غرض هذه
المقالة هو المشاركة في النقاش الدائر حول تجديد الفكر السياسي الديني, ولا سيما
ضمن الاتجاه الرامي الى تطوير نظرية "الديمقراطية الدينية"، التي تسعى
للجمع بين قيم الاسلام العليا ومبادئ الحكم الديمقراطي التعددي. يدور النقاش حول
مصادر الشرعية السياسية. ويقدم عرضا موجزا لتفكير قدامى الاسلاميين وأتباعهم
من المعاصرين في مسألة الشرعية ٬ ثم يعرض التصور الحديث (الغربي) للمسألة٬ قبل أن
يعود لعرض آراء لاسلاميين معاصرين.
ولتسليط الضوء على التطور
الحاصل في النقاش المتعلق بالشرعية السياسية٬ تعرض المقالة بعض أهم التطورات التي
حدثت في اطار التجربة الايرانية التي تمثل بلا شك مرجعا مهما لأي بحث في هذا
الموضوع. وتقدم المقالة في النهاية تصويرا لبرنامج بحث مفتوح٬ فيعرض بعض أبرز الأسئلة
التي تحتاج الى المزيد من المناقشات والمعالجات العلمية.
الدولة هي أبرز القضايا
الاشكالية في حياة المجتمع الانساني. انها ضرورة للعيش الآمن٬ لكنها في الوقت نفسه
موطن استئثار واحتكار وتمايز. لا يتوقع زوال التمايز والاحتكار من الدولة٬ فهذا
فرض مستحيل. ما يسعى اليه المنظرون هو تخيف تلك العيوب الى حدها الأدنى٬ أو تقديم
بدائل تعويضية٬ أو وضع أولويات٬ أو معالجة المشكلات الأكثر حدة أو الاشد الحاحا.
فيما يخص العالم الاسلامي٬
ثمة اشكالية اضافية برزت حديثا٬ أي بعد تعرفنا على المذاهب السياسية الغربية٬
وازدادت حرجا بعد قيام الجمهورية الاسلامية كأول نموذج لحكومة اسلامية حديثة. جوهر
هذه الاشكالية هو الجمع بين فضائل الديمقراطية (وبشكل عام الحداثة السياسية) وبين
قيم الاسلام السامية.
سؤال هذه الاشكالية هو
بالتحديد: هل نستطيع صوغ نظرية تضمن بصورة متوازية الشرعية الدينية للسلطة ومشاركة
الشعب الكاملة في صناعة القرار السياسي؟.
محرك هذه الاشكالية هو ما يظهر من
تعارض بين حاجتين: رغبة المسلمين في دور واضح للقيم الدينية في حياتهم العامة٬
ورغبتهم في احتذاء النموذج الديمقراطي السائد في العالم الغربي الذي يعتقدون انه
يضمن علاقة أكثر توازنا بين المجتمع والدولة. يمثل الدين مكونا رئيسا لهوية
المسلم٬ وبالنسبة لعامة المسلمين فهو ضمان لصلاح الحكم واستقامته. بينما يقوم
النموذج الغربي على أرضية الفصل بين الدين والسياسة٬ أي انكار دور القيم الدينية
في تكوين النظام السياسي أو تحديد أغراضه أو معايير قياس الخطأ والصواب فيه.
فصل الدين عن الدولة هو
أحد المسلمات المتعارفة في بحوث التنمية السياسية المعاصرة. يقال عادة ان
العلمانية تمهيد لا بد منه للتحول الديمقراطي. لكننا لا نستطيع قبول هذه المسلمة لسبب بسيط: ان قيام واستقرار
النظام الديمقراطي في أي بلد يتوقف على توافر "اجماع وطني" على هذا
النظام. الديمقراطية ليست مجرد قانون على الورق٬ بل هي تجسيد لفلسفة خاصة في
ممارسة السياسة٬ قوامها ربط شرعية النظام السياسي برضى جمهور المحكومين.
الديمقراطية تقوم على ملكية الشعب للدولة ، وقدرته على انتاجها وتعديلها متى اراد.
القانون لا يكون شرعيا إلا اذا جاء معبرا عن الإدارة العامة٬ والإرادة العامة لا
تتضح إلا اذا توافر اجماع وطني على طبيعة الدولة وتركيبها ونظام عملها.
بالرجوع الى تجربة
العالم الإسلامي ، منذ منتصف القرن العشرين على الأقل ، يظهر جليا ان
الجمهور لم يكن مستعدا في اي وقت للتخلي عن هويته الدينية. لقد اخفقت جميع
المحاولات التي استهدفت ابعاد الاسلام عن الحياة السياسية ، منذ ستينات القرن
العشرين وحتى اليوم. تكشف تجربة تركيا ومصر وايران وماليزيا والمغرب، ان التوق الى
الاسلام السياسي قد ازداد في البلدان التي شهدت اكثر تلك المحاولات اصرارا. من هذه
التجربة نستطيع القول ان الإجماع الوطني مستحيل في اي قطر اسلامي ما لم يلحظ مكان
مناسب للدين في الحياة العامة. من هنا فان الإقرار بدور مناسب للدين هو ضرورة
لتوفير الإجماع . وهو ضرورة لتحقيق مشاركة شعبية واسعة في الحياة العامة. اي -
بعبارة اخرى – هو ضرورة للديمقراطية .
سؤال الشرعية
يدور سؤال الشرعية حول
المبرر الذي يعطي الحكومة الحق في الأمر والنهي والتصرف في أموال الناس وأنفسهم.
الأصل المتفق عليه بين الفقهاء والفلاسفة ان لا ولاية لأحد على أحد، ولا حق له في
أمره أو نهيه أو تحديد تصرفاته، أو التصرف في ما هو مشترك فيه من دون مبرر شرعي
مناسب. ثمة حكام يأمرون وينهون
دون أن يسألوا أنفسهم أو يسألهم أحد عن مصدر سلطتهم. لكن هذا هو الجبروت بعينه،
فخالق الخلق سبحانه هو الوحيد الذي "لا يسأل عما يفعل- الانبياء
23"، أما البشر فكل منهم مسؤول عن فعله ومحاسب عليه.
زبدة القول اذن ان رجوع الحكومة الى
مصدر صحيح للحق في التصرف هو ما يفرق بين سلطة مشروعة وسلطة غاصبة وطاغية. الشرعية
السياسية هي المبرر الذي تستند اليه الدولة حين تتصرف امرا ونهيا ، وهو الذي يجعل
تصرفاتها مقبولة وقانونية. وبحسب تعبير الفيلسوف روسو فان الأقوى ليس قويا بما
يكفي ليكون السيد دائما ما لم يحول جبروته الى حق (في السيادة)، وطاعته الى واجب
(في نظر الناس).
على الرغم من أن مفهوم
الشرعية قديم جدا، وقد كان موضوعا للبحث في مختلف الأزمان ، الا أن الفضل يرجع
بالتأكيد الى المفكر الألماني ماكس فيبر في تطوير المفهوم المعاصر للشرعية
السياسية ، من خلال اقتراح مقاربات جديدة ، وسعت نطاق البحث فيه ، وجعلته موضوعا
للنقاش الفلسفي والقانوني والاجتماعي والسلوكي في آن واحد.
في ما يخص موضوعنا، فان الجواب
عن سؤال الشرعية السياسية يدور بين احتمالين: شرعية مصدرها الناس وشرعية مصدرها رب
الناس.
المصدر الديني
للشرعية السياسية: الرأي التقليدي
الامامة العظمى هي
الصورة المثلى للحكم في نظر قدامى الاسلاميين. وهي عند الشريف المرتضى "رياسة
عامة في الدين" غرضها - بحسب الطوسي - تدبير الأمة وسياستها وتأديب جناتها والدفاع
عنها ضد أعدائها، وتولية الأمراء والولاة والقضاة ، واقامة الحدود على مستحقيها. وهذا ينسجم مع وصف
الامام الرضا "الامام زمام الدين ونظام المسلمين... بالامام تمام الصلاة
والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وامضاء الحدود والاحكام ومنع
الثغور والأطراف". وهذا
يطابق مفهوم الامامة عند الشيعة الزيدية. كما يطابق الرأي الشائع
بين فقهاء المذاهب السنية. ويستدل القرطبي بآيات عديدة على أن الامامة "ركن
من أركان الدين الذي به قوام المسلمين" وأنه "لا خلاف
في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة".
لم تستطيع الأمة الاسلامية تجسيد تلك
الصورة المثالية في معظم تاريخها الماضي. عجز المسلمون غالبا عن اختيار الرئيس
الأمثل. واضطروا للخضوع لقادة استولوا على السلطة بالقوة المسلحة أو بالحيلة.
ولهذا مال الفقهاء الى تنظير جديد يحاكي واقع الحال، ويسعى الى اصلاح ما يمكن من
أمور المسلمين ، ولو في ظل حكم يفتقر الى المشروعية في صورتها الكاملة. انه ترتيب
اضطراري كما يقول الغزالي:
ولو تعذر وجود الورع والعلم في من
يتصدى للامامة، وكان في صرفه اثارة فتنة لا تطاق٬ حكمنا بانعقاد امامته، لأنا بين
أن نحرك فتنة بالاستبدال، فما يلقى المسلمون فيه من الضرر، يزيد على ما يفوتهم من
نقصان هذه الشروط الذي اثبتت مزية المصلحة، فلا يهدم أصل المصلحة شغفا بمزاياها،
كالذي يبني قصرا ويهدم مصرا، وبين أن نحكم بخلو البلاد عن الامام وبفساد القضية
وذلك محال.
ومثل ذلك أيضا قرر المرتضى أن الامة
اذا امسكت عن النكير على الحاكم المتغلب خوف الفتنة أو الضرر، فان تصرفاته تجري
مجرى تصرف الوالي بالحق.
من النصوص السابقة،
يتضح أن قدامى الاسلاميين قد ميزوا بين الصورة المثلى للسلطة ، والصورة التي تعكس
واقع الحال، والتي ينبغي اصلاحها ما امكن. في كلا الحالتين فقد كان
ذهنهم منشغلا بشخص الحاكم، وليس بنظام الحكم. فكأنهم افترضوا ان صلاح النظام
وكفاءته رهن بصلاح الحاكم، والعكس بالعكس. يمكن تفهم هذا التوجه عند الآخذ بعين
الإعتبار حقيقة ان السلطة في الدولة القديمة كانت مكثفة في شخص الحاكم. فكرة
الدولة المؤسسة، او النظام السياسي، ظهرت خلال القرون الثلاثة الأخيرة فحسب.
بعبارة اخرى فقد كان سؤال الشرعية عند قدامى الأسلاميين يدور حول شخص الحاكم لا
الدولة او نظام الحكم. ومعظم ما كتب حول الأداء السياسي وكفاءة الحكم ، نوقش في
اطار اخلاقي.
على الرغم من تغير
مفهوم الدولة وموقع الرئيس من الجهاز السياسي ، الا ان الفقهاء واصلوا البحث وفق
الفرضية السابقة، اي ربط الشرعية السياسية بشخص الرئيس. وفي هذا الإطار، ظهرت
نظرية "ولاية الفقيه" التي تمثل اكثر نظريات السلطة الدينية رواجا في
الوقت الحاضر. لاتتحدث هذه النظرية عن كفاءة الحكم ولا عن مؤسسة الدولة، بل تقتصر
على معالجة اشكال الشرعية السياسية. وهي تفترض ان السلطة شأن ديني يقوم به الرسول
صلى الله عليه واله وسلم ، ثم الإمام ثم اقرب الناس من صفات الإمام المعصوم وهو
الفقيه العادل. اما تحديد الفقيه دون
غيره، فلأن هذه النظرية تصرف معنى الأهلية الى صفتين على وجه التحديد: العلم ،
وارفعه العلم بالشريعة ، والعدالة النفسية، وهي "ملكة نفسانية تمنع من
الإقدام على الكبائر والإصرار على الصغائر".
يكشف توصيف الأهلية على هذا النحو
"أي حصرها في العلم والعدالة النفسية" عن تأثر واضح بالفلسفة اليونانية
ولا سيما أعمال سقراط وتلاميذه. رأي افلاطون أن المدينة الفاضلة هي تلك التي
يحكمها ملك - فيلسوف. علم الفيلسوف يمكنه من كشف الحقيقة، وهذا يؤهله لاستيعاب
الجمال والتحلي بالعدالة والمعرفة الكاملة. وتعتقد آن لامبتون أن
المجامع العلمية الشيعية قد تعرفت على فكرة الملك - الفيلسوف من خلال أعمال
الكليني وابن بابويه، المحدثين البارزين في القرن العاشر. ويقر محسن
غرويان، وهو استاذ بارز في حوزة قم العلمية، بالأصل اليوناني للربط بين المعرفة
والسلطة، لكنه يراه قريبا جدا من المعايير الاسلامية "المعرفة، الحكمة
والعلم تتمع بسلطة ذاتية على ما سواها. في ظل حكومة اسلامية فان شيئا من التسلط هو
أمر ممكن. يمكن تصور حكومة متسلطة لكنها تستند الى المنطق والدليل العلمي. اعتقد
أن ولاية الفقيه تمثل نوعا من هذه الحكومة".
هناك طبعا بين علماء الشيعة من عارض
الربط بين العلم والسلطة، مثل الأصفهاني (ت 1942) الذي يقرر أن "الفقيه
بما هو فقيه أهل النظر في مرحلة الاستنباط ، دون الأمور المتعلقة بتنظيم البلاد
وحفظ الثغور وتدبير شؤون الدفاع والجهاد وأمثال ذلك، فلا معنى لايكال هذه الامور
للفقيه بما هو فقيه". ويماثل رأي
الأصفهاني الى حد كبير مجادلة شتاينبرغر الذي وصف نظرية أفلاطون بأنها متناقضة
وغير متسقة منطقيا. ورأى أن مجال عمل الفيلسوف هو صناعة الأفكار، بينما يتمحور عمل
الملك حول تطبيق أفكار أو أهداف جرت صياغتها وحددت سلفا.
خلاصة القول اذن أن
التفكير الفقهي التقليدي في مسألة الشرعية قد انشغل بصورة خاصة بحق الحاكم في
السلطة، وعالجها من خلال تحديد مؤهلات الشخص القابل لاعتلاء سدتها وهو المجتهد
العادل، وهذا جوهر نظرية ولاية الفقيه.
نظر فلاسفة اليونان الى
الحكومة كهيئة محايدة . وتحدثوا عن صورتها المثلى . ولم ينشغلوا الا قليلا في بحث
احتمالات فسادها الداخلي أو الخارجي أو سبل تقويمها. كما انهم لم يلحظوا دورا
جوهريا للمجتمع في صناعة القرار، لأنهم - كما سلف - حصروا مؤهلات الحاكم الأمثل في
العلم والعدالة النفسية.
هذا المنهج كان
هو السائد ايضا في أوروبا حتى القرن السابع عشر، حين تحولت النقاشات الفلسفية
والسياسية الى التركيز على نظام الحكم الصالح، فلسفته وآليات عمله، بدلا من
التركيز على شخص الحاكم ومؤهلاته. في سياق هذا التطور، انحسرت الفرضيات القديمة
القائلة ان السلطة كيان مستقل ومحايد يرتبط بالنظام الطبيعي الشامل (ولهذا يجب
اتباعه) لصالح فرضية جديدة ، فحواها ان السلطة شأن عرفي عقلاني يصنعه الناس (ولهذا
يمكن نقده وتطويره). فتحت تلك النقاشات الباب أمام تحول السياسة من عمل خاص
بالنخبة الى موضوع انشغال لعامة الناس، وبالتالي فقد كسرت حجاب الهيبة وشبه
القداسة المحيط بمؤسسة السلطة وحولته الى موضوع عام واعتيادي قابل للمناقشة والنقد
والمفاضلة.
فتح هذا الباب هو
على الأرجح السياسي الايطالي ميكيافيللي (1469 - 1527) الذي حاول تفكيك الهالة
القدسية والأخلاقية المحيطة بالسلطة، وتحدث عنها كحرفة يهتم أهلها أولا وأخيرا
باستمرار نفوذهم ومصالحهم المادية، ويستعملون في سبيل ذلك كل خطاب متاح، ديني أو
أخلاقي أو سلطوي أو غيره. تعرض كتاب ميكيافيللي المشهور "الأمير"
للادانة من قبل الجميع تقريبا، الا أنه كشف للجميع حقيقة أن السلطة - بشكل عام -
ليست محايدة ، ولا تملك أية ميزة أخلاقية على بقية المؤسسات الاجتماعية.
الخطوة التالية جاءت
على يد المفكر الانكليزي توماس هوبز ، الذي طرح للمرة الأولى فكرة أن توافق
المجتمع هو مصدر شرعية السلطة وليس الارث أو الدين. عالج هوبز هذه المسألة من خلال
تحليل وضعية اجتماعية افتراضية هي المجتمع الطبيعي، السابق لقيام الدولة. وبحسب
رأيه فقد كان هذا المجمع مبتلى بالخوف وحرب الجميع على الجميع. كل فرد يتمتع بحرية
مطلقة ومساواة تامة، لكنه مضطر الى الاعتماد على قوته المادية كي يحفظ حياته
وأملاكه. ولأن الانسان عقلاني بطبعه، يحسب الخسائر والأرباح ويقدر العواقب قبل
اتخاذ القرار، فقد اهتدى الى ضرورة ايجاد نظام للضمان الاجتماعي، بحيث يعترف كل
فرد بحقوق الآخر، ويمتنع عن تهديده. وهكذا يستغني الجميع عن استعمال قوتهم البدنية
في حماية أنفسهم وأملاكهم. وقد توافقت العقول على الحاجة الى الحكومة التي تدير
هذا النظام.
قرر هوبز اذن ثلاثة مبادئ
جديدة، أولها: أن الدولة لم تكن نتيجة تطور طبيعي للعائلة ، كما رأى افلاطون. بل
هي منتج بشري توافقي تبلور في عقد بين أعضاء المجتمع من جهة، وبينهم وبين الملك من
جهة أخرى. وثاني تلك المباديء التي قررها هوبز هو أن مصدر شرعية السلطة هو توافق
المجتمع على كيفيتها ورجالها ، وليس الارث التاريخي أو التفويض الالهي أو الغلبة.
أما ثالث تلك المباديء فهو أن الوظيفة الأولى للدولة هي ادارة التعارض الضروري بين
مصالح الأفراد على نحو يغني الجميع عن استعمال قوتهم الشخصية في ضمان حياتهم
وحقوقهم.
معظم المفكرين اللاحقين
انطلقوا من النقطة التي بلغها هوبز. فركز جون لوك (1632 - 1704) على:
1- الملكية
المشتركة للموارد العامة، ولا سيما الأراضي الغير مستثمرة وحق كل فرد في حيازتها
عن طريق الاحياء.
2- التعاقد والتراضي هو أساس الحكومة ومعيار سلامة
عملها.
3- جميع الناس متساوون وأحرار بالولادة وهم مستقلون
وأكفاء كما هو الحال في مجتمع ما قبل الدولة.
|
جان جاك روسو |
النقلة الأوسع جاءت على
يد المفكر الفرنسي جان جاك روسو (1712 - 1778)، الذي تعتبر نظريته في العقد
الاجتماعي، قاعدة للنظام السياسي الحديث.. قرر روسو أن تبلور التمايز ومفهوم
الملكية هو الذي كشف الحاجة للعلاقات التعاقدية، حيث يتحدد لكل فرد حقوقه والتزاماته،
وأسس لمبدأ سيادة القانون. أهتم روسو بمشكلة الحرية والمساواة التي سوف يضطر الفرد
للتنازل عن بعضها فور انضمامه الى نظام تعاقدي. ولهذا فقد خصص جانبا
مهما من بحوثه لمعالجة أسئلة مثل: كيف يحتفظ المجتمع بالسيادة بينما يفوض ممارستها
للحكومة؟ وكيف يحافظ الأفراد على حرياتهم وتساويهم في نظام اجتماعي يؤدي بالضرورة
الى قيام حكومة قوية وتباين في القدرات بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، أي عدم
المساواة؟
اعتقد روسو أن خضوع
المجتمع لشخص الملك أو رجال الحكومة سيؤدي بالضرورة الى نوع من الاستعباد. الحل
الوحيد هو أن يحكم الناس أنفسهم من خلال القانون الذي يعبر عن ارادتهم الجمعية،
حكم القانون لا ينطوي على عبودية بحسب رأيه، لأنك حينما تخضع لحكم الجميع فانك -
في الحقيقة - لست خاضعا لأحد.
يتضح من هذا العرض
المختصر، أن التفكير الفلسفي الحديث في مسألة الدولة يصور "العقد الاجتماعي"
كقاعدة للحكومة. بموجب هذه النظرية فان المجتمع هو المالك الأصلي للسلطة وهو
يفوضها بصورة قانونية الى شخص الملك أو مجموع الأشخاص الذين يمارسون الحكم نيابة
عن المجتمع. بعبارة أخرى فان الحكومة لم تعد هيئة مستقلة عن المجتمع بل تابعة له.
وهي لا تتمتع بأي سلطة مستقلة، بل هي ممثل للشعب ووكيل عنه. انطلق هذا التفكير من
مسلمتين كبريين: أولاهما، أن الانسان مالك مستقل لنفسه ونتاج جهده، وثانيهما،
أن مجموع ما يتوافر في البلد من مصادر طبيعية قابلة للاستثمار (أي قابلة للتحول
الى مصادر قوة مالية أو سياسية) مثل الأرض والمعادن والمياه وغيرها، هي ملك مشاع
لجميع سكان لبلد، وليس ملكا للحاكم أو الحكومة. تتصرف الحكومة في حياة الناس
وأموالهم بناء على قبولهم المبدئي بأن تكون حكما بينهم ذا ارادة تغلب اراداتهم
الفردية، وتتصرف في الموارد الطبيعية المشتركة ، بناء على تفويض المالكين الأصليين
أي أفراد المجتمع لها.
زبدة القول اذن ،
ان شرعية السلطة هنا تدور حول تفويض السلطة من القاعدة ، أي عامة الشعب الذين
يملكون أنفسهم ونتاج عملهم كما يملكون المصادر الطبيعية المتوافرة في البلاد.
4- المصدر الديني للشرعية السياسية: التجربة الايرانية
جاء انتصار الثورة
الاسلامية في ايران عام 1979، باتجاهات جديدة في نظرية السلطة الدينية ، يسعى
معظمها الى المزاوجة بين التفكير الديني التقليدي وضرورات الدولة الحديثة. وسوف
أعرض هنا بعض التعديلات الرئيسية التي أدخلها قائد الثورة الامام الخميني على
نظرية السلطة التقليدية القائمة على ولاية الفقيه.
أ - من الحاكم الفرد الى الدولة -
المؤسسة
على الرغم من تأكيده على الدور المحوري للفقيه، الا أن الخميني نقل
السلطة من شخص الحاكم الى مؤسسة الدولة. السلطة المطلقة للامام سوف تنتقل - في رأي
الخميني - من الامام الى مؤسسة الدولة وليس شخص الحاكم أو الفقيه:
السلطة المتفرعة عن ولاية رسول الله
-صلى الله عليه وآله وسلم- المطلقة من أحكام الاسلام الأصلية وهي مقدمة على جميع
الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج. سلطة الدولة الاسلامية عامة وتشمل كل
جوانب الحياة الاجتماعية بما يتجاوز الحدود المتعارفة في الأبحاث الفقهية.
في حديث أخر يشير الخميني الى
أن سلطة الفقيه ينبغي أن تفهم في اطار الحكومة الاسلامية. هذه السلطة لا تصبح
فعلية الا اذا حصلت على تأييد الشعب. النقطة الجوهرية في
كلتا الفكرتين هي أن سلطات الامام لم تنتقل الى شخص الفقيه بل الى الدولة كمؤسسة. وفي هذه الحالة فان
الفقيه يؤدي دور الوسيط الذي من خلاله تنتقل السلطة بصورة مشروعة من الامام الى
الدولة. وبناء على هذا التصوير، فانه لم يعد ثمة موضوع للجدل حول الصلاحيات
المطلقة التي سوف تنتقل من الامام؛ فالدولة بطبيعتها، سواء كانت شرعية أم غير
شرعية، تتصرف في أمور مواطنيها وأملاكهم، فالقضاة يصدرون أحكاما تنطوي على عقوبات
جسدية. والجيش يرسل الجنود إلى ساحات الموت، والوزارات تفرض رسوما وضرائب وتحدد
كيفية تصرف الناس في أملاكهم.. إلخ. عندئذ، فإن انتقال سلطات الامام يجب أن يفهم
في اطار العمل الطبيعي لمؤسسة الدولة ككل، فهي إما أن تكون متمتعة بهذه الصلاحيات
الواسعة أو لا تكون حكومة على الإطلاق.
تميل نظرية السلطة الدينية التقليدية إلى وضع الفقيه فوق القانون أو
اعتباره مصدر القانون. ويشير هذا الميل إلى تأثير نظرية أرسطو حول الفعل الإنساني
التي تقول ان الملك- الفيلسوف هو الوحيد بين الناس القادر على ادراك الحقيقة.
ولهذا فان رأيه هو التعبير الأمثل عنها، فلا يصح تقييده بقانون. وقد أكد على هذا
المعنى عدد من الفقهاء ومنظري التيار المحافظ في إيران مثل محمد صادق حقيقت، مصباح يزدي
، ومحمد جواد لاريجاني ،
الذي يستعمل نظرية أرسطو عينها، ويجادل بان رعاية الفقيه لحدود القانون والقواعد
المحددة سلفا ، سوف تعين على تحسين كفاءة الأداء وتوفر - بالتالي - أفضل الناتج،
ولكن الفقيه ليس ملزما بذلك في جميع الأحوال.
اما آية الله الخميني
فقد أكد منذ البداية على حاكمية القانون. ورفض من دون تردد
مقترحا قدمه بعض معاونيه لاعتماد الحكم المباشر ، من دون دستور ، لفترة انتقالية
تدوم عشرين عاما ، يجري خلالها بناء النظام الإسلامي وإعداد المجتمع. واعتقد أن القرار
الحاسم للخميني بالانتهاء من صياغة الأساس الدستوري للنظام، كان حجر الأساس الذي
قام عليه بناء الدولة الجديدة. طرح دستور الجمهورية الاسلامية للاستفتاء العام بعد
سنة على انتصار الثورة فحسب. ويؤكد الدستور على فصل السلطات الثلاث ، وكونه المرجع
الأعلى لكل قانون أو لائحة تصدرها أجهزة الدولة.
تؤكد المادة رقم 56 من
الدستور الايراني على أن المجتمع هو وعاء السلطة ومالكها:
الحاكمية المطلقة على الكون والإنسان
لله، وهو الذي جعل الإنسان حاكما على مصيره. ولا يمكن لأحد أن يسلب هذا الحق
الألهي من الإنسان ولا يجيره لمصلحة فرد أو مجموعة معينة. وللأمة أن تضع هذا الحق
الممنوع من قبل الله موضع التنفيذ بالطرق المقررة في الدستور.
وفقا لذلك أحال الدستور وظيفة
التشريع على مجلس الشورى الذي ينتخب من قبل الشعب. وقد أثار الدور التشريعي للنواب
(وغالبيتهم العظمى من غير الفقهاء) جدلا لا زال محتدما. نعرف أن الرؤية الدينية
القديمة تميل الى اعتبار التشريع حقا خاصا بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم-
والإمام ومن ثم الفقيه. وقد عالج الخميني هذا الإشكال من خلال صياغة جديدة لمفهوم
التشريع، فطرح فكرة "مصلحة النظام" كإطار مفهومي لمعالجة الأحكام
المتعلقة بسلطة الدولة والمصالح العامة.
ضمن هذا الإطار ربط الخميني
تطبيق الأحكام الشرعية بالمصلحة المستهدفة من الحكم. ومع الأخذ بمبدأ التعريف
والتشخيص العرفي للمصالح، فإن قابلية الحكم الفقهي للتحول إلى قانون ملزم أصبحت
مرهونة بما يؤدي إليه من مصلحة. وينطوي هذا المفهوم على إعادة تعريف للدور
التشريعي المناط بالبرلمان أو المجتهدين كي يصبح تشخيصا للمصالح
العامة وليس وضعا للحكم الشرعي أو إنشاء لإلزام ديني أو تصريحا عن الإرادة
الإلهية، كما هو مفهوم التشريع الشائع بين الإسلاميين.
استفاد الخميني إذا من
المقدمات المتعارفة بين الأصوليين في ربط الحكم بالمصلحة، وإرجاع تشخيص المصالح
إلى عرف العقلاء، فأعطى هذا الدور لممثلي الشعب باعتبارهم عقل الأمة وممثلي
إجماعها أو عرفها العام.
يكشف التنظيم السياسي
الإيراني عن الإيمان العميق للخميني بدور الشعب؛ فرئيس السلطة التنفيذية ينتخب من
قبل الشعب ، وكذلك أعضاء المجلس التشريعي، فضلا عن أعضاء مجلس الخبراء الذي يعين
الولي الفقيه وينظر في عمله.
في المقابل فان أغلبية الفقهاء
التقليديين - بحسب ما توفر لدي من معلومات - لا زالوا غير مقتنعين بأن السلطة
السياسية يمكن ان تفوض من جانب الشعب. واختار أية الله مكارم شيرازي منهجا
براغماتيا في تصوير المسألة: "لا يرى في روايات أصحابنا وتاريخهم من أمر
الانتخاب بالنسبة إلى ولاية الفقهاء عين ولا أثر، ولو كان ذلك لبان". لكنه
يعود لقبوله على أساس سياسي "لدفع تهمة الاستبداد والسلطة على الناس بغير رضى
منهم، مضافا إلى جلب مساعدتهم عن طريق مشاركتهم في هذا الأمر".
تحولت نظرية السلطة الدينية إلى
موضوع نقاش واسع بعد قيام الجمهورية الإسلامية. دافع التقليديون والمحافظون عن
الصورة القديمة. وبرز في المقابل مفكرون وفقهاء إصلاحيون أخذوا النقاش الى مجالات
واسعة ، وساعدوا في تطوير فهم جديد لمسألة السلطة الدينية ، ومصادر شرعيتها وآليات
عملها ودور الشعب فيها. القاعدة التي انطلق منها معظم هؤلاء هو الشعور بفقر
النظرية التقليدية ، وبشكل عام افتقار التراث الفقهي إلى فهم متين للمسألة
السياسية.
تبنى دستور الجمهورية
الإسلامية مبادئ غير متعارفة في الدراسات الفقهية. ومن بينها مفهوم سيادة الأمة؛
الحريات العامة؛ الفصل بين السلطات... إلخ. بل إن مفهوم الشعب ذاته يعتبر حديث
الظهور في الثقافة الإسلامية ولا توجد له سوابق في التراث. وبحسب آية الله شبستري
فإن "تأييد الفقهاء لهذه المفاهيم يمثل بادرة غير مسبوقة في التراث الديني.
وما دمنا لا نجد شكلا محددا للحكومة في القرآن أو السنة النبوية، فإن الباب مفتوح
في حقيقة الأمر للمسلمين كي يدمجوا مثل هذه المفاهيم في ثقافتهم الاجتماعية وفي
نظامهم السياسي".
في هذا الإطار شدد أية
الله منتظري، على أن الخالق سبحانه قد أودع سلطته المطلقة في الأمة التي بدورها
تفوضها للحاكم بأي طريق يكشف عن إرادتها الصريحة كالانتخابات . ويجادل منتظري
بأن الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) والائمة المعصومين (عليهم السلام) لم يكونوا
استثناء من هذه القاعدة، فتوليهم للسلطة السياسية كان مشروطا بالبيعة العامة التي
يعدها بمثابة العقد مع الأمة ، وفي السياق ذاته جادل
آية الله صانعي بأن السمة الدينية للدولة ، لا تستدعي بالضرورة أن يكون الحكم بيد
الروحانيين. وهو يدعو الى الفصل بين مشروعية الفعل وسلطة الفاعل، إذ إن
مبررات هذا مختلفة عن ذاك. ويرى أن هذه القاعدة قابلة للتطبيق حتى في الأعمال التي
تعتبر مشروعيتها من المسلمات مثل إمامة صلاة الجماعة، فضلا عن القيادة السياسية.
حول حاكمية القانون،
أكد محمد خاتمي على مرجعية الدستور وكون الحد الأقصى لأي سلطة: "قلت تكرارا،
وقلت بالخصوص لقائد الثورة أن الدستور هو القانون الأعلى لنظامنا. ولاية الفقيه
اكتسبت أهميتها ومحوريتها في هذا النظام بسبب إقرارها في الدستور. لولا الدستور
لكانت مجرد نظرية مثل الكثير من النظريات الفقهية الأخرى".
يشكل العرض السابق خلفية عن المسار الذي وصلته النقاشات المعاصرة في
الوسط الإسلامي حول إمكانية تطوير نظرية لنظام سياسي يجمع بين قيم الدين السامية
وقيم الحداثة السياسية ولا سيما الديمقراطية. لو كنا نملك نظرية متكاملة وجاهزة
لما احتجنا الى هذا النقاش. كما إن النقاش في الموضوع لا يستهدف تسفيه أي فكرة أو
نظرية أو الترويج لأخرى، قدر ما يستهدف إثارة الأسئلة وتفصيح القضايا الإشكالية
التي ينطوي عليها السؤال، والسعي الى اكتشاف المحاولات التي جرت على الصعيدين
النظري والعملي لعلاجها؛ فكرة الديمقراطية الدينية إذن هي برنامج بحث مفتوح قابل
للتطوير من خلال المعالجات المختلفة والنقد. صورة النظام السياسي الديني الأمثل هي
الصورة التي يطورها المنتمون الى هذا الدين، الحريصون على أن يشاركوا في صياغة
حياتهم العامة ونظامهم الاجتماعي.
من المفهوم طبعا أن
تأسيس قاعدة نظرية متينة لهذا المركب ليس بالأمر السهل، وبخاصة مع هيمنة اتجاه في
الثقافة الإسلامية يعتبر الديمقراطية منتجا غربيا محملا بفلسفة عاجزة عن التناغم
مع المعرفة والقيم الإسلامية. من هنا فإن الضرورة تقتضي القول إننا لا نضع
الديمقراطية في مقابل الدين. الديمقراطية تقابل الاستبداد، فهي تصور عن نظام عمل
في مجال الحكم وليس ايديولوجيا كاملة. على أقل التقادير، فإننا غير مضطرين للأخذ
بها كايديولوجيا كاملة. ونشير في هذا الصدد إلى الحاجة للتعامل النقدي مع منتجات
الفكر الإنساني بمجمله، سواء كان غريبا أو إسلاميا قديما أو حتى قبل إسلامي، فضلا
عن منتجات الفكر الديني المعاصر. ينبغي أن نخضع جميع هذه المنتجات لمعالجة نقدية ،
ونعيد إنتاج المناسب منها في إطار ثقافتنا المحلية، من دون أن نعطي لأي منها قيمة
مطلقة أو نهائية.
|
سعيد حجاريان |
في نهاية المطاف، فان الفكر
الإنساني يحمل في داخله سمات تاريخه وظرف ميلاده الاجتماعي. وهذه السمات قد تكون
قيدا عليه أو حدودا له. ولذا فنحن نتعامل معها كمعارف قابلة للنقد والتعديل ، من
دون انبهار بها أو رفض أعمى لأي منهما. مفهوم الديمقراطية هو أحد هذه المنتجات
التي ننظر إليها كتجربة إنسانية في مجال الإدارة العامة. وهي لا تقارن بالدين بل
بأنظمة الحكم الأخرى. نحن نبحث عن وسيلة موثقة للتخلص من استبداد الدولة وهدرها
المزمن لقيمة الإنسان وكرامته، فضلا عن تعطيل سعي الأمة الى السيطرة على أقدارها
والإقلاع من تخلفها. نتحدث عن الديمقراطية كخيار ممكن. نحن لا نفكر في يوتوبيا أو
نموذج نظري تخيلي، بل نتحدث عن نظام قائم، عناصره واضحة ومعروفة بدقة، وجرت تجربته
على نطاق واسع. في معظم هذه التجارب
ساعد النظام الديمقراطي على إقامة نظام إدارة للحياة العامة يتميز بالفعالية ،
ويضمن في الوقت نفسه حقوق الأفراد وكرامتهم. تاريخ الشرق الأوسط والعالم الإسلامي
بشكل عام يبرهن على أن الاستبداد هو العلة الكبرى لتخلفنا وصيرورتنا ذيلا لأقطار
العالم الأخرى. طبقا لسعيد حجاريان، فان احتكار الدولة للقوة والموارد طيلة التاريخ
الماضي كان سببا في إذلال الإيرانيين، كما كان المعيق الأبرز لتمدن البلاد
وارتقائها. وفي المقابل فان الديمقراطية تقدم وسيلة عملية وفعالة لإصلاح الخلل في
موازين القوة، على وجه يجعل المجتمع سيدا للدولة. ويذهب شبستري بالجدال
إلى مدى أبعد حين يقرر أن الديمقراطية ضرورة للدين مثل ضرورتها للمجتمع. ويستشهد
باثنين من المكونات الأصلية للديمقراطية، أي المساواة والحريات المدنية، ليؤكد على
أن "إطار الديمقراطية الليبراليةهو الوحيد الذي يوفر الفرصة لتحقيق الغايتين
الأعظم من غايات الدين، أي العدالة وانعتاق الإنسان".
على الرغم من أن الكثير من الأسئلة التي سنطرحها قد عولج من قبل باحثين
معاصرين أو في إطار تجارب فعلية ، كما شرحنا في السطور السابقة. لكنها مع ذلك
بحاجة إلى المزيد من النقاش ، حتى نصل الى منظومة متينة التأسيس، وإن كانت ستبقى
بطبيعة الحال غير نهائية:
1- لعل السؤال الأول الذي يثار هنا
هو إمكانية الفصل بين ما تحمله الفكرة الديمقراطية من مضمون قيمي وفلسفي غربي،
وبين الديمقراطية كآلية لإدارة الشأن العام. يقودنا هذا بالطبع إلى الحديث عن حدود
التفاعل والمثاقفة بين الفكر الإسلامي ونظيره الغربي. يمكن التوسع في مناقشة هذا
السؤال على ضوء فكرة العلاقة النقدية التي أشرنا إليها سابقا.
2- من الأمور التي قلما دار فيها
النقاش هو تعريف الحكومة الإسلامية، أو الحكومة التي تتمتع بصفة الشرعية من
الناحية الدينية. الفهم الموروث يفترض أن الحكومة الدينية يجب أن تتحمل مسؤلية
الدعوة الى الدين وإلزام عامة الناس بأحكامه ، بخلاف الفهم الحديث لدور الدولة
التي يتراوح بين الحد الأدنى الذي يحصرها في إدارة تعارضات المصالح بين الناس ،
وحماية الأمن العام ، أو ما يوصف أحيانا بدور الحارس الليلي؛ والحد الأعلى الذي
يسمح لها بالتدخل في السوق والخدمات العامة وضمان الرفاهية المادية للجميع.
في كل الأحوال فإن الربط بين الدولة
والدعوة، يثير إشكالات جدية على الطرفين، الدولة والدين، لأنه يحول الدعوة الدينية
من طبيعتها الأصلية كحركة تفاعل إنساني سلمي إلى فرض بالقانون. وهذا يتعارض - كما
رأى العلامة الحلي - مع دليل اللطف وهو عمدة الأدلة العقلية في مسألة الإمامة؛
فالقهر والإجبار على الطاعة، ليس بلطف لأنه مناف للتكليف. اللطف هو بيان الحكم
والحث على اتباعه وتزيين طريق الخير للسالكين. ونعرف طبعا أن الحوار
والاقناع والاكتفاء بالبيان، ليس من طبيعة الدولة ولا هي قادرة على الاقتصار عليه.
طبيعة الدولة هي القهر المادي أو المعنوي بالقوة أو بالقانون أو بهما معا. من هنا
فإننا بحاجة إلى التفكير مليا في حقيقة الحكومة وطبيعتها ودورها ومدى دخالة الدور
الدعوي خصوصا في توليد المشروعية، وتأثير قيامها بهذا الدور على الحريات العامة
والتنوع الثقافي المطلوب في ظل نظام تعددي ديمقراطي.
3- على الرغم من ما يبدو من قبول
إجمالي بفكرة اشتراك الشعب في توليد الشرعية السياسية، إلا أن الفلسفة التي يقوم
عليها هذا الترتيب لا تزال محل جدل. في النظام الديمقراطي يعتبر رضى الشعب مصدرا
وحيدا للشرعية. وهذا يتعارض بالطبع مع الفهم السائد عندنا والذي فحواه أن القيم
الدينية (أو رضى الله) تمثل معيارا أعلى للشرعية السياسية. يمكن معالجة هذا السؤال
على ضوء فكرة تفويض السلطة من قبل الله سبحانه إلى نوع الإنسان أو إلى الأمة.
لتعميق البحث أكثر نقترح مناقشة عنصرين أوليين: الأول، هو ملكية الإنسان
لجسده ونفسه وتبعا أملاكه التي حصل عليها بطريق شرعي. ويمكن الاستفادة في هذا
الإطار من بحوث الفقهاء في القاعدة المشهورة بقاعدة السلطنة ((الناس مسلطون على
أملاكهم)). مفاد هذه القاعدة أن الإنسان الفرد يملك ولاية كاملة وأصلية على نفسه
وأملاكه، أساسه ملكيته لهما؛ فكل سلطة أخرى عليهما مزاحمة للسلطة الأصلية وهي
تحتاج الى دليل. إثبات هذه الولاية يمكن أن يكون أساسا لحق الفرد في تفويض جانب
منها إلى طرف آخر مثل المجتمع أو الحكومة في إطار عقد. يمكن دعم هذه الفكرة بمبدأ
أصالة الحرية والاختيار، ومبدأ أصالة الإباحة وعدم اشتغال الذمة.
4- مسألة التشريع، هي الأخرى من
القضايا التي أثارت جدلا في الماضي والحاضر. يذهب الاتجاه الكلاسيكي في الفكر
الإسلامي الى أن التشريع حق لله والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم لمفسري
الوحي أي الفقهاء. وأنه لا شأن للجمهور ولا ممثليه في هذا الأمر لأنهم ليسوا من
أهل الاختصاص. يمكن معالجة هذا الإشكال على ضوء الصياغة التي قدمها الإمام
الخميني، أي تجاوز العنوان الى المضمون.
طبقا لهذه الرؤية، فإن
البرلمان لا اختصاص له في موضوع العقائد ولا العبادات. عمله يقع كليا تحت عنوان
المعاملات. أحكام المعاملات تتبع التحديدات العرفية لموضوعاتها، وتتقرر على ضوء
المصلحة العقلائية الراجحة. وعلى ضوء هذا الفهم، فإنه لا البرلمان ولا الفقيه
يمارسان العمل التشريعي بالمعنى الديني الدقيق. عملهم يتركز على تشخيص الموضوعات
بحسب الفهم العلمي أو العرفي لها وموازنة المصالح العقلانية التي تنطوي عليها.
وعلى أي حال فإن لأعضاء البرلمان الرجوع دائما إلى رأي الفقيه. لكن هذا الرأي لا
يتخذ صفة الإلزام إلا إذا وافق عليه نواب الشعب (وهم بمثابة ممثلي العرف العام أو
بناء العقلاء أو أهل الحل والعقد)، وصدر في صيغة قانون. يمكن أيضا الاستفادة من
الأدلة العقلية التي تذكر في باب الاجتهاد والتقليد، وعمدتها الوجوب العقلي لرجوع
الجاهل الى العالم. كما يمكن الاستفادة من النصوص الدالة على وجوب مراعاة العرف
العام عند إصدار الحكم، مثل الآية المباركة "خذ العفو وأمر بالعرف" والمروي عن الإمام علي - عليه السلام - "حدثوا الناس بما
يعرفون". فهذه وغيرها تدل على دخالة العرف العام في عملية التشريع.
|
الميرزا محمد حسين النائيني |
بطبيعة الحال فحين نتحدث عن أحكام
عامة لمجتمع بأكمله أو دولة بمجتعات متعددة، فإن مراعاة العرف تقتضي دخالة ممثلي
العرف العام، أي نواب الشعب. هذا فضلا عن أدلة الشورى وهي كثيرة. وقد احتج بهاالعلامة النائيني في مناقشة المعارضين للحركة الدستورية، وقرر أن عمومية الشورى
تقتضي وجود ممثلي الأقليات غير الإسلامية في البرلمان ومشاركتهم في النقاش حول
القوانين التي ستطبق على عامة الناس بما فيها غير المسلمين.
5- الحريات العامة والفردية وحدودها،
تتفق الأنظمة السياسية الحديثة على وجوب الفصل بين المجالين العام والخاص. المجال
الخاص أو الشخصي يمثل حريما خاصا بالفرد يمارس فيه حرية مطلق ويحقق من خلاله معاني
وجوده كإنسان مستقل عن الغير ومتمايز بنمط معيشته وتفكيره. المجال الذي يشترك فيه
الناس هو نطاق اشتغال الإجراءات الحكومية، سواء أكانت تشريعات أو أعمالا تنفيذية.
لكن لا يجوز للدولة التدخل في المجال الشخصي سواء بالتشريع أو باتخاذ إجراءات.
هذا النوع من التفصيل
غير متداول في ثقافتنا العربية والإسلامية؛ فالانطباع العام - لدى الجمهور على
الأقل - أن للدولة أو المجتمع حقا في الاستعمال المتعسف للعرف والتقاليد
الاجتماعية في فرض صور خاصة للبس والأكل، كما نراه في الضيق بالآراء المختلفة أو
التفكير غير التقليدي. في إيران مثلا شكل بعض المتشددين هيئات للتجسس على الناس في
بيوتهم وعائلاتهم اللتأكد من صحة إيمانهم. وطبق ذك خصوصا على المتقدمين لشغل وظائف
حكومية، الأمر الذي استدعى تدخلا غاضبا من الإمام الخميني، حلت على أثره تلك
الهيئات.
بشكل عام يرى المجتمع الديني لنفسه
حقا في توجيه حياة الفرد وحركته توجيها يصل إلى درجة التقييد والقسر. اظن أن مرجع
هذه الرؤية هو تركيز الثقافة الإسلامية العامة على عنصر التكليف والواجب، وإهمالها
الكلي تقريبا لعنصر الحق؛ فضلا عن تمحورها حول الجماعة وإهمالها الكلي تقريبا
لقيمة الفرد المستقل. نحن بحاجة على أي حال الى تأصيل ومناقشة مبدأ الفردانية
واستقلال الفرد والحقوق الفردية والعامة، ومعالجتها من خلال قيم العدالة والمساواة
ومنع الجبر والقسر. ولدينا مخزون كبير من التراث الديني الذي يمكن الرجوع إليه في
هذه الجوانب.
قدمت المقالة عرضا موجزا عن مصادر الشرعية السياسية عند الإسلاميين
القدامى والمعاصرين وعند الاتجاه السائد في الفكر الغربي. كما قدمت تصويرا سريعا
عن المعالجات التي اعتمدت في جمهورية إيران الأسلامية التي تمثل مختبرا حيا لمسار
وثمرات التفاعل بين القيم الدينية ومبادئ الدولة الحديثة. كثير مما اعتمد في إطار
الدستور الإيراني وما طرحه آية الله الخميني ، وما برز من خلال النقاشات القائمة
في إيران، يعتبر إضافات غير مسبوقة للفكر السياسي الديني، وهو يمثل قاعدة مناسبة
للتفكير في مراحل أكثر تطورا.
تقترح المقالة في
الختام اعتبار التفكير في "الديمقراطية الدينية" برنامج بحث مفتوح
ومتصاعد، وقدمت اقتراحات عن قضايا محددة يرى الكاتب أنها لا تزال بحاجة إلى المزيد
من البحث والجدل. على أمل أن نصل في يوم من الأيام الى حديث عن نظام ديمقراطي قائم
على أرضية القيم الدينية، نتمع في ظله بالعدالة والحرية من دون أن نضحي بهويتنا أو
نتنازل عن توقنا الأزلي إلى جمال السماء.
نشرت في مجلة الغدير – بيروت ،
العدد 45 ، شتاء 2008
David Apter, The Politics of Modernization, (Chicago 1965),
pp. 66-8
Taketsugu Tsurutani,, “Stability and Instability”, The
Journal of Politics, vol. 30, no. 4. (Nov., 1968), pp. 910-933: p. 911
كاشف الغطاء ، جعفر :
كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء (اصفهان د.ت) ص 394
Jean-Jacques Rousseau, The Social Contract, Translated
by G. Cole, Cosimo (New York 2008), P. 16
الشريف المرتضى علي بن الحسين : رسائل
المرتضى ، اعداد السيد مهدي رجائي ، دار القرآن الكريم ، (قم 1405)
2/264
محمد بن الحسن الطوسي:
الرسائل العشر ، ط2 ، مؤسسة النشر الاسلامي ، (قم 1414) ، ص 121
محمد بن يعقوب الكليني
: الكافي (بيروت 1990) 1/256
انظر اشواق غليص :
التجديد في فكر الامامة الزيدية في اليمن ، مكتبة مدبولي، (القاهرة 1997)
القرطبي ، محمد بن احمد
: الجامع لاحكام القرآن ، دار الكتاب العربي ، (بيروت 1985) 1/265
القرطبي : المصدر
السابق ، 1/264
الغزالي ، الامام
ابو حامد : قواعد العقائد ، الفصل الثالث ، الركن الرابع . الاصل العاشر. ن. إ: http://www.ghazali.org/ihya/arabic/j1-k02.doc
المرتضى ، الشريف علي
بن الحسين: تنزيه الانبياء (بيروت 1989) ص 139 ، ايضا كاشف الغطاء : المصدر السابق
، 394
احمد النراقي : مستند
الشيعة ، ط4 ، مكتبة آية الله المرعشي ، (قم 1405) ، 2/516
محمد بن الحسن الحلي :
إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد ، المطبعة العلمية (قم 1387 هـ)
Plato, The Republic, translated by Desmond Lee, (London
2003), p.192, 198
cited in Akhavi, Sharough., Religion and Politics in
Contemporary Iran (Albany,
1980), p. 11
غرويان ، محسن ، ورد في
سعيد حجاريان : جمهوريت افسون زدائي از قدرت (تهران 2000) ص 786
محمد حسن الغروي
الاصفهاني : حاشية المكاسب ، ج. 2 ، ص. 215 (قم. د.ت)
Steinberger, Peter, ‘Ruling: Guardians and Philosopher-Kings’, The
American Political Science Review, vol. 83, issue 4 (Dec. 1989),
1207-1225: pp. 1207, 1213
Jeremy Jennings: "Rousseau, Social Contract and the Modern
Leviathan" In D. Boucher & P. Kelly (eds), The
Social Contract from Hobbes to Rawls, (New York, 1994), Routledge, p.119.
الخميني ، روح الله: صحيفه نور ، اعداد مؤسسه تنظيم و نشر اثار امام
خمينى- (تهران 2004). 20/233
تتوفر
قائمة باعمال الخميني على العنوان الالكتروني :
www.imam-khomeini.com . وحول تطور الفكر السياسي للخميني انظر : نبوي :
"تطور انديشه امام خميني" فصلنامه امام صادق ، العدد 6 ، (صيف وخريف
1988) .ن.إ: www.hawzah.net/Per/Magazine/IS/006/is00604.htm
الخميني : المصدر
السابق ، ص 239
قائم مقامي ، عباس :
قدرت ومشروعيت (تهران 2000) ، ص 116
صادق حقيقت: توزيع قدرت
در فقه شيعه (تهران 2002) ص 272
مصباح يزدي: نكاهي كذرا
به ولايت فقيه (قم 1999) ص 118
محمد جواد لاريجاني:
نقد دينداري ومدرنيسم (تهران 1997) ص. 78
الخميني : المصدر
السابق 3/69
ابراهيم يزدى: سه
جمهورى ، (تهران 2001) ، ص 421
ناصر مكارم شيرازي :
بحوث فقهية مهمة (قم . د. ت) ، ص 472-476
محمد مجتهد شبستري:
نقدى بر قراءت رسمى از دين ، (تهران 2000) ص 186
حسين علي منتظري:
دراسات في ولاية الفقيه (بيروت 1988) 1/493
منتظري : المصدر السابق
، ص 527
يوسف صانعى: حديث في
المدرسة الفيضية ، قم ، ايسنا (2 يناير 2003)
محمد خاتمي: توسعه
سياسى ، طرح نو (تهران 2000) ، ص 81
محمد مجتهد شبسترى :
"مردم سالاري جيست ؟"، آفتاب ، العدد 7 ، (اغسطس 2001) ، ص 4
سعيد حجاريان ،
جمهوريت ، مصدر سابق ، ص 726-728
العلامة الحلي :
الالفين ، مكتبة الالفين (الكويت 1985) ، ص. 65
القرآن الكريم ، سورة
الاعراف ، الاية 199
محمد حسين النائيني:
تنبيه الامة وتنزيه الملة ، في توفيق السيف : ضد الاستبداد، المركز الثقافي العربي
(بيروت 1999) ص 255
اصدر الخميني بهذا
الصدد بيانا من ثماني نقاط في ديسمبر 1982 . لتفصيلات حوله ، انظر مهريزي :
"دولت دينى وحريم خصوصى" ، حكومت اسلامي ،العدد 12 (صيف 1999) . ن. إ.: www.nezam.org/persian/magazine/012/04.htm