15/02/2017

وهم الصراع بين الحضارات


أسمع حديثا متكررا فحواه ان الرئيس الامريكي الجديد دونالد ترمب يدشن النموذج التطبيقي الأول لصراع الحضارات ، وفق التصور الذي عرضه المفكر الامريكي صامويل هنتينجتون في 1993. طبقا لهذه الرؤية فان الايديولوجيا (رأسمالية/اشتراكية) لن تكون موضوعا للصراعات الدولية بعدما تفكك المعسكر الشيوعي. الحروب الكبرى القادمة لن تدور بين الدول القومية. أو على أقل التقادير ، فان أية حرب على هذه المستوى ، لن تقسم العالم الى فسطاطين ، وفق ما كان متوقعا في حقبة الحرب الباردة (1945-1991). يعتقد هنتينجتون ان الثقافات الرئيسية هي التي ستحدد جبهات الصراع الدولي القادم. نتصور مثلا جبهة الثقافات الجديدة ، التي تمثلها المجتمعات الصناعية الغربية ، تقابلها جبهة الثقافات القديمة التي تضم العالم الاسلامي ودول آسيا الأخرى.
صمويل هنتينجتون
هذه الرؤية ليست نظرية مثبتة تاريخيا. وليس لدينا دليل مادي يؤكد ان العالم سيشهد صراع حضارات في المستقبل القريب. إنها مجرد تحليل مبني على استقراء تاريخي ، يتوافق مع معطيات رآها هنتينجتون متوفرة في مطلع التسعينات. وهو لم يحاول اخفاء ما تنطوي عليه من توجيه ايديولوجي ، فحواه ان الحضارات بحاجة للصراع ، كي تبقى نشطة ومبدعة.
رغم ذلك فرؤية كهذه تنطوي على خطورة على العالم الاسلامي ، وليس على الغرب. لسبب بسيط وهو ان الايمان بالعلاقة الايجابية مع العالم ، يعزز جانب الميل للمصالحة والانفتاح ، ومن ثم التعاون الثقافي والاقتصادي. وهو أمر نحن في أمس الحاجة اليه ، كي نلحق بحركة العلم والتقنية التي تتصاعد في عالم اليوم ، ولا تكاد تستثني أحدا غير البلدان الاسلامية. 
خلال الخمسين عاما الماضية ، تعرضت مجتمعات المسلمين لضخ مركز للفكرة القائلة بان "الغرب" يمثل كتلة معادية ، تسعى للهيمنة على العالم الاسلامي ، وتستهدف بشكل خاص القضاء على الاسلام. ولا شك ان هذه الرؤية قد ساهمت في عرقلة تطور المجتمعات المسلمة ، بل وأعادت بعضها الى الخلف ، وعمقت الهوة التي تفصلها عن الحضارة الانسانية الحديثة.
ثمة حقائق بسيطة في حاضر العالم وفي ماضيه ، من بينها ان تاريخ البشرية لم يسجل نهوض المدنية في بلد منعزل عن العالم. جميع الحضارات وتجارب التقدم السابقة – بما فيها الحضارة الاسلامية القديمة - كانت ثمرة للتفاعل بين الأمم والثقافات. وكان دوامها وتجددها مرهونا بعلاقتها التفاعلية والمنفتحة مع الآخرين.
ليس من الضروري ، وربما من غير المتوقع ، انتهاء الصراعات الدولية. لكن الصراع المدفوع بخوف على الهوية ، انتهى في كثير من التجارب الى دمار المنتصر والمنهزم معا. لأنه ببساطة يحول مضمون العلاقة من صراع على الحدود والمكانة ، الى صراع على الوجود. وفي هذا النوع من الصراعات لا يكون الانجاز والتقدم هدفا. الهدف الوحيد فيها هو تدمير الآخر كشرط للبقاء.
في العالم الاسلامي اليوم ما يكفي من مشاعر الكراهية التي نعرف انها أثمرت عن تفجر العنف في معظم بلدانه. ولا أظننا بحاجة الى المزيد من هذا.
من هنا فاني أشعر بالقلق من عودة الترويج لفكرة الصراع الديني ، والمبالغة في اعتبار تصريحات وقرارات الرئيس الامريكي الجديد او نهوض اليمين في أوربا ، إشارة انطلاق للحرب على الاسلام. مثل هذا الكلام ، بغض النظر عن النوايا الطيبة التي تبرره ، لن يضر الغرب قدر ما يضر المسلمين ، كما حصل فعلا خلال الخمسين عاما الماضية. في هذا التاريخ ما يكفي من العبر لمن أراد ان يعتبر.
الشرق الاوسط 15 فبراير 2017

08/02/2017

وراء تصريحات ترمب وتهديداته



العالم ، شرقا وغربا ، مشغول بالرئيس الامريكي الجديد ، نظرا لغرابة طروحاته والتباين الواضح بين مارآه الناس في شخصه ، وبين الصورة الذهنية المعتادة عن سادة البيت الأبيض. فوز باراك اوباما بالرئاسة في 2008 كان هو الآخر استثنائيا ومفارقا للمألوف ، رغم التباين بين الرجلين وطبيعة ردودالفعل على فوز كل منهما. وأذكر للمناسبة مارواه صديق حضر الاحتفال بإعلان نتائج الانتخابات في السفارة الامريكية. يقول الصديق ان السفير ، وهو جمهوري ذو ميول محافظة ، كان لايخفي قلقه من فوز اوباما. لكنه صعد المنصة فور اعلان النتيجة ، والقى خطبة عصماء ، بكى في أولها ، ثم قال ما مضمونه ان فوز اوباما يمثل في محتواه الرمزي انتصارا للذات الانسانية العميقة التي تحن للإنصاف والفضيلة ، وتعبر عن الصورة التي يريدها الأمريكيون لأنفسهم ، حتى وان اخفقوا في تجسيدها في غالب الأحيان.
اوباما يخطب في برلين
واظن ان الترحيب الواسع الذي حظي به فوز اوباما على امتداد العالم ، لا تختلف دواعيه عن تلك التي أبكت السفير. يتوقع العالم ان يرى الدولة الأقوى – بل أي دولة - ملتزمة بفضائل السياسة واخلاقياتها ، وعلى رأسها الانصاف والمساواة.
اهتمام العالم بفوز ترمب مختلف تماما عما حظي به اوباما. فهو يعبر عن القلق مما ينتظره في العهدالجديد. بينما ولد انتخاب أوباما قدرا من اليقين والكثير من الأمل ، في ان الدولة العظمى الوحيدة ، تعود للاعتدال في التعامل مع ذاتها ومع العالم.
زبدة القول ان الترقب وعدم اليقين هو المحرك العميق لانشغال العالم بالرئيس الجديد. ومحوره هو تصريحات ترمب حول العلاقات الدولية ، مثل حديثه عن الغاء اتفاقية باريس للمناخ ، والزام أوربا بتحمل نفقات الحلف الاطلسي ، وحديثه عن جدار المكسيك ، وخطة القضاء الفوري على داعش ، وتهديده بالغاء الاتفاق النووي مع ايران. هذه جميعا تكشف عن نمط متشدد في العلاقات الدولية.
لكن التدقيق في مجموع وعود ترمب (وتهديداته) قد يعزز فرضية ان "العامل الداخلي" هو موضع اهتمامه الوحيد. جميع احاديث الرئيس خلال الحملة الانتخابية وبعد فوزه بالمكتب البيضاوي ، تدور حول مسلمة رئيسية هي ان الولايات المتحدة قوية بما يكفي كي تستغني عن الدول الاخرى ، اقتصاديا وأمنيا. وان على الحكومة ان تلعب دور صانع المشهد ، وان تجسد تلك القوة في سياساتها الداخلية والخارجية. تنصرف هذه المسلمة الى معنيين على وجه التحديد:
الاول:  ان الولايات المتحدة لا تتحمل كلفة اصلاح العالم أو حمايته. واذا شاركت ، فان حصتها من الكلف لن تزيد عن حصة الآخرين. وان مساعدة الولايات المتحدة للاخرين يجب ان تحسب على اساس تجاري وليس على اساس اخلاقي او سياسي بحت.
الثاني: مهمة الحكومة هي المحافظة على ازدهار بلادها. وهذا ينصرف تحديدا الى المعنى الاقتصادي دون غيره. ويشمل معالجة البطالة ، خفض الضرائب ، زيادة الصادرات ، وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية.
اذا صح هذا التحليل ، فعلينا الانتظار بضعة أسابيع ، ريثما تبدأ الادارة الجديدة في مواجهة استحقاقات السياسة العادية. عندها سيتحدد مدى التحول الذي يمكن للبيت الأبيض فرضه في المشهد المحلي والدولي. وأحتمل ان ابعد تقدير لزمن الاختبار هو قمة مجموعة العشرين المقرر عقدها في المانيا مطلع يونيو. الشهور الاربعة التي تفصلنا عن موعد القمة ستكون مختبرا لمعرفة ماذا سيفعل ترمب في السنوات الاربع القادمة. واحتمل ان معظم انعكاساتها سيكون باتجاه الداخل الامريكي وليس العالم.
الشرق الاوسط 8 فبراير 2017
http://aawsat.com/node/849256

01/02/2017

ترمب على خطى يلتسن



أحتمل ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسرور جدا بسياسات نظيره الامريكي دونالد ترمب. ليس فقط لأن ترمب يحاول ردم الفجوة التي اتسعت بين البلدين منذ استعادة روسيا لشبه جزيرة القرم أوائل 2014. بل أيضا ، وربما بدرجة أكبر ، لأن تلك السياسات ستؤدي - موضوعيا - الى تراجع الحضور الأمريكي في السياسات الدولية ، مما يوسع الطريق امام بوتين ، الساعي لاحياء مكانة روسيا كقطب ثان في النظام العالمي.
الرئيس الروسي بوريس يلتسن (يسار) مع الرئيس الامريكي كلينتون (يمين)

المقارنة بين التوجهات الحالية للرئيسين تذكر بمقارنة عكسية بين الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن ونظيره الامريكي جورج بوش ثم بيل كلينتون خلال الفترة من 1991 حتى 1999. تولى يلتسن الحكم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وتبنى في ولايته الاولى سياسة انكماشية محورها الاهتمام بالداخل الروسي ، واغفال دورها التقليدي في الساحة الدولية. لكنه سرعان ما اكتشف الثمن الفادح للانكماش. فقد أمست روسيا دولة ثانوية مثقلة بالديون ، تلهث وراء السياسات الامريكية ، بعدما كانت منافسها الرئيس في العالم.
في المقابل تبنى الرئيس بوش الأب ومن بعده كلينتون ، سياسة دولية نشطة ، حولت واشنطن الى موجه شبه وحيد لسياسات العالم. وأثمرت عن تصفية النفوذ الروسي في اوربا وافريقيا ، واضعافه بشكل ملموس في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
حين انتبه يلتسن الى هذه الحقيقة في ولايته الثانية ، وجد الوقت قد فات ، ولم يعد بالمستطاع بعث الموتى. والحقيقة انه بذل جهدا خارقا لاقناع الصين بالتعاون معه لاعادة احياء القطبية الثنائية. لكن الصينيين لم يثقوا في جديته. في ديسمبر 1999 ، قبل اسبوع واحد من انتهاء ولايته ، كان يلتسن قد خرج للتو من المستشفى ، حين تحامل على أوجاعه وقام بزيارته الاخيرة للعاصمة الصينية ، في محاولة أخيرة لاقناع زعمائها بجدوى التحالف مع موسكو.  لكن الصينيين المولعين بالتخطيط الاستراتيجي ، لم يروا في الرجل سوى مغامر شعبوي ، تثيره المشكلات الآنية ، ولا يلقي بالا للاستراتيجيات طويلة الامد.
يبدو ان بوتين تعلم الدرس جيدا اثناء عمله مع يلتسن. منذ توليه السلطة في مايو 2000 ، ركز بوتين على استعادة موقع روسيا في الساحة الدولية عبر تخطيط صبور وطويل الأمد. ولعل مبادراتها الاخيرة في سوريا تعكس احد الوجوه البارزة لهذا الدور الجديد.
تذكرت المقارنة بين شخصية ترمب ويلتسن خلال قراءتي لمقال يدعي ان سيد البيت الأبيض يتفاعل مع أخبار التلفزيون ، أكثر من تقارير الاجهزة المتخصصة كالاستخبارات ووزارة الخارجية وغيرهما. انه رجل مؤمن بشخصه أكثر من ثقته بالمؤسسة التي يديرها. ولهذا يعول على انطباعاته الآنية في تكوين الاراء والمواقف. ولعله يبادر لكتابة تغريدة على حسابه في تويتر ردا على ما سمعه في التلفزيون ، بدلا من تحويل المسألة الى وزارة الخارجية او مكتب الناطق الرسمي للبيت الأبيض ، الأكثر احترافا في هذا الشأن. وقيل ان هذا بالضبط ما حصل في الجدل المعروف حول لقائه مع الرئيس المكسيكي ، الذي الغي بتغريدة على تويتر.
من المحتمل ان يعيد ترامب مراجعة سياساته ، سيما مع ما يبديه الحلفاء الاوروبيون من رفض صريح او ضمني ، فضلا عن تململ النخبة في امريكا نفسها. من المحتمل ايضا ان يصر على منهجه. وفي هذه الحالة فهو يوفر الفرصة الذهبية التي تمناها نظيره الروسي الطامح لتقليم أظافر واشنطن في العالم ، مثلما فعلت هي بموسكو في عهد سلفه. 
الشرق الاوسط 1 فبراير 2017 
http://aawsat.com/node/843781

04/01/2017

في علاقة التعليم بالتوتر الاجتماعي


بداية العام الجديد تدعونا للتوقف قليلا لتقييم ما شهدناه في العام المنصرم. لارغبة في ادانة أحد ، بل محاولة لفهم أسباب الفوضى الضاربة في المجتمعات العربية. وسوف أخصص هذه المساحة لبيان الحاجة الى مراجعة الفلسفة العامة للتعليم ، سيما ذلك الذي يتكفل بتشكيل ذهنية الطالب وهويته ، اي مناهج العلوم الانسانية.
لا ينتقل الناس من حال الوئام الى الشقاق والتنازع ، لأن سحرا قد مسهم فغير طبائعهم وقلب اخلاقياتهم.  لا تنعدم الثقة بين الناس ، ولا تنبت العداوة في نفوسهم بين ليلة وضحاها. انما تتفتح بذورها وتمتد جذورها على مدى زمني طويل ، يدركه المتأمل البعيد النظر ، الذي يرى نهاية المسار فور ان يضع الناس أقدامهم على أوله. 
 لطالما أثار اعجابي المستوى الرفيع للمناهج الدراسية في العراق وسوريا. لكن هذين البلدين بالتحديد ، ابتليا في السنوات الماضية بصراع أهلي جسد الكراهية والتوحش على نحو نادر المثال. بطبيعة الحال ليس ثمة رابط بين جودة المناهج وتفاقم الكراهية. انما العيب في المنهج الموازي الذي يربط الوطنية بالعدوان ، ويقرن التفوق بالغلبة وهزيمة الاخر المختلف ، ويصور التنافس الطبيعي على مصالح الدنيا ، كحرب وجود بين أمتنا والأمم الأخرى.
مثل كل الاحزاب الشمولية ، سعى حزب البعث الذي هيمن على السلطة في البلدين الى اعادة كتابة التاريخ ، من خلال تصوير الصراعات التي مرت على المنطقة ، طوال القرون العشرة الماضية ، كمحاولات أجنبية للقضاء على الأمة العربية. الهزائم صورت كمؤامرات ، والانتصارات صورت كبراهين على تمايز الدم العربي عن غيره. وجرى تصوير العربي باعتباره شجاعا وصادقا وصاحب حق لا جدل فيه ، والاجنبي طامعا وجبانا ومحتالا. وجرى تصوير الدين باعتباره منتجا قوميا ، يؤكد تمايز العرب وكونهم شهودا على البشر كافة.
التضخيم المبالغ فيه للهوية القومية ، استلزم التضحية بثلاث هويات ، اولاها الهوية الدينية العامة التي تشكل رابطا بين الفرد وسائر الناس وقناة لتفريغ الاحتقانات وتسكين الجراح. والثانية الهوية الوطنية التي تجمع العربي الى مواطنيه غير العرب. واخيرا الهوية الفردية التي تشير لاستقلال الانسان وتمايزه ، وكونه متحكما في مصيره الخاص.
تتماثل الايديولوجيات السياسية الشمولية ، في انها جميعا تسعى لصياغة هوية المواطن ، على نحو يحوله من شخص طبيعي الى جندي ، في خدمة الاهداف الكبرى لتلك الايديولوجيا والنظام السياسي الذي تقيمه أو تدعو اليه. ولهذا السبب فهي تعمل على تغييب العاطفة ، وتحتقر المصالح الشخصية ، وتركز على مثال الانسان الذائب في الجماعة ، الانسان الذي ينسى مراداته الخاصة وحقوقه الفردية ، وبالطبع حقوق الاخرين الفردية أيضا.
لقد رأينا الان عواقب هذه التربية. وجدير بنا ان نعيد توجيه التعليم العام على نحو يسمح لشبابنا بتشكيل شخصياتهم وفق ثقافة سياسية تفاعلية ، يدرك صاحبها قيمة ذاته واستقلالها ، كما يدرك في الوقت نفسه قيمة القانون والنظام الاجتماعي الذي يعيش فيه. ثقافة تدفع الفرد لاصلاح حياته والاسهام في اصلاح بيئته عبر القانون ، وبالتعاون مع مواطنيه ، وليس بالخروج على النظام العام وقسر الاخرين على اتباع مراداته.
لايوجد كتاب عنوانه "كيف تتمرد على النظام الاجتماعي". لكن مضمون كتاب كهذا ، قد يكون موزعا في العديد من الكتب والمناهج والممارسات التعليمية ، فضلا عن التربية الاجتماعية. وهو يسهم في تشكيل شخصية انفعالية ، تميل الى الاتباع لا الابداع. شخصية جاهزة دائما للولاء وتحويل الولاء بحسب الانفعالات والميول الظرفية.  
الشرق الاوسط 4 يناير 2017

http://aawsat.com/node/822051

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...