09/10/2008

ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟



قبل عقدين من الزمن حذر باحثون من افراط دول الخليج في ربط حياة سكانها واقتصادياتها بتصدير البترول الخام . وظهرت في هذا السياق دراسات كثيرة تدعو الى تنويع مصادر الدخل القومي ، توسيع القاعدة الانتاجية للاقتصاد الوطني ، والاهتمام بتطوير القدرات البشرية. اواخر الثمانينات من القرن المنصرم تدهورت اسواق البترول ، فانخفضت اسعاره ومعها الدخل القومي في دول الخليج .
ونتيجة لذلك فقد شهدت جميع هذه الدول هزات اقتصادية اظهرت ان التحذيرات السابقة لم تكن كوابيس متشائمة ، بل رؤيا صادقة مستمدة من دراسات محايدة وتجارب فعلية . فقد بدأنا نسمع عن ازمة بطالة لا تستطيع الحكومات علاجها حتى في اقل الدول سكانا واكثرها ثروة . بطبيعة الحال فقد سالت انهار من الحبر في رثاء مرحلة الطفرة والدعوة للترشيد وحماية المال العام وما اشبه . لكن احدا من السياسيين والمخططين لم يخرج الى العلن ليقول انه قد اخطأ في حساباته القديمة وانه كان بحاجة الى توجيه معظم الاموال التي كانت متوفرة بكثرة الى الاستثمار المحلي ، ولا سيما في ايجاد مصادر جديدة للدخل القومي الى جانب البترول.

 لا نتوقع من الحكومات العربية الاعتراف بالخطأ ، فهذه ليست عادة عربية. لكننا ايضا لم نسمع عن دراسة لنقاط الضعف التي شابت السياسات الاقتصادية السابقة ، ولم نسمع عن استراتيجيات بديلة ، واقعية او افتراضية ، لتعويض ما فات . استراتيجيات تجيب على سؤال : ماذا سنفعل لو عاد زمن الطفرة النفطية وتوفر لنا نفس القدر من المال الذي غفلنا عن استثماره في عقد السبعينات؟.

خلال السنوات الخمس الماضية ، واصلت اسعار البترول ارتفاعها وحققت مستويات غير مسبوقة . واثمر هذا عن حل الكثير من المشكلات المؤرقة مثل مشكلة البطالة والسكن وانخفاض الاستثمار في الخدمات العامة. لكن يبدو اننا لا نتعلم من تجاربنا الخاصة فضلا عن تجارب غيرنا . خلال هذه الفترة تضاعف الدخل القومي في الخليج عدة مرات وحققنا للمرة الاولى منذ عقدين فوائض هائلة . لكن الاهتمام بتنويع مصادر الدخل القومي لا زال فاترا .

 نجد ان قطاع التطوير العقاري قد استحوذ على حصة الاسد من مجمل الاستثمار الاهلي والحكومي خلال هذه الفترة . نعرف طبعا ان هذا القطاع هو الاقرب الى قلوب الناس ، لان الثقافة التقليدية السائدة في الخليج تقول عادة "ان العقار يمرض لكنه لا يموت". بعبارة اخرى فان المخاطرة في هذا القطاع شبه معدومة. بخلاف الاستثمار في الصناعة والتقنية الذي يعتبر عندنا خطيرا بسبب احتياجه الى رساميل كبيرة وكفاءة تشغيل وادارة عالية.

لا يستطيع احد ان يلوم القطاع الخاص اذا ابتعد عن المغامرة ، لكننا بالطبع نلوم الحكومات اذا تبنت نفس هذا المنظور الكسيح. في كل دول العالم ، الراسمالية فضلا عن غيرها ، تتحمل الحكومات عبء المغامرة في القطاعات التي يعرض عنها بقية الناس . ولا سيما تلك القطاعات الضرورية للحفاظ على الثروة الوطنية او تطوير مستوى الحياة ، ومن بينها بطبيعة الحال الاستثمارات الضرورية لتنويع مصادر الدخل القومي وتعزيز الدورة المحلية لرؤوس الاموال.
كما نلوم الحكومات اذا وجدنا القطاع الخاص خائفا او مترددا . الخوف من المخاطرة الاستثمارية ليس صفة ثابتة او نهائية ، فهي تتناسب مع تقدير المستثمر للعناصر التي تشكل البيئة الاستثمارية في بلده. خلق البيئة الاستثمارية الجاذبة ليس مسؤولية المستثمرين بل مسؤولية الدولة. الدولة وحدها تستطيع اقناع الناس بان القانون سيد وحاكم ، وان الجميع يحصل على نفس الامتيازات ويتحمل نفس المسؤوليات. الدولة وحدها تستطيع اقناع المستثمرين بان السياسات توضع لتسهيل الاعمال لا لتعقيدها ، وانها مرنة في معالجة الاشكالات والعوائق التي تظهر بين حين واخر.
 اذا وجدت البيئة الاستثمارية المناسبة ، فسيقبل المستثمرون – بعضهم على الاقل – على العمل في بلدهم. لكنهم سيبحثون عن الفرص المتاحة خارجها اذا وجدوا الابواب مغلقة والاذان صماء.

رغم ان اسعار البترول لا زالت اعلى من اي وقت في السنوات الماضية ، الا ان الفوضى العارمة في اسواق العالم المالية تلقي بظلال سوداء على النشاط الاقتصادي في الدول المستهلكة للبترول . واذا حصل ذلك فسوف نشهد بالتاكيد تراجعا منتظما في اسعاره ، ربما تعيدنا الى الظروف التي عرفناها في الثمانينات ولم نتعظ بدروسها. قد لا يحدث الاسوأ ، لكن من يضمن ذلك؟. من كان يعرف ان اسعار البترول التي بلغت 45 دولارا في اواخر السبعينات ستعود الى 15 دولارا في منتصف الثمانينات ؟. من كان يعرف ان مئات المليارات من الفوائض التي تراكمت في تلك الحقبة سوف تتبخر مثل قطعة ثلج في عز الصيف ؟.

دعونا نقف الان لنفكر في الاجابة على ذات السؤال الذي سكتنا عنه خلال الازمة السابقة : ما هو العيوب التي ظهرت في نظامنا الاقتصادي ، وماذا كنا سنفعل لو توفر لدينا المال الكافي ؟.
الايام 9-10-2008

20/09/2008

من يستطيع اتخاذ قرار القتل

انشغلت البلاد هذا الاسبوع بفتوى الشيخ صالح اللحيدان الذي اجاز قتل ملاك القنوات التلفزيونية غير الملتزمة بتعاليم الدين الحنيف. ومع ان اللحيدان الذي يراس مجلس القضاء الاعلى حاول لاحقا التخفيف من حدة فتواه واصدر ما يشبه الاعتذار عنها ، الا ان الجدل حولها لم يتوقف. واللحيدان واحد من الثلاثة الكبار في المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية ، وهو ينتمي الى مدينة البكيرية بمنطقة القصيم التي جاء منها معظم الزعماء الدينيين وكبار رجال الدولة. 

هل يُعذر الجاهل بجهله في أمور دينه ؟ : الشيخ صالح اللحيدان حفظه ...

وخلال العقد الاخير اصبح مع زميله الشيخ صالح الفوزان نقطة جذب للتيار التقليدي المتشدد ، واتخذ مواقف معارضة للملك عبد الله ، كان ابرزها معارضته لالحاق تعليم البنات بوزارة التربية بعدما بقي نصف قرن تحت هيمنة المؤسسة الدينية ، فضلا عن تجميده لبرنامج اصلاحات في الجهاز القضائي. كما اظهر في مناسبات عدة قلقه من تساهل الحكومة مع ما يعتبره تناميا مضطردا للاتجاه الليبرالي بين السعوديين.

ولفت الانتباه في الجدل المذكور سكوت الاعلام الرسمي عن الهجوم الشرس الذي تعرض له اللحيدان. كما ان مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز ال الشيخ ، ناى بنفسه عن الجدل قائلا انه لم يبلغ بحيثياته . اما الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار في وزارة العدل وعضو مجلس الشورى فقد نشر ردا عنيفا على اللحيدان واتهمه بتبرير الارهاب والاساءة الى سمعة البلاد . وياتي الهجوم الصحفي على اللحيدان بعد ايام قليلة من هجوم مماثل على زميله في هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان على خلفية معارك مع صحفيين وكتاب راي. ويقول كثير من السعوديين ان ما جرى يدل على نهاية العصر الذي كان محرما فيه توجيه النقد الى رجال الدين ولا سيما الكبار منهم.

وتشكل القضية في مجملها دليلا على تصاعد الصراع بين جيلين من رجال الدين. الجيل القديم الذي استمد قوته من المؤسسة الرسمية ونجح في تحويلها الى مركز قوة شخصي ، والجيل الجديد الذي يحاول الاستقواء بالشارع ، ولا سيما الطبقة الوسطى ، لازاحة سلفه. ولم تحسم الحكومة امرها ، فهي من الناحية الرسمية تقف مع الجيل القديم الذي يعتبر حليفا معروفا ، لكنه في الوقت نفسه عاجز عن تفهم الحاجات السياسية للدولة ، سيما بعد احداث 11 سبتمبر التي رسمت صورة قاتمة للمملكة وتوجهاتها الدينية. من ناحية اخرى فان كثيرا من كبار مسؤولي الدولة يميلون الى الخطاب المعتدل نسبيا الذي يعبر عنه دعاة من الجيل الجديد مثل عبد المحسن العبيكان وعايض القرني وسلمان العودة . ويعتقد ان هؤلاء اقدر على اعاقة انتشار التيار الذي يوصف بالسلفية الجهادية ، المؤيد لزعيم القاعدة اسامة بن لادن . لكن الاجهزة الحكومية ، لا سيما الامنية منها ، لا تثق تماما في الدعاة الجدد ، خاصة وانهم جميعا صنعوا نفوذهم خارج الاطار الرسمي ، وكانت لهم توجهات معارضة في الماضي.

  من ناحية اخرى فان الجدل يمثل نوعا من الاختبار لنفوذ الاطراف المشاركة فيه. تساءل احد المراقبين : اذا كان اللحيدان يرى ان ملاك القنوات الفضائية يستحقون القتل ، فلماذا لم يحرك القضاء الذي يرأسه لاتخاذ اجراءات فعلية ، خاصة وان معظم القنوات التي يدور حولها الجدل مملوكة لسعوديين او يشارك في تمويلها سعوديون. "حين تكون خارج السلطة – يقول احدهم - فان فتواك هي مجرد رأي ودعوة ، اما حين تملك السلطة اللازمة فانك مسؤول عن تنفيذ ما تراه حقا وضروريا". لكن الجميع يعلم ان اللحيدان لا يستطيع تنفيذ فتواه حتى لو كان رئيسا للجهاز القضائي . قضية مثل هذه تحتاج الى قرار سياسي يتجاوز السلطة القضائية ، وهو يعلم انه لا يملك هذا القرار وان قرارا  كهذا لن يتخذ في اي وقت . في مناسبات سابقة تدخلت الحكومة لصالح منتقدين للمؤسسة الدينية الرسمية ورجال الدين . وقبل عامين حكم احد القضاء بالجلد على الدكتور حمزة المزيني ، وهو اكاديمي ومفكر اشتهر بنقده العنيف للمؤسسة الدينية ، لكن تدخل الحكومة ادى الى تعطيل الحكم استنادا الى نص في قانون المطبوعات يخص وزارة الاعلام بالحكم في جرائم النشر . وقيل يومئذ ان الحكومة لم تشأ السماح لرجال الدين المتشددين باستثمار سيطرتهم على القضاء في تصفية حسابات خاصة .

من المؤكد ان سكوت الهيئات الرسمية عن الجدل الحاضر هو اسلم الخيارات . فهو سيكفل من جهة تفهيم كل طرف بالحدود التي ينبغي ان يتوقف عندها ، وسيضمن من جهة اخرى اضعاف موقف رجال الدين الكبار الذين ربما فكروا في استثمار مكانتهم لاعاقة سياسات حكومية لا يرتضونها .

تكشف هذه القضية عن جانب من التجاذبات الكثيرة التي يحفل بها المشهد السياسي في منطقة الخليج ، ولا سيما تلك التجاذبات الدائرة حول مكانة الدين في الحياة العامة وحدود الدور السياسي لرجال الدين ، الذين في مؤسسة الدولة والذين في خارجها.

20 سبتمبر 2008

مقالات ذات صلة

تحولات الاسلام السياسي في السعودية ومستقبله

التيار الديني والدولة في المملكة : تحليل لمسار العلاقة

بعد عام على صدوره : بيان "نحو دولة الحقوق والمؤسسات" حجر زاوية في تاريخ التيار الديني السعودي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

ثوب فقهي لمعركة سياسية

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

رأي الفقيه ليس حكم الله

 فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

 في الفتوى والتخصص

 تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

الشيخ القرني في باريس وجهات "الخطر" وقهر العامة

  لتفاصيل حول فتوى الشيخ اللحيدان ، انظر  العربية.نت (14-9-2008)

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...