05/05/1999

الجـن سيــد العالم

|| معظم الذين يتحدثون عن الجن يبدأون باعلان جهلهم بالموضوع ثم يتحولون للحديث عن تفاصيله ، كما لو كانوا محيطين به||

سألت معلمي يوما عن الجن ، أين يوجدون وكيف يعيشون ، فأجابني بسؤال معاكس : وهل هناك ما يمنع وجودهم ؟ فأعدت عليه السؤال : وهل هناك ما يوجب وجودهم ؟  الاصل في كل شيء العدم ، والوجود يحتاج إلى دليل على حدوثه .

قال لي : ان تعبير (الوجود) الذي نستعمله للدلالة على ما يقابل العدم ، ربما يعجز عن حمل مفهوم الوجود بكل معانيه ومضامينه ، فنحن نفسر العدم بما يعادل اللاشيء في المعنيين المادي والمجرد ، لكننا غالبا ما نطلق تعبير الوجود على الأشياء القابلة للتحديد ،  أي المشهودة ، أما الغائبة وغير المحددة ، فربما نظنها قابلة لأن توجد ، ولا نعتبرها موجودة بالفعل ، رغم انها موجودة كذات خاصة ، خارج إطار وعينا وحدود إدراكنا .

نتيجة بحث الصور عن الجن

قلت له : فهل تعتبر الجن من هذه الموجودات خارج إطار وعينا ؟ .

قال لي : ان القول بوجودها ربما يستدعي سؤالا عن طبيعة هذا الوجود ، فما دام الانسان قادرا على ادراك وجود شيء ، فلا بد ان يمتد الادراك إلى معرفة طبيعته ، هذه المعرفة توجد علاقة من نوع ما بينه وبين الانسان ، فاذا وجدت العلاقة ، كانت داعيا لإقامة نظام يحكمها .

علاقة الانسان مع الكون محددة ومضبوطة بنظام شرعه الخالق ، وفصله الانبياء والعلماء ، فهو عبد لخالق الكون ، سيد لبعض ما في الكون ، ومساو للبعض الآخر ، وبحسب ما وصل الينا وما توصلنا اليه من أحكام في علاقة الانسان بعناصر الكون ، فانه لا توجد أحكام خاصة بالعلاقة مع كائنات مما نتحدث عنه الآن مثل الجن .

قلت لمعلمي : فهل تريد الوصول إلى ان عدم تنظيم احكام العلاقة بهم دليل على عدم وجودهم ؟ .

قال لي : لا يستطيع العاقل الجزم بعدم وجودهم ، فقد سلف القول ان تعبير الوجود قد يعجز عن حمل الفكرة بتمامها ، ربما نستطيع الجزم بعدم ايجادهم ، لا عدم وجودهم ، حدود معرفتنا الحاضرة لا تتجاوز الكون المادي ، وما نعرفه عن الكون الآخر فوق المادي ، لا يتجاوز المعرفة النقلية ، نحن نعرفه لأننا قبلنا بما سمعناه ، لا لأننا أدركناه بالوسائل العقلية أو التجريبية ، لكن هذا يختلف عن مسألة الجن في ان طبيعته معروفة إلى حد ما ، والعلاقة معه مضبوطة ومحددة .

قلت لمعلمي : الحديث الدائر عن الجن في في مجتمعات العالم ، ومن بينها مجتمعات المسلمين ، ليس كلاما عن اكتشاف ما خارج الحدود المادية لكوننا ، بل عن تداخل للجن في حياة هذا الكوكب ، يتحدثون أحيانا عن سيدة ما عشقها جني وأجبرها على الزواج منه ، أو رجل تلبسه جني فأصبح عبدا له يتصرف كآلة مبرمجة ، أو بيت (مسكون) يشعر أهله بحياة أخرى تدور فيه غير حياتهم ، فهذه وأمثالها تعبيرات عن وجود ضمن عالمنا ، وجود متداخل مع وجودنا بل هو جزء منه ، ولهذا فان الناس يتساءلون عن طبيعة هذا الوجود ، ولأنهم لا  يعثرون على جواب ، فهم يسكتون عن التفصيل ، ويحيلون الأمر إلى من لا يمكن مطالبته بالتفصيل أو الدليل ، فيقولون مثلا ان (الجن مذكور في القرآن) وهو مذكور حقا .

قال معلمي : نحن لا نعلم إذا كان الجن المذكور في القرآن هو الجن الذي يتحدثون عنه الآن ، تعبير (الجن)  الذي نستعمله غير محدد المعنى ، وأطلق العرب التعبير على ما هو قوي وخفي ،  ولو سألت عنه لأخبروك بانه وصف لكائنات هائلة القوة غير مادية وغير قابلة للتحديد ، وهذا يساوي عدم المعرفة ، فالأوصاف المذكورة تصورية لا تطبيقية ، القرآن استعمل تعبيرات متداولة لتقريب المعاني ، دون ان تكون مقصودة بذاتها ، مثل تقريب وصف الجنة إلى ما يعادل البستان الوارف ، المليء بالفاكهة وأنهار الخمر والعسل ، رغم ان الجنة توصف في الاثر بما ( لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) .

هذا أولا ، أما الثاني فهو ان الحوادث التي تذكر عادة ، تأتي في سياق التقرير المسبق للوصف والاستنتاج ، بمعنى ان الناس الذين تقع لهم هذه الحوادث أو  يسمعون بها ، لا يضعون جميع الاحتمالات الممكنة ، وأحدها ان لا يكون الأمر متعلقا بالجن على الاطلاق ، بل يسارعون إلى اعلان عجزهم عن معرفة ما يرون أو يسمعون ، فيحيلون الامر إلى دائرة (القوى الخفية) التي يسمونها الجن ، لكنهم بعد هذه الاحالة يعودون إلى ادعاء العلم ،  فيقررون ان الاحتمال الوحيد هو تدخل الجن ، وطالما كان الامر كذلك فمن الممكن التعامل معه ، وهذا الانتقال السريع من النقيض  أي الجهل بالشيء ، إلى نقيضه  أي ادعاء العلم به ، هو أحد الآفات المعروفة في ثقافتنا ، وهي تظهر هنا وفي أماكن كثيرة أخرى .

 

عكاظ 5 مايو 1999

10/04/1999

الحل الحاسم للمسألة التلفزيونية



وجدت عددا من كتاب الصحافة المحلية ـ ومنهم كتاب في عكاظ ـ مهتما الاسبوع الماضي بالغزو الثقافي الذي يأتينا عبر برامج التلفزيون ، والالحاد والفساد الذي تمطره القنوات الفضائية ، ببرامجها التي تسيل ـ عادة ـ الكثير من الحبر والدهشة ، ويقول السادة الكتاب اننا نواجه فتنة عظيمة ، بل بلاء مبرما ، ولعل بعضهم وجد مناسبة بين ما يقال عن العولمة التي وصفها استاذنا السريحي بالامركة ، وبين مضمون البرامج التي تعرضها قنوات التلفزيون العربية والاجنبية ، التي سهل التقاطها مع انتشار وسائل الاستقبال المتقدمة.
وظننت لبعض الوقت ان هذه التحذيرات تمثل أساسا قويا للبحث في الطرق العلمية المناسبة لدفع البلاء ، فقلت في نفسي ان الحل الافضل هو إصدار أمر يمنع استقبال برامج التلفزيون ، او ربما التشويش عليها كي تصبح عسيرة الفهم ، او ربما منع استيراد اجهزة التلفزيون كليا كي نغلق باب الفتنة ، تأسيسا على القاعدة التي يجسدها المثل الشعبي السائر (الباب الذي ياتي بالريح .. أسدّه وأستريح) ، وهي قاعدة يأخذ بها عقلاء قومنا ، ولا يستنكرها أحد .

ولا يظنن أحد ان هذا الاقتراحات بدع من جيبي ، فقد سبق لكثير من الناس ان قالها ، وقام بعض أخوتنا في بلادهم بالغاء التلفزيون كليا ومصادرة ما يملكه الناس من أجهزة ، بعد ان منعوا استيراد جديدها بطبيعة الحال ، لكني بعد ان فكرت في هذا الحلول ، وجدت تطبيقها عسيرا بعض الشيء ، فلو أمر أحدهم بمنع مشاهدة التلفزيون ، فربما التزم رب العائلة وعقلاؤها بالامر ، لكن من يلزم الاطفال والجهال ، فلعلهم ينتظرون فرصة خروج العاقل للدراسة او العمل فيطالعون ما يبغون سرا ، فقلت لنفسي ان التشويش هو الحل الاحسن ، وهو حل مجرب في بعض الاحيان ، لكن المشكلة ان هناك من يرغب في مطالعة التلفزيون ولا يخشى عليه ، وهو يستطيع ـ عادة ـ تبرير استمتاعه بهذه الفرصة .

ثم ان كتاب الصحف سوف يعارضون التشويش ، لانه يحرمهم فرصة الاستمتاع بالمشاهدة ثم الكتابة عن سيئاتها ، أي الجمع بين المرغوبين ، وهكذا تفوت الفرصة أيضا على الصحيفة لنشر موضوع جذاب ، فقلت لنفسي ان التشويش ليس حلا طيبا ، فلا يوجد اذن حل افضل من الحل الجذري أي الغاء التلفزيون ، ومصادرة اجهزته ومنع استيراده ، بعد استثناء الموثوقين ، فهو يغلق الباب كليا فيسد ذريعة للفساد ، لكني وجدت ـ بعد التفكير العميق طبعا ـ  ان هذا أسوأ الحلول ، لأنه يحرم المساكين الذين يتحملون مشقة استيراد الاجهزة و بيعها ، من ثمرات كدهم ، ويحرم البائعين من فرصة للربح ، ولهذا فهو قد يفتح ابوابا أخرى للفساد .

وقد حيرني التلفزيون ، وحيرني البحث عن وسيلة لاستئصال شروره ، حتى لقد فكرت مرة في ان الحل الامثل هو اقناع شركة الكهرباء بقطع التيار حين يبث برنامج فاسد ، لكني تذكرت ان شركة الكهرباء تعاني خسائر منذ تأسيسها ، فهل نزيد خسائرها بقطع التيار ؟ .

وأخيرا توصلت إلى الحل الامثل ، الا وهو اقناع شركات التلفزيون بكتابة سطر تحذير ، من هذا النوع الذي تضعه مصانع السجائر على علبها ، يقول مثلا (برامج الفضائيات مضرة بالصحة .. ننصحك بعدم مشاهدتها) ولدي الان حجة قوية على جدوى هذا النوع من الحلول ، لأن الذين توصلوا إلى هذا الحل في المسألة الدخانية ، فكروا كثيرا ، ربما أكثر مما فكرت ، فاهتدوا أخيرا إلى هذا الحل السطري (نسبة إلى سطر التحذير) فيستطيع الانسان ان يطالع البرنامج الممتع ، ويقرأ سطر التحذير في الوقت نفسه ، مثلما يدخن ويقرأ السطر الدخاني في ذات الوقت ، وهكذا ينحل الاشكال العويص.

فلما وصلت إلى هذا الحل الحاسم ، قلت في نفسي ان هذا برهان واضح على مغالاة الكتاب الذين يتحدثون في المشاكل ، فما دام الحل الحاسم لمشكلة الفضائيات قد توفر بهذه السهولة ، فلماذا لا نفكر في حل مشاكلنا الكبرى بنفس الطريقة ؟.

لكني تذكرت لاحقا ان المشكلات هي عمل يدفعون عليه مالا ، ويحصل الانسان من ورائه على التقدير ، فاذا حللنا جميع المشاكل فماذا نعمل ، وكيف نعرض انفسنا ، فقررت السكوت عن هذا الامر ، لكي يكون في وسعنا الحديث عن المشاكل ، من العولمة إلى الغزو الثقافي إلى تحليل العقل العربي ، الخ .. خاصة وان إكثار الحديث عن المشكلات يغني ـ حسب القاعدة الجارية ـ عن حلها ، ويغني عن كشف حجمها وحقيقتها ، ويريح الناس من حمل عبء المسؤولية عنها ، فما دام الانسان يتحدث عن وجودها ، فهو يبريء نفسه منها ومن التحقيق العميق في تفاصيلها ، ومن علاجها ، وهذه أيضا قاعدة جارية ، ونحن ممن يحب القواعد ولزوم القواعد .
ارسل في 10 ابريل 1999

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...