30/09/2020

اساطير قديمة


اختار  ايزايا برلين "ضلع الانسانية الاعوج" عنوانا لمحاضرة نالت شهرة عريضة. ثم استعمله عنوانا لكتاب اشتهر هو الاخر. ويقول برلين انه اراد الاشارة لاستحالة الكمال الذي طالما تغنى به قدامى الفلاسفة وأهل الاديان. فهل يبلغ الكمال من طبعه العوج؟. (برلين : الحرية ترجمة معين الامام ص 285)

مما يثير الدهشة انه كلما تقدم البشر ، واتسعت معارفهم وتحسنت معايشهم ، قلت حماستهم لبلوغ الكمال ، سواء على المستوى الفردي ام المستوى الجمعي. لم يعد احد في وقتنا الحاضر يكتب عن العالم المثالي ، على النحو الذي اقترحه افلاطون في "الجمهورية" وابو نصر الفارابي (874-950) في "آراء اهل المدينةالفاضلة" او توماس مور (1478-1535) المفكر الانجليزي الذي ينسب اليه ابتكار مصطلح "يوتوبيا" او المدينة الفاضلة ، وهي عنوان الكتاب الذي بشر بالفكرة.

على العكس من ذلك ، فان كتاب "ضلع الانسانية الاعوج" الذي افتتحنا به المقال ، ضم فصلين في نقد هذه الفكرة ، حمل الاول عنوان "انحسار الافكار الطوباوية في الغرب" والثاني "تمجيد الارادة الرومانسية: الثورة ضد خرافة العالم المثالي". وعلى نفس المنوال ، خصص الفيلسوف كارل بوبر جزء كبيرا من كتابه الشهير "المجتمع المفتوح واعداؤه" لنقد اليوتوبيا ، لا سيما رؤية افلاطون المثالية.

نستطيع القول اذن ان  البشر يزدادون تواضعا ، كلما ازدادوا معرفة بالكون وقدرة على استثمار الطبيعة. فقد تحدثوا  كثيرا في الماضي عن "حلم المدينة الفاضلة" التي يتحرر الانسان فيها من الحاجة ، ويتحرر المجتمع من الخوف والجهل. اما اليوم فهم يرونها فكرة مستحيلة ، بل ربما تنقض أصل العدالة.

يبدو ان ميل البشر الى افتراض امكانية الكمال مرتبط بعقيدة قديمة جدا ، ولعلها من اوائل قضايا الفلسفة ، وتتلخص في فرضية ان كل سؤال صحيح/حقيقي ، له جواب صحيح واحد. فاذا تعدد الجواب كان احدهما باطلا. وظهرت هذه الفكرة في مختلف العقائد. واشتهرت عند دارسي العلوم الدينية مقولة ان الحق واحد ولا يمكن ان يكون متعددا. وتوسع بعضهم في استعمال المقولة ، فاعتبر رايه مطابقا للحق الواحد ، وان كل راي عداه باطل.

والواضح ان غالبية الامم ومفكريها ، في الماضي والحاضر ، يتبنون هذه الفكرة الاحادية او نسخة منها. الذين يقولون بان الليبرالية هي نهاية التاريخ والحل الحاسم ل "كل"مشكلات العالم ، مثل الذين سبقوهم الى القول بان الدين ، اي دين ، هو الحل الوحيد ل "كل" مشكلات البشر ، ونظرائهم الذين قالوا بالحتمية التاريخية لانتصار الطبقة العاملة وقيام مجتمع المساواة الشيوعي.

ما يتبناه اي واحد فينا هو فهمه الخاص ، الذي ربما توصل اليه من خلال الدراسة والبحث ، او استقاه من البيئة الاجتماعية. وهو قد يكون حقا بدرجة 90 بالمائة او  60 بالمائة او 20 بالمائة. لا يوجد دين او مذهب او ايديولوجيا دنيوية ، تخلو من كل خير او تقدم اجابات خاطئة على كل سؤال. هناك على الدوام قيم ومفاهيم نعتبرها صحيحة مطلقا ، لانها نتيجة متكررة لتجارب البشر خلال تاريخ طويل ، وهي تشكل ما يسميه الاصوليون "عرف العقلاء" واستطيع تقريبه الى مفهوم العرف العام  common senseالرائج في الغرب. وكلا المفهومين محل احترام عند الجميع ، ففيهما زبدة الخبرة التاريخية للانسان.وهذه المفاهيم والقيم مبثوثة في كل المعتقدات ولا يخلو منها اي معتقد سماوي او ارضي على الاطلاق. ولهذا يمكن ان تمثل معيارا مشتركا حين يختلف الناس.

هذه لمحة عاجلة عن مبدأ تعددية القيم. وسنعود لتفصيل الفكرة في قادم الايام.  

الأربعاء - 13 صفر 1442 هـ - 30 سبتمبر 2020 مـ رقم العدد [15282]

https://aawsat.com/node/2536891 

مقالات ذات صلة

اساطير قديمة

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الرابع

شرطة من دون شهوات

فضائل القـرية وحقائق المدينة

المدينة الفاضلة

مدينة الفضائل

نافذة على فلسفة كارل بوبر


23/09/2020

اليوم الوطني .. قصة مدينة

 أرى في صديقي الاستاذ فرحان الشمري ، نموذجا صادقا للسعودية الجديدة ، التي تتحرك بخطى واثقة ، نحو حداثة لا تنكر الماضي ولا تخجل منه. 

يعيش فرحان في مدينة الجبيل الصناعية ، حيث يتعامل يوميا مع سعوديين من مناطق مختلفة ، ومع وافدين جاؤوا من كل بلد تقريبا على امتداد الكرة الارضية. في الجبيل لا يرى هذا الصديق الاغنام التي كانت محور انشغالاته في الماضي ، بل يرى المصانع والمحركات وتمظهرات التقنية الحديثة. تنوع البشر الذين يراهم كل يوم ، يدعوه للتفكير في مكانه وسط مدينة من هذا النوع ، والمحركات التي يسمع ضجيجها كل يوم تدعوه للتأمل في نمط اقتصاد على هذه الشاكلة.

إذا رأيت فرحان للمرة الاولى ، فسوف يشد انتباهك ذقنه الطويل الاشيب ، الذي يظنه الناظر علامة على التمسك بتقاليد السلف وعاداتهم ومظهرهم. والحق ان الشمري يحمل هوية مركبة ، فهو بدوي / حضري ، سلفي / متجدد ، يحترم التقاليد لكنه يعيش ويفكر في سياق اقرب الى الحداثة.

لم ينس ذكريات القرية الواقعة على حافة الصحراء. لكنه ايضا لا يرغب في العودة الى نمط العيش الذي كان سائدا فيها. انه يعيد صياغة هويته انطلاقا من اللحظة الحاضرة. وهو يفكر في مستقبله ، اي في صورته الآتية ، انطلاقا من معطيات المدينة التي يريد مواصلة العيش فيها ، مع علمه بان قرارا كهذا سيؤدي بالضرورة الى تهميش مؤقت أو دائم ، للجانب القروي والصحراوي في هويته وثقافته.

القرية والصحراء والمدينة ليست علامات جغرافية ، ليست اسماء على الخريطة ، بل هي تعبير عن ثقافات ونظم اجتماعية متمايزة. لعل بعض القراء يذكرون التأملات المدهشة والعميقة ،  التي قدمها المرحوم د. محمد شحرور حول الفارق بين المدينة والقرية في التصوير القرآني. وخلاصة هذا التصوير ان القرية مجتمع أحادي الثقافة ، نظام علاقاته عمودي ، ومعاييره القيمية موروثة لا تتجدد الا نادرا. بخلاف المدينة التي تتميز بالتنوع الثقافي والاجتماعي والقمي وتعدد مراكز التاثير وحقول الجذب والدفع. في القرية يتقمص الفرد هوية الجماعة منذ ولادته حتى وفاته ، اما المدينة فهي مجتمع سريع التحول ، يعيد سكانها صياغة هوياتهم ، مرة بعد أخرى ، تبعا لتغير موقعهم في النظام الاجتماعي والاقتصادي ، وهو نظام نعلم انه دائم التحول في الشكل وفي المضمون.

فرحان الذي ولد في اطراف البادية ، غير فرحان الذي يعيش في الجبيل. المدينة مكان للتعارف وتحدي الذات. يؤدي التواصل الى تفكيك عفوي للاحتقانات والتأزمات المرتبطة بالهوية. الاحترام والتقدير المتبادل الذي نشهده دائما في كل لقاء بين الناس ، يؤكد حقيقة انسانية لا يمكن اغفالها ، وهي ان الناس اذا التقوا وتحدثوا ، فانهم في 90% من الحالات سينتهون الى تفهم لمبررات الاختلاف بينهم ، وفي 50% من الحالات سيخرجون أصدقاء متحابين ، حتى لو بقيت خلافاتهم الثقافية.

السعودية الجديدة ، هي المدينة التي تحتفي بتنوعها وتعدد اطيافها والوانها ، هي المجتمع الذي يغادر تدريجيا حياة القرية. مجتمع يحترم ماضيه ، لكنه لا يريد الارتهان اليه. امة تعيد اكتشاف نفسها ، عازمة على ان تعيش في الحاضر وتصنع مستقبلها من دون خوف ولا غرور.

حين يحل اليوم الوطني في كل عام ، نستذكر اننا نحتاج دائما لاعادة اكتشاف انفسنا وبلادنا ، اي محاولة اكتشاف خيوط جديدة تربط حاضرنا الى المستقبل الذي نتطلع اليه. هذي هي القصة الرئيسية للاحتفال باليوم الوطني.

الأربعاء - 6 صفر 1442 هـ - 23 سبتمبر 2020 مـ رقم العدد [15275]

https://aawsat.com/NODE/2523661/

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...