14/03/2001

حرب المقهورين ضد المقهورين


الجدل حول حقوق المرأة السياسية  في الكويت ، المعالجة السياسية والصحافية لقضايا الافغان العرب في مصر ، الاحكام القضائية المتوالية ضد رموز التيار الاصلاحي في ايران ، الجدل بين العسكريين وعلماء الدين حول وضع المدارس الدينية في باكستان ، والكثير من الجدالات التي لا يخلو منها بلد عربي أو مسلم ، والتي تدور دائما حول استعمال قوة الدولة ضد المنافسين السياسيين ، تدل دائما على ان اشكالية العلاقة بين الطرفين لم تجد لها حلا في أي من تلك الاقطار.

الامر المهم في هذا الجانب هو ميل الفرقاء السياسيين إلى تشجيع تدخل الدولة ضد منافسيهم ، في الجدل حول حقوق المرأة السياسية في الكويت مثلا ، توسل فريق من الاسلاميين بالدستور لالغاء المرسوم الاميري بمنح النساء حق التصويت ، بينما دافع الليبراليون عن حق الدولة في تجاوز الدستور والمجلس النيابي ، وفي وقت سابق توسل الاسلاميون بالدولة لوضع مئات من الكتب في القائمة السوداء ومنعها من دخول البلاد ، كما يحاولون فرض قيود على التعليم الاهلي والحياة الثقافية بشكل عام .

وفي باكستان ساند الليبراليون محاولات حكومية لتقييد التعليم الديني الاهلي ، بينما في ايران استعمل المتدينون المحافظون القانون للتضييق على خصومهم السياسيين ، من المتدينين وغيرهم ، سيما بعد اخفاقهم الأخير في الانتخابات النيابية .

وفي مصر توسل الاسلاميون بالدولة لمصادرة كتب وتقييد العمل الثقافي ، بدعوى مقاومة الالحاد ، بينما توسل الليبراليون بالدولة ايضا لتشديد الخناق على النشاطات الاجتماعية للاسلاميين بتكرار الاشارة إلى فزاعة " الافغان العرب " .

تشجيع الدولة على التدخل في الحياة الثقافية والاجتماعية ، والسكوت عن ميلها الطبيعي إلى استخدام القوة والزجر في تعاملها مع المجتمع ، يؤدي إلى نتيجة واحدة في كل الحالات ، هي حصول الدولة على مبررات لاستمرار التدخل ، إذا شجع الاسلاميون الدولة على التدخل لمنع كتب لغيرهم هذا اليوم ، فهم - في حقيقة الامر - يمنحونها شرعية التدخل ضد كتبهم ونشاطاتهم الثقافية في يوم قادم ، والاصل ان يقف جميع الاطراف ضد هذا النوع من التدخل ، لان الثقافة يجب ان تبقى مصونة عن تدخل الدولة .

 كما ان الاستعمال المتعسف للقانون والقضاء في تحجيم المنافسين السياسيين ، أو تشجيع الدولة على استعماله ، سوف يؤدي إلى اعتبار هذا النوع من التدخل مشروعا ومبررا في كل حالة ، والمفروض ان يقف الجميع ضد محاولات الدولة لتحجيم أي طرف سياسي ، مهما كان راينا فيه أو موقفنا منه .

تملك الدولة وسائل الزجر والتدخل المادي والعنيف ، وتتمتع بميل طبيعي إلى استعمال القوة وفرض السياسات ، بغض النظر عن حقانيتها أو قبول الشعب بها ، وهذا يستوجب في كل الاحوال ، موقفا مبدئيا من جانب القوى السياسية على اختلاف اصنافها وشعاراتها ، موقف مبدئي مضمونه رفض أي تدخل حكومي يؤدي إلى تقييد الحريات العامة ، أو تحجيم الكيانات السياسية الاهلية ، لان التدخل يؤدي إلى تهميش القوة السياسية في المجتمع ، وتضخم الجبروت الدولتي .

في عالمنا العربي نحن بحاجة إلى وضع اهداف مبدئية واستراتيجية للعمل السياسي ، من اهمها تحويل القوة السياسية - بعضها على الاقل - إلى المجتمع ، ذلك لان الدولة العربية جبارة وعنيفة ، وهي دولة مسكونة بالارتياب في المجتمع وتوجهاته ، كما انها حريصة على الاحتكار الفعال لمصادر ومراكز القوة السياسية ، ولهذا فاننا عاجزون عن اقامة مجتمع حر وسيد ، ونحن عاجزون عن بلوغ الديمقراطية التي نستحقها .

وليس ثمة حل سوى إعادة بعض القوة السياسية إلى المجتمع ، والسبيل الفعلي إلى هذا ، يتمثل في الدفاع عن الحق الاصلي لكل طرف سياسي ، في التمتع بوجوده والدعوة العلنية إلى خياراته ، أي - بكلمة أخرى - مقاومة الميل الطبيعي للدولة إلى التدخل وتقييد الحريات ، تحت أي مسمى ، ولاي سبب .

السياسات القصيرة النظر ، والخلط بين اليومي والاستراتيجي في اللعبة السياسية ، وحلول المواقف الناشئة عن انفعالات اللحظة والنزعات الشخصية ، محل الواجبات المبدئية التي ابرزها مراكمة وتكثيف القوة الاجتماعية المستقلة عن الدولة ، هي الاسباب الظاهرة لميل القوى السياسية الى تشجيع التدخل الحكومي ، أو السكوت عنه ، هذه المواقف ، وان وافقت مصلحة آنية لفريق محدد ، إلا انها على المدى البعيد مضرة به وبغيره ، لان قدرته على الفعل السياسي هي فرع  من قوة المجتمع السياسية ، وذلك التدخل يؤدي - قطعا - إلى تفريغ تلك القوة وتفكيكها .

الرأي العام 14 مارس 2001


03/03/2001

تخفيف اعباء الدولة


التخصيص أو الخوصصة كما يسميها اخواننا المغاربة ، اصبحت الان درة التاج في السياسات الاقتصادية للعالم العربي. ونعني بهذا تخصيص مؤسسات الخدمة العامة ذات الطبيعة الاستراتيجية ، واهمها تلك الخدمات التي تشكل - بصوة من الصور - مصدر دلالة على مشروعية النظام السياسي ، مثل قطاع الكهرباء والماء والصحة العامة والتعليم والاتصالات والامن .
وقبل عقد التسعينات ، كان للقطاع الخاص المحلي دور في بعض الخدمات ، كالصحة  والتعليم دون الجامعي ، لكن الدولة حافظت دائما على الجانب الاهم من هذين القطاعين ، أي ذلك المتوجه للشريحة الاوسع من المجتمع ، كما ان القطاعات الأخرى ، بقيت حكرا على الدولة حتى اواخر التسعينات .

الاتجاه العالمي إلى ابعاد الدولة عن الخدمات التجارية أو شبه التجارية ، والميل إلى إعادة تأسيس منظومات الخدمة العامة على أساس تجاري بحت ، كان وراء هذا التحول ، لكن الدافع الاهم كان رغبة الدولة في التخفف من الاعباء المالية لهذه الخدمات ، خاصة بعد انحدار عوائد البترول في النصف الثاني من الثمانينات ، وتفاقم الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة .

في بريطانيا مثلا ، كانت سياسة تخصيص الخدمات العامة في عهد رئيسة الحكومة السابقة السيدة مارغريت تاتشر ، تجسيدا لاتجاه عام نحو تعميق الليبرالية في الحياة السياسية ، التي جوهرها تجريد الدولة من حق التدخل في حياة الناس في الظروف الطبيعية ، وتكريس جهدها للسياسة باعتبارها عملا تخصصيا ، وهو اتجاه أوجع الكثير من الناس ولا سيما التنظيمات العمالية التي تمثل الطبقات الفقيرة ، إلا انه في نهاية المطاف اثمر عن تعزيز قوة المجتمع المدني ، كما عزز قوة الدولة التي تخففت من اعبائها وتكرست لقيادة البلاد ، ولهذا يقال الان ان الازدهار الاقتصادي الذي تعيشه بريطانيا اليوم - قياسا إلى ما كانت عليه في السبعينات - هو ثمرة الفرص الكبيرة التي اوجدها ذلك التوجه السياسي .

على خلاف هذا المنهج ، فان سياسات التخصيص القائمة عندنا ، تقتصر على الجانب الاقتصادي. ويبدو ان غرضها الأول والاخير ، هو نقل العبء المالي من كتف الدولة إلى كتف الناس. ولهذا فان معظم الناس ينظرون إلى هذا الاتجاه بارتياب ، خاصة وقد ترافقت مع دعوات إلى فرض ضرائب على الدخل والخدمات ، وهو ما بدأ تطبيقه فعلا على صورة رسوم اضافية على الخدمات مثل الكهرباء والوقود والخدمات الحكومية .

بالنسبة إلى الولايات المتحدة واوربا ، فان فرض الضرائب وتخلي الدولة عن واجباتها الخدمية ، كان متلازما مع توسيع المشاركة الشعبية في القرار السياسي ، وصولا إلى تجريد  الحكومة من استقلالها ، وتحويلها إلى هيئة مملوكة للمجتمع بصورة كاملة ، حيث لم يعد أحد من اهل الحكم قادرا على تصور امكانية البقاء في السلطة ، دون تفويض متجدد من جانب الشعب. ان شعار (لا ضرائب من دون تمثيل شعبي) الذي يرجع إلى بدايات تاسيس النظام الغربي ، هو عنوان لفلسفة شاملة في العمل السياسي ، خلاصتها ان اهلية الدولة لفرض الزامات سياسية أو مالية على المجتمع ، مشروطة بكون المجتمع شريكا في القرار السياسي ، ورقيبا فعليا على الهيئات التي يحق لها اتخاذ قرارات كهذه ، والرقابة تعني ان يكون المجتمع قادرا على منح التفويض الذي بموجبه يصل الاشخاص إلى المناصب السياسية ، وسحب التفويض بما يؤدي إلى عزلهم من تلك المناصب .

وارى ان الحكومات العربية تعاني اشد المعاناة وهي تواجه القرار المحتوم بتخصيص الخدمات العامة ، ولذلك فهي تتحرك ببطء شديد ، ويحاول البيروقراطيون والسياسيون بكل تصميم قصر التحول على ذلك الغرض ، ولهذا مثلا فان تخصيص الخدمات العامة لم يترافق مع الغاء امتيازاتها الاحتكارية ، فشركات البترول والكهرباء والاتصالات لا زالت تتمتع باحتكار السوق ، مع ان التخصيص في كل بلاد العالم ، تلازم دائما مع فتح السوق امام المنافسة التجارية ، من اجل تمكين المستهلك من الاختيار وازاحة حجاب التكتم الذي يلف حسابات واعمال تلك الشركات ، التي ما زالت تحظى بمعاملة تفضيلية من جانب الدولة .

كي تكون الامور واضحة ، فان احدا من عامة الناس لن يرحب ببرامج التخصيص ، ولن يدفع الضريبة عن طيب خاطر ، إلا إذا جاءت ضمن تغيير شامل في فلسفة الحكم ، تشمل فسح المجال امام مشاركة شعبية كاملة في القرار السياسي ، من خلال ممثلين ينتخبهم جميع الناس ، ورقابة شاملة تتجسد في ازالة الاستار التي تحجب ما يجري داخل مؤسسات الدولة عن عين الجمهور ، والغاء القيود التي تعيق الصحافة المحلية عن ممارسة دورها الرقابي ، وتمكين الناس من حقوقهم الطبيعية في التعبير عن ارائهم واراداتهم وانتماءاتهم ، وربط الوظيفة السياسية والسيادية بالتفويض الشعبي ، الصريح والاختياري ، والا فان الدولة لا تملك أي حق في فرض اعباء مالية على الناس .

بعض الخبراء والعالمين بامور السياسة ، يقولون ان امور البلاد لا يمكن ان تستقر مع تزايد الاعباء المالية الملقاة على كاهل الدولة ، وارى ان الناس يمكن ان يقبلوا بهذه الفكرة ، شرط قبول اولئك بما يريده الناس ، وهو ما عرضناه في السطور السابقة ، واحدة بواحدة ، فان لم يستطيعوا قبول هذه المعادلة ، فليتركوا الفرصة لغيرهم ، عله يستطيع .

الرأي العام 3 مارس 2001

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...