتب ، باعتباره جزء من الجماعة وباعتباره صاحب دور فيها .

مرحلتان
قبل عرضها على القاريء تمر الفكرة بمرحلتين ،  يجري في المرحلة الاولى صناعة الفكرة والبرهنة عليها ، ويجري في التالية تجهيزها للعرض ، كي تحظى باكبر قدر من القبول .
وتبعا لمقولة الالتزام فان الكاتب يمارس الرقابة الذاتية في احدى هاتين المرحلتين ،  عند صناعة الفكرة ، او عند عرضها ، فالكاتب الملتزم مهنيا والكاتب الملتزم عقائديا ، يفكران ضمن مسارات محددة ، لذلك فهما لايجدان حاجة لتكرار الرقابة في المرحلة الثانية ، فما ينتجانه من افكار لابد ان يكون متوافقا مع ماهو سائد ومتوقع ،  اما الكاتب الثالث فيكتفي بالرقابة على الذات في مرحلة الاعداد لعرض الفكرة.
ان التحرر المطلق من قيود الالتزام باشكاله ومضامينه المختلفة ، امر صعب المنال ، لايدركه الا المكافحون الاشداء في سبيل الفكرة وشرف العقل ، وليس هذا مقدورا من اكثر اهل الثقافة ، في مراحل من التطور الاجتماعي كالتي تشهدها اكثر الاقطار العربية.

لكن تحت هذا المستوى فثمة قدر معقول من الالتزام ، لامفر من الخضوع له ، الا وهو الالتزام في طريقة عرض الفكرة ، ان الالتزامات التي يضعها الكاتب في مرحلة صناعة الفكرة ، لن تؤدي لسوى سد آفاق الفكر على عقله ، وجعله منقادا كالاسير الى الافكار المتداولة ، التي لايـنـبيء التعب عليها عن اي تطور في ذهنية الكاتب ، ولاتؤدي لأي تطوير في وعي المجتمع .

الرضى بالقيود
اصبح ثابتا ان مستوى الثقافة والابداع في بلد ، يتناسب طرديا مع حرية التعبير المتاحة فيه ، فالقيود تؤدي الى تبريد النشاط الذهني لرجل العلم ، كذلك يفعل الرضى بالتقييد ، فالكاتب الذي يعتبرها امرا اعتياديا ، لايجاهد للانطلاق بعقله في افاق الفكر ، فهو راض بما يمليه عليه عقل مستريح الى المتفق عليه .

  ان اسوأ ماينال الثقافة هو تلقي القيود ايا كانت ، بالقبول والتسليم من جانب المثقفين انفسهم ، واعتبارها امرا طبيعيا يلتزمون به عن رضى واختيار .

وفي معظم الاحوال فان الكاتب يمارس نوعا من الرقابة الذاتية على نفسه ، حينما يضع نصب عينيه ، ردود الفعل المتوقعة ساعة عرض الفكرة على الناس ، فكل كاتب ، او فلنقـل ـ على سبيل التحفظ ـ معظم الكتاب ، يرغب في رؤية افكاره وقد وصلت الى اكبر عدد من الناس ، وحظيت بالقبول في اوسع شريحة منهم .

ويتعلق هذا النوع من الرقابة الذاتية (الرقابة في المرحلة الثانية) بالمجتمعات التي تعطي للافكار الجديدة قيمة ،  اما النوع الاول (الرقابة في مرحلة صنع الفكرة) فتجده غالبا عند المجتمعات التي لاتقيم كبير وزن للثقافة ، وينطبق ذلك على مختلف المجتمعات ، وبغض النظر عن نوع العقيدة ، فقيمة الفكرة هنا  لاتقاس بمدى كشفها عن جديد او جلائها لغامض ، بل هي مرهونة بمقدار مايؤدي اليه العرض ، من تاكيد على قيم متعارف عليها  ، بغض النظر عن صحتها او فسادها .

نشر في (اليوم) 23يناير1995

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...