29/07/2007

شرطة من دون شهوات

المجتمع المثالي عند اصحاب اليوتوبيا او المدينة الفاضلة هو المجتمع المنضبط ، الذي يعيش اهله تبعا لتخطيط رسمي مسبق ، يشمل حتى غرف نومهم. انه مجتمع يخلو من العفوية ويخلو من الاهواء الفردية. لكننا نعرف ان مثل هذا المجتمع غير موجود في العالم الحقيقي. لذلك يقترح اليوتوبيون اعادة تركيب النظام الاجتماعي على نحو يشبه ما يعرف اليوم بالهندسة الاجتماعية. اي اعادة صياغة التراتب وتوزيع القوى في المجتمع على نحو يضع كل شيء في مكانه الصحيح ، كما يسهل الرقابة الصارمة والسيطرة شبه الاتوماتيكية على مسارات الحياة الفردية والعامة.

رسم تخيلي للمدينة الفاضلة لفنان غير معروف من عصر النهضة الاوربية-يحتفظ بها متحف بلتيمور

رأى افلاطون -مثلاً- أن على حراس المدينة الفاضلة (أي أفراد جيشها وشرطتها) ان يتخلصوا من شهواتهم ورغباتهم الشخصية ، فلا يملكون اموالا او بيوتا خاصة ولا ينشئون عائلات ، كي لا يكتشفوا اسباب الجشع والتنافس والانشغال بالذات. وتقترح «يوتوبيا» توماس مور ان لا يمنح مواطنو المدينة حرية السفر.

 من اراد الخروج الى الريف فعليه ان يحصل على رخصة من أمير المدينة تحدد وجهته ومدة سفره ، فاذا تجاوز ذلك عوقب بشدة ، واذا كررها خسر حريته واصبح عبدا. اما «مدينة الشمس» لتوماسو كامبانيلا ، فتقترح ان يشرف القضاة على العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء ، لضمان الحصول على نسل افضل. واقترح مابلي الغاء الملكية الخاصة كليا لانها اصل الشرور والحروب والكراهية في العالم.

هناك بطبيعة الحال فوارق وتعارضات بين نماذج اليوتوبيا المختلفة. نلاحظ ايضا ان نماذج اليوتوبيا المتأخرة قد تأثرت بالنزوع العام الى احترام الحريات الفردية ، كما لا بد من ملاحظة تأثير التطور العلمي والظرف التاريخي الذي كتبت فيه على منحى الكاتب وهمومه. لكنها جميعا تكشف عن ميل عام لتنظيم مركزي شبه حديدي.

 وقد لاحظت ماريا برنيري في «المدينة الفاضلة عبر التاريخ» عددا من السمات التي تشترك فيها النماذج النظرية للمدن الفاضلة في مختلف العصور ، الامر الذي يسمح بالقول ان هذه هي السمات الرئيسية المشتركة للتفكير المثالي او اليوتوبي. من ابرز تلك السمات تقديس الجماعة والرابطة الاجتماعية والتهوين من شأن الفرد وربما الالغاء الكلي لقيمته ككائن مستقل ، عاقل ، وكفء. ونادرا ما اهتم اليوتوبيون بما يعرف اليوم بالفروق الفردية ، اي الصفات الذهنية او الخلقية او البدنية التي تميز الافراد عن بعضهم ، وتمكنهم من تنظيم حياتهم على نحو قد لا يتطابق مع بقية الناس.

ويتسم التفكير اليوتوبي ايضا بالنخبوية. فالنظام الاجتماعي-السياسي الامثل عندهم جميعا هو ذلك الذي تتحكم فيه النخبة العليا ، وينعدم فيه دور عامة الناس او يتقلص الى اضيق الحدود. ذلك ان مشاركة الجمهور في السياسة ستؤدي حسبما رأى الفارابي في «السياسة المدنية» الى تحكم الرعاع في الرؤساء وسيطرة الاغراض الجاهلية على حياة الجماعة.

 واظن ان هذا التوجه ناتج عن اعتقاد مكين عند المثاليين بان قيم العمل وتعريف المصالح والمفاسد ، سواء على المستوى الفردي او العام ، ليس من الامور العرفية التي يحددها عامة الناس ، بل هي اعمال علمية تختص بها النخبة العالمة او الحاكمة. بعبارة اخرى ، فان هؤلاء الكتاب لا يرون الفرد عاقلا بما يكفي لتقرير ما هو صالح وما هو فاسد لنفسه او للغير.

كما لا يرون في اجتماع الناس سبيلا سليما الى تشخيص المصالح والمفاسد. بل يرجعون الامر الى جهة محددة تختص بتحديد وتعريف القيم والمعايير والمصالح ، وهي ايضا التي تضع القوانين وتلزم الناس باتباعها. هذه الجهة – التي يمكن ان تكون الحكومة او نخبة المجتمع – اكثر علما وعدلا وابعد عن الاهواء والشهوات من عامة الناس ، اي اكثر اهلية لاداء تلك الادوار.

يتطلب الامر اذن دولة قوية وقانونا يفرض من دون تسامح. ومن هنا فان المثاليين لا يعيرون فكرة الحرية الفردية كبير اهتمام. بل يرون ان سعادة الانسان الحقيقية تكمن في التزامه بالنظام الاجتماعي العام ، وان حريته تتحقق داخل اطار القانون مهما كان ضيقا. في الحقيقة فان مفهوم الحرية عندهم مقصور على طاعة القانون وليس الاختيار الفردي الحر. ولعل هذا من ابرز عناصر النزاع بين الدعوات المثالية والفلسفة السياسية الحديثة.

https://www.okaz.com.sa/ampArticle/121315
عكاظ - الاحد  15/07/1428هـ ) 29/ يوليو/2007  العدد : 2233
 

25/07/2007

اشتم اتاتورك او امدحه، عوامل النصر في مكان آخر

 لا بد ان السيد ايمن الظواهري واتباعه منشغلون الان في اعداد بيانات التنديد بالسيد طيب اردوغان وحزبه، لا سيما بعد تعهده بالمحافظة على النهج العلماني واشادته بمؤسس الجمهورية التركية كمال اتاتورك. حقق حزب العدالة والتنمية فوزا كاسحا للمرة الثانية على التوالي. واصبح اردوغان ثاني رئيس حكومة في التاريخ التركي المعاصر يحافظ على اغلبية برلمانية في دورتين متتابعتين. وسبقه الى هذا عدنان مندريس، ذي التوجهات الاسلامية ايضا، في مطلع الستينات.

ركزت الاحزاب العلمانية دعايتها الانتخابية على تخويف الجمهور التركي مما اسمته باجندة سرية لحزب العدالة والتنمية، تستهدف خصوصا الغاء العلمانية واحياء التراث العثماني المتخلف. بينما ركز حزب العدالة على ما حققه من انجازات فعلية على مستوى الاقتصاد والحريات العامة راهن العلمانيون على الطبقة الوسطى والعليا التي يفترض انها اكثر التزاما بالعلمانية، لكن هذه الطبقة اعطت اصواتها لحزب العدالة. قطاع الاعمال شهد خلال السنوات الخمس الماضية ازدهارا لم يسبق له مثيل في العقدين الاخيرين.

والاكاديميون والمثقفون وكبار الاداريين لمسوا للمرة الاولى الفارق بين العيش تحت سطوة الجيش والمخابرات والعيش بحرية في ظل نظام سياسي يحتضن الجميع. بالنسبة لهؤلاء واولئك فان الازدهار الاقتصادي وضمان الحريات المدنية والحصانة الشخصية ضد قمع السلطة هو المعيار الاساس لصلاح الحكم او فساده. ولعله من سوء حظ العلمانيين ان قادة الجيش قد وقفوا الى صفهم، وهو امر يذكر الطبقة الوسطى بسنوات الحكم العسكري السابقة.

خلال السنوات الثلاث الماضية كانت السوق التركية محطة بارزة للاستثمارات الخارجية، التي جاء معظمها من اوربا. وتحقق هذا بفضل ما فعلته حكومة السيد اردوغان لابعاد العسكر عن الحياة العامة، وتطوير النظام القانوني وبيئة الاستثمار كي تتوافق مع المعايير الاوربية. حين تولى حزب العدالة الحكم في 2002، كانت تركيا قد خرجت للتو من انهيار اقتصادي شامل، لكن الحزب نجح في اعادة احياء الاقتصاد وتوفير فرص عمل جديدة من خلال تشجيع الاستثمار المحلي والاجنبي. ولهذا اصبح الحزب حليفا طبيعيا لقطاع الاعمال ولعامة الناس على السواء.

لم ينجح حزب العدالة بسبب طابعه الاسلامي. ولو كان الامر كذلك لنجح حزب السعادة، الاقوى تمثيلا للتيار الديني، والذي يضم ابرز الشخصيات الاسلامية التركية، ولا سيما رفاق نجم الدين اردكان وتلاميذه.

صوت الاتراك لحزب العدالة لانه نجح في تقديم حلول ملموسة لمشكلات حياتهم اليومية، ولانه نجح في تامين حرياتهم المدنية التي طالما خرقها النظام الامني الشديد القسوة. وليس من شك ان الطابع الاسلامي العام للحزب كان له دور مساعد، فالناس يقدرون الرجال المكافحين من اجل مبادئهم، والذين لم يكلفوا انفسهم عناء التزلف الى قادة الجيش كما اعتاد اسلافهم من رجال السياسة.

الفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية درس بليغ للحركيين والدعاة الاسلاميين: الديمقراطية هي الطريق الامثل لخدمة الاسلام. خدمة الاسلام قد تتحقق بزيادة عدد المصلين في المساجد، لكنها ستكون اعمق وابلغ اثرا اذا اصبح قائدا لمسيرة مجتمع كامل كما هو الحال في تركيا. جرب الاسلاميون طرقا عديدة، مثل الثورة على الطريقة الايرانية، والانقلاب العسكري على الطريقة السودانية والحرب الاهلية على الطريقة الافغانية والعنف الاهوج على طريقة القاعدة وروافدها، ويظهر الان واضحا ان التجربة التركية هي الاكثر سلامة.

نجحت هذه التجربة لانها تخلت عن التقاليد القديمة وما يلحق بها من قيم ومعايير، والتزمت بالحداثة في قيمها المؤسسة ونظام علاقاتها واهدافها وادوات عملها ومعاييرها. الديمقراطية والقبول بالتعدد والمنافسة، والالتزام بالكفاءة والانجاز كارضية للمكانة، والتعويل على المصلحة المادية لمجموع الشعب كمحور للعمل، والانفتاح على العالم وتشبيك المصالح معه، والتطوير التدريجي للاهداف والوسائل، وقبول النقد.

 هذه كلها قيم الحداثة التي ينبغي لنا جميعا ان نتعلم درسها. سواء تعلق الامر بعمل سياسي او باصلاح اجتماعي فاننا نحتاج الى نموذج جديد، غير هذا الذي رافقنا طوال القرون ولم نفلح معه، ولم يفلح في اي مكان. التجربة التركية تشير بكل وضوح الى فضل نموذج الحداثة السياسية على سواه. وهي تدعونا الى الاعتبار ان كنا نرى في دروس التاريخ عبرة.

- « صحيفة عكاظ » - 25 / 7 / 2007م - 

 

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...