03/03/2001

تخفيف اعباء الدولة


التخصيص أو الخوصصة كما يسميها اخواننا المغاربة ، اصبحت الان درة التاج في السياسات الاقتصادية للعالم العربي. ونعني بهذا تخصيص مؤسسات الخدمة العامة ذات الطبيعة الاستراتيجية ، واهمها تلك الخدمات التي تشكل - بصوة من الصور - مصدر دلالة على مشروعية النظام السياسي ، مثل قطاع الكهرباء والماء والصحة العامة والتعليم والاتصالات والامن .
وقبل عقد التسعينات ، كان للقطاع الخاص المحلي دور في بعض الخدمات ، كالصحة  والتعليم دون الجامعي ، لكن الدولة حافظت دائما على الجانب الاهم من هذين القطاعين ، أي ذلك المتوجه للشريحة الاوسع من المجتمع ، كما ان القطاعات الأخرى ، بقيت حكرا على الدولة حتى اواخر التسعينات .

الاتجاه العالمي إلى ابعاد الدولة عن الخدمات التجارية أو شبه التجارية ، والميل إلى إعادة تأسيس منظومات الخدمة العامة على أساس تجاري بحت ، كان وراء هذا التحول ، لكن الدافع الاهم كان رغبة الدولة في التخفف من الاعباء المالية لهذه الخدمات ، خاصة بعد انحدار عوائد البترول في النصف الثاني من الثمانينات ، وتفاقم الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة .

في بريطانيا مثلا ، كانت سياسة تخصيص الخدمات العامة في عهد رئيسة الحكومة السابقة السيدة مارغريت تاتشر ، تجسيدا لاتجاه عام نحو تعميق الليبرالية في الحياة السياسية ، التي جوهرها تجريد الدولة من حق التدخل في حياة الناس في الظروف الطبيعية ، وتكريس جهدها للسياسة باعتبارها عملا تخصصيا ، وهو اتجاه أوجع الكثير من الناس ولا سيما التنظيمات العمالية التي تمثل الطبقات الفقيرة ، إلا انه في نهاية المطاف اثمر عن تعزيز قوة المجتمع المدني ، كما عزز قوة الدولة التي تخففت من اعبائها وتكرست لقيادة البلاد ، ولهذا يقال الان ان الازدهار الاقتصادي الذي تعيشه بريطانيا اليوم - قياسا إلى ما كانت عليه في السبعينات - هو ثمرة الفرص الكبيرة التي اوجدها ذلك التوجه السياسي .

على خلاف هذا المنهج ، فان سياسات التخصيص القائمة عندنا ، تقتصر على الجانب الاقتصادي. ويبدو ان غرضها الأول والاخير ، هو نقل العبء المالي من كتف الدولة إلى كتف الناس. ولهذا فان معظم الناس ينظرون إلى هذا الاتجاه بارتياب ، خاصة وقد ترافقت مع دعوات إلى فرض ضرائب على الدخل والخدمات ، وهو ما بدأ تطبيقه فعلا على صورة رسوم اضافية على الخدمات مثل الكهرباء والوقود والخدمات الحكومية .

بالنسبة إلى الولايات المتحدة واوربا ، فان فرض الضرائب وتخلي الدولة عن واجباتها الخدمية ، كان متلازما مع توسيع المشاركة الشعبية في القرار السياسي ، وصولا إلى تجريد  الحكومة من استقلالها ، وتحويلها إلى هيئة مملوكة للمجتمع بصورة كاملة ، حيث لم يعد أحد من اهل الحكم قادرا على تصور امكانية البقاء في السلطة ، دون تفويض متجدد من جانب الشعب. ان شعار (لا ضرائب من دون تمثيل شعبي) الذي يرجع إلى بدايات تاسيس النظام الغربي ، هو عنوان لفلسفة شاملة في العمل السياسي ، خلاصتها ان اهلية الدولة لفرض الزامات سياسية أو مالية على المجتمع ، مشروطة بكون المجتمع شريكا في القرار السياسي ، ورقيبا فعليا على الهيئات التي يحق لها اتخاذ قرارات كهذه ، والرقابة تعني ان يكون المجتمع قادرا على منح التفويض الذي بموجبه يصل الاشخاص إلى المناصب السياسية ، وسحب التفويض بما يؤدي إلى عزلهم من تلك المناصب .

وارى ان الحكومات العربية تعاني اشد المعاناة وهي تواجه القرار المحتوم بتخصيص الخدمات العامة ، ولذلك فهي تتحرك ببطء شديد ، ويحاول البيروقراطيون والسياسيون بكل تصميم قصر التحول على ذلك الغرض ، ولهذا مثلا فان تخصيص الخدمات العامة لم يترافق مع الغاء امتيازاتها الاحتكارية ، فشركات البترول والكهرباء والاتصالات لا زالت تتمتع باحتكار السوق ، مع ان التخصيص في كل بلاد العالم ، تلازم دائما مع فتح السوق امام المنافسة التجارية ، من اجل تمكين المستهلك من الاختيار وازاحة حجاب التكتم الذي يلف حسابات واعمال تلك الشركات ، التي ما زالت تحظى بمعاملة تفضيلية من جانب الدولة .

كي تكون الامور واضحة ، فان احدا من عامة الناس لن يرحب ببرامج التخصيص ، ولن يدفع الضريبة عن طيب خاطر ، إلا إذا جاءت ضمن تغيير شامل في فلسفة الحكم ، تشمل فسح المجال امام مشاركة شعبية كاملة في القرار السياسي ، من خلال ممثلين ينتخبهم جميع الناس ، ورقابة شاملة تتجسد في ازالة الاستار التي تحجب ما يجري داخل مؤسسات الدولة عن عين الجمهور ، والغاء القيود التي تعيق الصحافة المحلية عن ممارسة دورها الرقابي ، وتمكين الناس من حقوقهم الطبيعية في التعبير عن ارائهم واراداتهم وانتماءاتهم ، وربط الوظيفة السياسية والسيادية بالتفويض الشعبي ، الصريح والاختياري ، والا فان الدولة لا تملك أي حق في فرض اعباء مالية على الناس .

بعض الخبراء والعالمين بامور السياسة ، يقولون ان امور البلاد لا يمكن ان تستقر مع تزايد الاعباء المالية الملقاة على كاهل الدولة ، وارى ان الناس يمكن ان يقبلوا بهذه الفكرة ، شرط قبول اولئك بما يريده الناس ، وهو ما عرضناه في السطور السابقة ، واحدة بواحدة ، فان لم يستطيعوا قبول هذه المعادلة ، فليتركوا الفرصة لغيرهم ، عله يستطيع .

الرأي العام 3 مارس 2001

08/02/2001

لماذا لا يطالب الناس بحقوقهم


خلال عقدين من عمر مجلس التعاون الخليجي ، توصلت الدول الاعضاء إلى عشرات من الاتفاقيات والمواثيق الثنائية والجماعية ، صرف لاجلها المسؤولون من الدول الاعضاء وقتا غاليا ، لانها في نظرهم كانت ضرورية لتوثيق العلاقة بين دول المجلس ، وبغض النظر عما طبق فعلا من تلك الاتفاقيات ، وما لم يطبق ، وبرغم النقد الذي يوجه عادة لتباطؤ العمل الخليجي المشترك ، فان معظم الخليجيين حريصون على الدفاع عن تجربة المجلس وتطويرها .

وكنت اتمنى دائما ان يتبنى المجلس ميثاقا خليجيا لحقوق المواطن ، فهذا هو الحقل الوحيد الذي لم يطرق في اي من اجتماعاته ، وكان سمو امير الكويت قد اقترح في ديسمبر 1996 ، تشكيل هيئة استشارية تشكل اساسا للدور الشعبي في المجلس ، لكن من المؤسف اننا لا نسمع كثيرا عن دور هذه الهيئة ، ولا نعلم ان كانت توصل صوت شعوب المنطقة إلى المجلس ، أم انها تكتفي بتاييد ما تقترحه الحكومات ، وعلى اي حال فان ممثل الشعب لا بد ان ياتي بتفويض  شعبي كي يستطيع ممارسة عمله ، أما  إذا عين بقرار حكومي ، فان من ياكل على مائدة السلطان يضرب بسيفه ، كما قيل في الامثال .

(حقوق المواطن) هي الغائب الكبير في التداول السياسي والاعلامي على امتداد الخليج ، والغريب ان احدا من السياسيين وصناع القرار لا ينكر ايا من هذه الحقوق ، ولا ينكر الحاجة إلى رعايتها ، بل انهم يفاخرون عادة بتجذرها في التراث الاسلامي والتقاليد الاجتماعية ، بحيث يخيل للسامع ان دول المنطقة هي التي وضعت الميثاق الدولي لحقوق الانسان ، واجبرت دول العالم على ضمه إلى دساتيرها .

لكن اولئك السياسيين لا يقبلون ابدا بتحويل مباديء حقوق الانسان إلى نصوص قانونية ملزمة ، ولا يوافقون على قيام هيئات اهلية تراقب الالتزام بمضمون تلك المباديء ، بل ولا يقبلون ممارسة المواطن لما يفترض انه حق لـه ، ولنأخذ مثلا حرية التعبير التي تقول بها الانظمة والدساتير ، فهي لا تحترم اطلاقا لعشرين سبب وسبب ، وهي تخرق بعشرين وسيلة ووسيلة ، ومن ابسطها دوائرالرقابة ، في معرض الكتاب العربي بالكويت مثلا منعت الرقابة عشرات من الكتب ، رغم ان بعضها كان موجودا قبلئذ في الاسواق ، وفي دول خليجية أخرى ، يعتبر اي كتاب ممنوعا في الاصل إلا إذا ثبت خلافه ، ولانه لا يوجد اساس منطقي ومعياري لتحديد المسموح والممنوع ، فان الامر يتعلق كليا بنفسية الرقيب وثقافته ، ومزاجه الخاص في اليوم الذي وصله الكتاب ، ومن طريف ما يذكر هنا انني جمعت عددا من مقالاتي المنشورة في صحف محلية وطبعتها في كتاب ، وحين عرضته على الرقابة للحصول على ترخيص النشر ، ابلغت بان الكتاب ممنوع ، فاخبرت مدير الرقابة بان محتويات الكتاب منشورة جميعها في الصحف المحلية ، فرد علي بان "مسمى" الكتاب يختلف عن " مسمى " المقال ، وهذه قاعدة قانونية لا اظن احدا في العالم كله قد توصل اليها من قبل ، فهي تستحق ان تكتب بماء الذهب وتعمم على جميع الدول الاعضاء في الامم المتحدة كوثيقة دولية ، ومنعت الرقابة ديوانا لشاعر معروف وكان التبرير ان بعض القصائد غير مفهومة ، وعدم فهم الرقيب حجة شرعية تستحق ان يضيفها الفقهاء ورجال القانون إلى الادلة المعتمدة في استنباط الاحكام .

وقد تحدثت هنا عن انتهاك حرية التعبير بواسطة الرقابة ، واغفلت انتهاك هذا الحق بواسطة الاجهزة الامنية والسياسية ، فهناك لا يتوقف الامر عند المنع ، بل يصل إلى الاستجواب والتحقيق وتوجيه التهمة ،  وربما الحبس أو المنع من السفر ، فضلا عن الخروج من دائرة الموالين أي المرحومين .

على اننا في الخليج نتميز عن غيرنا بنوع آخر من الرقابة ، يلخصها المثل المشهور عندنا (العين من العين تخجل) ومضمونه ـ لمن لا يعرف - ان من يرفع صوته ، أو يتحدث فيما لا يخصه ـ اي الشان العام الذي لا يخص شخصا معينا - يستدعى من قبل مسؤول ما أو شخصية رفيعة ، فيعاتب ويسأل ان كان ينقصه شيء ، وقد يحصل على بعض الاحسان ، وعندئذ فان آليات العرف والتقاليد تتدخل لتقرر الخطوة التالية ، وهي ان يرد المستدعى على احسان داعيه بالسكوت عما يسبب الازعاج لـه أو لمن يليه ، وهكذا تحل المسائل باللطف واللين ومن دون ضجيج ، واظن ان قليلا من الناس في العالم يعرفون هذه السياسة أو يمارسونها في الوقت الحاضر ، ولهذا فانها يمكن ان تعتبر ابتكارا خليجيا يثير الاهتمام.

ربما يرتاب بعض الناس في فاعلية هذه السياسة أو تاثيرها ، لكني اجد انها شديدة التاثير ، خاصة إذا انضمت إلى الوسائل الأخرى المعروفة ضمنا أو الظاهرة  في خلفية الصورة ، فالذي يستدعى يعرف ان عدم الاستجابة تؤدي إلى الحرمان من الترقية أو ربما خسارة الوظيفة ، أو ربما العقاب الجسدي والمعنوي في مستويات أخرى .

لكن المسؤولين لا يجدون الوقت الكافي لمواجهة كل صاحب لسان ، لهذا لجأوا إلى الحلول الجماعية ، ففي أحد اقطار المنطقة قالت الانباء ان اساتذة الجامعة يتحدثون عن "حرم جامعي" اي مكان يتمتع فيه الاستاذ والطالب بحرية التعبير ، وبعد نحو ثلاثة اشهر من تاكيد وجود هذه الاحاديث ، امر ولاة الامر بتخصيص قطعة ارض سكنية لكل استاذ جامعي ، وجرى النص في الامر المذكور على الحد الادنى لقيمة المنحة ، وهي تعادل راتب الاستاذ في اربع سنوات .

واعتقد ان المركب الكامل للسياسة في الخليج ، هو السر وراء تأخر ظهور مطالبة شعبية بحقوق الانسان على مستوى المنطقة ، هذا المركب يضم التلويح بالقوة  وعدم قانونية المطالبة من جهة ، وبالمكاسب المادية للانصياع من الجهة الثانية .

والحقيقة ان احدا لا يرغب في الحديث عن هذه الامور ، فالكلام فيها موجع لكل الاطراف ، لكن مراسلا اجنبيا سأل خبيرا ماليا عن السر في انتعاش سوق المنطقة فور نهاية حرب الخليج الثانية ، فاجابه الخبير ببساطة ان الحكومة تدخلت بائعا وشاريا في سوق الاسهم ، كما صرفت مبالغ كبيرة بغرض تحريك السوق ، لانها ارادت تخليـص الناس من " الهمـوم " التي اثارتها الحرب ، فسأل المراسل : هناك تقارير عن عجز مالي كبير لدى الحكومة ، فمن اين جاءت بهذه الاموال ، فاجابه الخبير برقة : الحكومات تعرف دائما اين يوجد المال ومتى يستخدم .

وخلاصة القول اننا نحصل على الرفاه المادي ، ولدى الكل أو الاكثرية حرية كاملة في البحث عن المال ، وكلنا يعرف هذا كما ان حكوماتنا تعرفه ، ولهذا فقد اكرمتنا بما يكفي ويزيد عن الحاجة ، وفي المقابل فقد اكرمناها بالسكوت عن حقوقنا الاساسية ، ليس حق الاكل والشرب والتنعم في المسكن والملبس ، بل حقنا في التفكير والتعبير عما نفكر فيه ، وحقنا في فرص متساوية امام القانون ، وحقنا في تقرير الطريقة التي تدار بها حياتنا ،  وحقنا في تقرير صورة مستقبل ابنائنا .

الرأي العام 8 فبراير 2001

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...