04/11/2020

حرب الرموز


حادثة النحر الباريسية مثال على الاهمية العظمى للجانب الرمزي في حياة البشر ، ولا سيما دور الرموز في تكييف العلاقة بين المجتمعات والثقافات.

كيف اشرح معنى الرمز ، ومسار تاثيره في حياة الناس ، والفارق بين الكائنات المادية ونظيرتها الرمزية؟.

احسب ان هذا يتطلب مساحة أوسع من المتاح هنا. لكن دعنى اوضح المقصود بالتدريج من خلال المجادلة التالية ، التي تربط بين "صناعة الرموز" و "تشكيل الهوية الجمعية". الغرض من هذا الشرح هو توضيح المسافة بين الحقيقي والاعتباري ، انطلاقا من دعوة -اتبناها شخصيا- لقصر التقديس على ما تقتضي الضرورة الحفاظ عليه مقدسا ، دون ما اضيف الى قائمة المقدسات بسبب مرور الزمن او من اجل تعزيز الهوية.


حين تنسج قطعة قماش طولها متر وعرضها نصف متر وتحرقها في الشارع ، فلن يهتم احد بفعلك ، وربما قالوا في انفسهم: هذا شخص اخرق ، تنازع مع زوجته ، فخرج للشارع كي ينفس عن غضبه.

تخيل الان لو ان قطعة القماش هذه ، مرسوم عليها الوان العلم الالماني مثلا ، وخرجت الى ساحة بوتسدام وسط العاصمة برلين ، وفعلت الشيء نفسه: احرقت العلم. في هذه الحالة لن يقول الناس انك اخرق ، بل سيأخذك رجال الشرطة الى المحكمة ، حيث تواجه عقوبة قد تصل الى ثلاث سنوات في السجن. هذا بالطبع ما لم يقتنع القاضي انك اخرق بالفعل ، وانك قد اخذت العقوبة سلفا قبل ان تغادر البيت.

ما الفرق اذن بين قطعة القماش الاولى والثانية؟

الفرق ببساطة هو توزيع الألوان. الالوان تحول الكائن المادي (القماش) الى كائن رمزي (العلم الوطني). هذا الكائن الرمزي مرتبط بالهوية الوطنية الجامعة ، التي يشعر الناس انهم ينتمون اليها ، او انهم يرتبطون ببعضهم من خلالها ، او انهم مسؤولون اخلاقيا عن حمايتها واحترامها.

دعنا الان نذهب الى ضاحية ايرانييه شمال غرب باريس ، حيث قام المهاجر الشيشاني عبد الله أنزوروف بنحر صامويل باتي ، المعلم في مدرسة بوا دولن ، فأثار ضجة في شرق العالم وغربه. الجانب المادي في القضية يتعلق بضحيتين ، اما الرمزي فهو يكشف عن انشقاق فرنسا الى فريقين: اليمين المتشدد يرى فيها ان المسلمين ككل يذبحون فرنسا ككل. فرنسا بما تمثل من ثقافة وتاريخ ونظام اجتماعي ومنظومات قيم خاصة. المسلمون في الطرف الاخر يركزون على "الدافع" للقتل ، اي السخرية من الرسول عليه الصلاة والسلام ، ويرون فيه تمظهرا لحملة بغضاء تضم غالب الفرنسيين ، وبينهم رئيس الجمهورية ، الذي تحدث قبل اسبوعين من الحادثة في منطقة قريبة جدا ، فقال ان "الاسلام اليوم مأزوم".

في رايي ان علينا البحث عن قلب الازمة في موضع آخر: بالنسبة للفرنسيين فان جوهر المشكلة هو المسافة بين فرنسا التقليدية والمجتمع المتعدد الثقافات: هل ياترى تستطيع فرنسا ان تتحرر من ذاتها القديمة ، كي تمسي إطارا يحتضن مواطنيها بكل اختلافاتهم والوانهم وثقافاتهم؟. لقد اجاب الرئيس ماكرون بانه لا يؤيد هذا الخيار. لكن هل هو خيار فعلا ، ام هو  المسار الطبيعي لحركة التاريخ؟.

بالنسبة للمسلمين فان جوهر المشكلة يكمن في "الانتقال من شمال باريس الى وسطها" ، اي التخلي عن اوطانهم القديمة ، والتعامل مع فرنسا كوطن نهائي ، بما ينطوي عليه هذا من تهميش للاعراف المعيقة للاندماج ، ومن بينها طبعا اعراف ذات الوان دينية او تعرف بلغة دينية.

هل يستطيع الطرفان اتخاذ القرار ام يتركان المسألة تتداعى دون قائد مثلما حصل حتى الآن؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 18 شهر ربيع الأول 1442 هـ - 04 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15317]

https://aawsat.com/NODE/2603896/


28/10/2020

الدرس الباريسي

 


يبدو ان حادثة النحر الباريسية الشهيرة ، تتحول بالتدريج الى قضية ساخنة في العديد من مجتمعات المسلمين ، في شرق العالم وغربه. وللتذكير فاننا نتحدث عن قيام مسلم من اصل شيشاني بنحر معلم في ضاحية  كونفلان سان-اونورين ، شمال غرب العاصمة الفرنسية ، بعدما عرض على طلابه رسوما كاريكاتورية للنبي محمد (ص) اثناء درس قيل انه تناول حرية التعبير. وجرت الحادثة في منتصف سبتمبر ، وكانت مناسبتها انعقاد المحكمة الخاصة بمهاجمي مجلة "شارلي ابدو" التي كانت قد نشرت الرسوم المذكورة في يناير 2015.


ويبدو ان انباء ذلك الدرس قد تفاعلت بين المهاجرين المسلمين ، الذين اعتبروه اهانة لهم ولدينهم. ولا شك ان بعضهم قد تحدث عن ضرورة الانتقام و "تلقين المعلم درسا" يكون عبرة لغيره. ولعل هذا الشاب الشيشاني البالغ 18 عاما ، رأى نفسه مدعوا للقيام بما رآه دور البطل دفاعا عن سيد الخلق.

نعرف ان الرئيس ماكرون ندد بما اسماه "الارهاب الاسلامي" وان الحكومة الفرنسية اتخذت موقفا متشددا ، فاوقفت عدة اشخاص يشتبه في علاقتهم بالقاتل ، كما اغلقت مسجدا وجمعيات تقول انها تتبنى مواقف متطرفة. وقد نظمت جنازة رسمية للمعلم القتيل ، وتم تكريمه ، والتأكيد على التزام الحكومة بحق الناس جميعا في حرية التعبير ، بما فيها الحق في نشر تلك الرسوم ، التي اعتبرها المسلمون مثيرة للكراهية.

من المفهوم ان حادثا مثل هذا سيؤدي لانقسام في المواقف ، بين المسلمين من جهة والاوروبيين من جهة اخرى. سوف يتمسك الطرف الاول بحجة ان المس بالمقدسات ، لا تحميه القوانين الضامنة لحرية التعبير ، لأنه يثير البغضاء ويضر بالسلام الاجتماعي. ولعلهم يقارنونه بالقوانين التي تحرم معادة السامية او تبجيل النازية مثلا  ، والتي وضعت على نفس الارضية.

في المقابل سوف يتمسك الاوروبيون بان ابداء الرأي في المقدسات الدينية جزء من حرية التعبير ، وان اعتبارها مثيرة للبغضاء فرع عن شعور ارادي ، يتوجب على المسلمين التحرر منه ، لانهم لا يستطيعون العيش في كانتونات ثقافية مغلقة ، بينما يتسارع الانفتاح في العالم وتتواصل الثقافات والهويات. كما سيقولون بطبيعة الحال ان معاقبة المجرم يجب ان تمر  من خلال الاطر القانونية ، اي الشكوى للقضاء او البرلمان ، وليس بحمل السكين ونحر المذنب وسط الشارع. ولو قبل المجتمع بهذا العلاج ، لما أمن احد على حياته او املاكه.

انني اتفهم كلا الرايين ، كلا من زاوية والى حد. لكني اود اضافة نقطتين آخريين ، تتعلق أولاهما باندماج المسلمين الذين استوطنوا اوربا بشكل نهائي. فهل يريدون البقاء على حاشية المجتمع الاوربي ام يسعون لكي يكونوا جزء مؤثرا فيه؟. ان هذا يرتبط جوهريا بتقبلهم لقيم هذا المجتمع واعرافه ، وبعضها عسير ، لكنه ضروري ان ارادوا الاندماج.

اما النقطة الثانية فتتعلق بموقف المسلمين ككل ، من اشكال النقد المختلفة ، التي تاتي من وسطهم او من خارجهم. الى اي حد نتقبل النقد والسخرية والنقض ، مع تاكيدنا على حقنا في الرد والمعارضة؟. وكيف نفكر في اشكالات العلاقة مع الذين يعارضوننا في الاسس والجوهر وليس فقط في الرأي ، كحال الذين يسخرون منا دون ان يقاتلونا او يخرجونا من ديارنا؟.

هل نضع المقاتل بالدبابة ، مع الساخر  بالريشة او القلم على قدم المساواة؟.

اظن اننا كمسلمين بحاجة ماسة للنقاش في هذا ، كما ان مسلمي اوربا احوج منا الى التفكير في النقطة الاولى.   

الشرق الأوسط الأربعاء - 12 شهر ربيع الأول 1442 هـ - 28 أكتوبر 2020 مـ رقم العدد [15310]

https://aawsat.com/node/2590131

مقالات ذات صلة

حرب الرموز

اليوم التالي لزوال الغرب

الاسئلة الباريسية

داريوش الذي مضى

الشيخ القرني في باريس

داريوش الذي مضى

الشيخ القرني في باريس

ابعد من تماثيل بوذا

 

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...