07/05/2011

نافذة على فلسفة كارل بوبر



مجلة الخط – العدد الثالث – مايو 2011

اكتب هذه الملاحظات ناصحا زملائي واصدقائي بقراءة كارل بوبر ، الفيلسوف البريطاني ، النمساوي المولد ، الذي يعتبر واحدا من اهم الفلاسفة المعاصرين واكثرهم تاثيرا. رغم اني اميل شخصيا الى نظرية "تغير الانساق" التي اقترحها توماس كون فيما يتعلق بفلسفة العلم ، الا ان فلسفة بوبر تذهب الى افاق اوسع من تلك التي عالجها كون ، في فلسفة المعرفة وفي الفلسفة السياسية والمجتمع وغيرها.


ولد بوبر في فيينا عام 1902 ، وتوفي في 1994. في اوائل القرن العشرين اشتهرت فيينا بحلقاتها العلمية ولا سيما الفلسفية ، وكان لكل حلقة مذهب خاص ، وقد انتجت تلك الحلقات بعض اهم المساهمات في الفلسفة الحديثة. ليس من قبيل المبالغة القول بان الامة الالمانية قد ارست بعض اهم الاسس في العلوم والتقنيات الحديثة ، ولا شك ان شيوع الفكر الفلسفي في الثقافة الالمانية كان من ابرز العوامل وراء شيوع التفكير العلمي.

قدم بوبر نظرية هامة في فلسفة العلم تبدأ بنقد منهج الاستقراء الذي يقوم في صورته المبسطة على ملاحظة العناصر المشتركة بين الامثلة الواقعية وصياغة قاعدة عامة وصفية بناء على تلك المشتركات. رأى بوبر ان ملاحظة الواقع ليست بسيطة : حين ترى شيئا فانك لا تستعمل عينك فقط ، العين هي مجرد اداة لنقل المشهد الخارجي الى منصة فرز وتصنيف في داخل عقلك. هذه المنصة هي اداة فهم للاشياء تتشكل على ضوء ثقافتك السابقة وتوقعاتك وفهمك لنفسك ولمحيطك. ولهذا فان الوصف الذي تعطيه لذلك الشيء يتضمن – بصورة صريحة او ضمنية – حكما عليه. ومن هنا فان ما قرر الباحث انه عنصر اشتراك بين الاشياء هو في حقيقة الامر حكمه الخاص عليها ، وهو حكم قد يحكي الواقع وقد يجافيه.

 

يعتقد بوبر ان البحث العلمي في كل مراحله هو سلسلة من المشكلات الذهنية او الواقعية التي يجري تجريب الحلول عليها بشكل تدريجي. ما نسميه حلا او تفسيرا او نظرية هو في واقع الامر تجربة او مرحلة من مراحل تطور الفكرة وليس نهايتها. الباحثون في العلوم لا يختلفون في عملهم عن سائر الناس . اولئك مثل هؤلاء ، يتبعون نفس الطريق التجريبي في التعامل مع المشكلات التي يواجهونها . تبدأ العملية بتحديد المشكلة ، وهذا يقود الى بروز العديد من الحلول المحتملة ، التي تخضع للمقارنة بغرض استبعاد الاحتمالات الاضعف . ما ينتج عن هذه العملية هو احتمال اقوى وليس حلا نهائيا او حقيقة صريحة . سياتي اشخاص اخرون ويكتشفون بعض العيوب في تلك النتيجة ، ويقترحون حلا ارقى ، اي اقل عيوبا. وهكذا تستمر العملية ولا تتوقف ابدا. من هنا فان البحث العلمي لا يستهدف اثبات حقائق نهائية ، وهو على اي حال لا يستطيع بلوغ هذه المرتبة مهما حاول . هدف البحث العلمي هو تقديم حلول مؤقتة كل منها يمثل احتمالا افضل في وقته.

وضع بوبر معيارا للتمييز بين ما يعتبره علميا او غير علمي ، اثار الكثير من الجدل ، فحواه ان القابلية للتفنيد هي ما يميز العلمي عن غير العلمي. النظريات التي لا يمكن دحضها او تفنيدها ليست علما. يجب ان تكون الفكرة قابلة للتفنيد كي توصف بانها علمية. كلما ازدادت العناصر القابلة للتفنيد في النظرية كانت اقرب الى العلمية والعكس بالعكس. بناء على هذا المعيار قرر بوبر ان المادية التاريخية التي تعتبر من اعمدة النظرية الماركسية ليست علما لانها لا تحوي عناصر قابلة للتفنيد. كذلك الامر بالنسبة لنظرية فرويد المشهورة في التحليل النفسي.

غير العلمي يمكن ان يكون ايديولوجيا او ايمانا او ميتافيزيقا او انطباعا شخصيا ، اي – في العموم- شيء تؤمن به لانك تريد ذلك ، بغض النظر عن قابليته للاثبات والتجربة او عدمها. هذا المعيار ، الذي يبدو غريبا بعض الشيء ، ينطلق من اعتقاد بوبر بان العلم ليس اكتشافا واحدا ، بل هو سلسلة من الكشوف التي لا تتوقف . يتوقف العلم اذا توصلنا الى الحقيقة النهائية ، لكن هذا مستحيل بالنسبة للانسان . نحن نسعى للتعلم والبحث لا ننا لا نعرف الحقيقة الكاملة والنهائية ، ولو وصلنا الى هذه الغاية لما عاد الانسان محتاجا الى العلم ، وهذا من الاحتمالات المستحيلة.

يخلص بوبر من وراء هذه التحليل الى ان النظرية التي نعارضها قد لا تكون "خطأ" في الحقيقة ، بل هي احد الاحتمالات ، وان ردنا عليها هو احتمال آخر. سلسلة الاحتمالات هذه هي خط متصاعد يتطور من خلاله العلم وتتسع المعرفة. كل احتمال هو مرحلة ، ليس بالضرورة خطأ وليس بالضرورة صحيحا. هي في كل الاحوال احتمالات ومراحل تطور. نحن نستفيد من الفكرة التي نعتبرها خاطئة بقدر استفادتنا من الفكرة التي نعتبرها صحيحة.  فالاولى مثل الثانية تفتح اعيننا على بدائل وخيارات مختلفة عنها.

"منطق البحث العلمي" و "المجتمع المفتوح واعداؤه" هي ابرز كتب بوبر التي ترجمت الى اللغة العربية ، ويحوي الاول ابرز محاور نظريته في المعرفة ، بينما يدور الثاني بشكل رئيسي حول فلسفته السياسية التي ركز فيها على نقد الانظمة الشمولية والمثالية.

دار معظم فصول الكتاب الثاني حول نقد اليوتوبيا التي اقترحها الفيلسوف اليوناني افلاطون في "الجمهورية". ويعتقد بوبر ان اليوتوبيات او النظريات المثالية كانت من اكثر الافكار التي اساءت للانسان ، لانها قامت ابتداء على انكار فردانيته وخصوصيته ، وبررت للاقوياء ميولهم للاستبداد والتسلط. ولعل الانظمة الشمولية مثل النازية والشيوعية هي ابرز تمثلات المباديء السياسية القائمة على يوتوبيا . فهي تنطلق من ايمان اصحابها بانهم يملكون الحقيقة والادوات المناسبة لاجبار الاخرين على ان يكونوا صالحين وسعداء.

ويكرر بوبر السؤال الذي تردد عبر العصور: هل يستطيع احد غيري ان يحقق لي السعادة التي اتصورها واسعى اليها؟ هل السعادة تصور شخصي لما يريد الانسان ان يكون عليه او يفعله لنفسه ، ام هي تصور يصنعه الاخرون ويحشرونك في عباءته؟  بعبارة اخرى : هل انا الذي اصمم حياتي كي اصل الى سعادتي الخاصة ، ام ان غيري هو الذي يفكر نيابة عني ويقرر كيف يجب ان اعيش وما هو معنى السعادة التي اريدها؟.

مقالات ذات صلة
كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي
نافذة على فلسفة كارل بوبر
حول القراءة الايديولوجية للدين

نافذة على مفهوم "البراغماتية"

مدينة الفضائل

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟


29/04/2011

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

لو اردنا تلخيص تاريخ الانسان منذ البداية وحتى اليوم في جملة واحدة ، لقلنا انه : كفاح من اجل التحرر والانعتاق. التحرر من قيود الطبيعة والتحرر من قيود الخرافة والتحرر من قيود الغشم والتحكم . جوهر انسانية الانسان هو ان يعيش حرا منطلقا قادرا على تجاوز حدود الجغرافيا وحدود البيئة وحدود الذات. كمال الانسان يكمن في تحرره ، في انطلاق عقله ، ولهذا وضع التحرر بين اهداف الرسالات السماوية  "ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم".

- هل تحتاج الحرية الى اثبات نظري؟.   

ربما ، لكننا ندعو المرتابين في ضرورتها الى تجربتها اذا لم يكونوا قد فعلوا، او الى التامل في معنى وقيمة الحرية التي مارسوها . ازعم انه لا يوجد انسان الا وقد خاض تجربة التحرر ، وازعم انه لا يوجد انسان الا وقد احب الحرية وكره القيود.

ربما يختلف الناس في مساحة الحرية التي يشعرون بالحاجة اليها ، وربما يختلفون في تقديرهم لمساحة المسؤولية التي تناظر مساحة الحرية ، وربما يختلفون في تقدير ضرورتها في وقت معين ، او في اهلية الاخرين لتحمل ما يترتب عليها. لكن لا يوجد احد في شرق العالم او غربه ، في حاضر الزمن او غابره ، يجرؤ على القول صراحة انه ضد الحرية أو ان العبودية خير منها.

هذه الخلافات لا تدور في حقيقتها حول قيمة الحرية وضرورتها ، بل حول اولويتها على غيرها من الخيرات الاجتماعية. اشتهرت الماركسية بتقديمها للعدالة الاجتماعية على الحرية ، وهي تبرر ذلك بان الحرية لا معنى لها اذا كنت جائعا او فقيرا معدما. لا يستطيع الانسان التمتع بحريته طالما كان مفتقرا الى ضرورات الحياة الاولية مثل الغذاء والدواء والمسكن. 

واشتهر الناصريون بشعارهم المعروف "لاصوت يعلو فوق صوت المعركة". كان تحرير الارض اولى عندهم من تحرر الانسان. وفي وقتنا الحاضر تقف شريحة كبيرة من الاسلاميين التقليديين ضد دعاة الحرية لانهم يرون فيها طريقا الى انفلات الزمام وتدهور المعايير والاعراف التي يرونها ضرورية لصيانة اخلاقيات المجتمع والتزاماته الدينية.

هذه المبررات لا تقنع الليبراليين ، لان القبول بها يعني في نهاية المطاف التضحية باغلى القيم الانسانية ، اي جوهر انسانية الانسان. صحيح  ان لقمة العيش اغلى من الحرية واولى ، لكن هذا التفاضل ظرفي محدود بزمانه ومكانه واشخاصه ، ولا يصح تعميمه. الليبراليون رفضوا الماركسية التي تجعل الدولة متحكمة في الحرية ولقمة العيش معا. وهم يقولون للدولة : دعوا الناس يصنعون حياتهم بعقولهم وايديهم. لا يحتاج الناس الى لقمة العيش التي تقدمها الدولة ، بل يحتاجون الى الحرية وحق الاختيار وسوف يدبرون خبزهم وما يزيد عن الخبز.

ورفض الليبراليون المقولة الناصرية ، لان العبيد لا يحررون ارضا ولا يبنون وطنا ، بل ليس من المنطق ان تدعو لتحرير الارض بينما تستعبد اهلها واصحابها. ورفض الليبراليون مقولات الاسلاميين التقليديين ، لانها تنطلق من ارتياب في اهلية الانسان وقدرته على التحكم في افعاله وتحمل مسؤولياته. هذا الارتياب يذكر بفلسفة الاثم الاصلي المسيحية التي تعتبر الانسان آثما بطبعه  ، وانه اميل الى ظلمات الشيطان منه الى نور الرحمن.

الليبرالية ليست ايديولوجيا مغلقة ، وليست نموذجا مفردا تاخذه كله او تتركه كله. الليبرالية ليست منتجا ينسب الى شخص او هيئة او دولة على وجه التحديد. انها تعبير شبه معياري عن تطلع انساني يتناغم مع طبيعة الانسان الاصلية التواقة الى التحرر والانعتاق.

ربما يستعمل بعض الناس مسمى الليبرالية ضد الدين او ضد المجتمع ، مثلما يستعمل اخرون مسمى الدين ضد الحرية او ضد المجتمع. ومثلما استعمل الماركسيون مبدأ العدالة الاجتماعية في اقامة دولة اشبه بمعسكر. لكن هذه لا تعيب الفكرة . يبقى الدين في الجوهر منهجا للخلاص الانساني ، كما تبقى الليبرالية عنوانا لتطلع الانسان نحو الحرية. 

 

مقالات ذات علاقة 

ان تكون عبدا لغيرك

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها الق...

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بين مفهومين

الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

الحرية وحق الاختلاف في منظور الاسلاميين: عرض كتاب

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

الطريق الليبرالي

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون 

الليبرالية ليست خيارا 

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

الهجوم على الليبرالية ليس سيئا 

 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...