طبقا
لتقارير الصحافة المحلية فان شركة الاتصالات السعودية قادرة على منع اي مواطن او
مقيم من السفر اذا كان مديونا لها ، وتقول الشركة ان هذا ينطبق على المديونيات
التي تتجاوز العشرة الاف ، لكن مواطنين افادوا بانهم او مكفوليهم منعوا من السفر
من اجل خمسة عشر ريالا فقط . والمبلغ الاخير يقل بالتاكيد عن كلفة المحاسبة وفرض
قرار المنع وتنفيذه اذا اردنا ان نحسب كلفة العمل الذي تقوم به الشركة او جهة
التنفيذ . هذه الكلف في المجموع تمثل اهلاكا لعوامل الانتاج ، ولو جرى احتساب
مجموع الكلفة التي تقع على جميع المتضررين ، فلربما تصل الى نسبة مؤثرة من الناتج
الوطني العام .
الكلفة
المادية على اهميتها قد تكون هينة بالقياس الى الكلفة السياسية والاجتماعية لمثل
هذا النوع من الاجراءات. من الناحية القانونية فان شركة الاتصالات لا تختلف عن اي
بقال في السوق ، فكلاهما يعتبر – قانونيا – وحدة تجارية خاصة غرضها الربح ،
وبالتالي فان علاقتها مع المواطن من جهة ومع الدولة من جهة اخرى ، هي علاقة مصلحة
مالية بحتة . صحيح ان شركة الاتصالات تقدم خدمة عامة ، لكنها خدمة مقيمة بالكامل
على اساس تجاري وغرضها الربح وليس مساعدة المواطنين فلماذا تمنح حقا من نوع منع
المواطنين من السفر . دعنا نتصور خطورة المسألة لو ان كل منشأة تجارية اخرى حصلت
على حق مشابه ، حينئذ فان البقال الذي يجاور بيتك يستطيع منعك من السفر لانك تأخرت
في سداد قيمة مشترياتك ، والبنك سيمنعك من السفر حتى تسدد فاتورة البطاقة الائتمانية
، وشركة الكهرباء لان الشيك لم يصلها في الموعد المقرر ، وصديقك الذي تدين له
بعشرين ريالا لانه نسي انك دفعت حقه ، وصاحب التكسي لانه صادف يوما انك ركبت
السيارة ولم يكن معك فكة ، وشركة الخطوط لانك حجزت مقعدا ولم تشتر التذكرة ، وو..
الخ . وقبل زمن كانت شرطة المرور تستطيع منعك من السفر اذا لم تسدد مخالفات السير
، ولا ادري ان كان الامر جاريا حتى الان ام لا .
المبالغة
في ايقاع عقوبة المنع من السفر على المواطنين لاي سبب ، معقولا او غير معقول له
كلفة سياسية كبيرة تتمثل في تعميق شعور الناس بالحصار. اي ان تكون حركة المواطن
وعمله وسفره ومعيشته، كلها محكومة بارادة اخرين يتمتعون بقدرة مطلقة وفورية على
اعاقته في اي وقت .
من
ابرز سمات الدولة الحديثة هو التمييز الحاسم بين الدولة (التي تمثل جميع الناس)
والمنشآت التجارية التي تمثل مصالح اصحابها فقط . بموجب هذا التمييز فان القطاع
التجاري يمنع بصورة كاملة من الاستفادة من قوى الدولة او صلاحياتها القانونية
لتحقيق اغراض تجارية خاصة ، ومن بينها منع التجار من ايقاع اي نوع من العقوبة على
المواطنين . ولهذا مثلا فان الدول المتقدمة تمنع على الشركات التي تستفيد من ميزات
ترجيحية (من نوع احتكار صناعة الاتصالات الذي تتمتع به شركة الهاتف) من قطع الخدمة
الا بعد اخطار قانوني متكرر وتمكين المواطن من الرد والاعتراض امام جهة محايدة .
ما
يهم التاجر هو الربح اولا واخيرا ، اما الدولة فينبغي ان تهتم بتحرير المواطن من
الضغوط المختلفة ، المعيشية و الاجتماعية وغيرها . المنع من السفر هو حرمان
للمواطن من حق طبيعي واصلي يتمتع به بموجب المواطنة وهو عقوبة كبيرة جدا تقارب
عقوبة السجن . وطبقا للنظام الاساسي ومواثيق حقوق الانسان التي وقعتها المملكة في
اطار الامم المتحدة ، فانه لا يجوز حرمان المواطن من حقوقه الطبيعية الا بموجب
قرار من محكمة صالحة وضمن اجراءات التقاضي المعمول بها في البلاد.
في
اعتقادي ان منع المواطن من السفر بناء على طلب شركة الاتصالات او المرور او اي
منشأة اخرى من دون حكم قضائي متكامل الاركان ، هو مخالفة صريحة للنظام الاساسي
الذي هو مرجع القوانين جميعا ، كما انه يزيد في الشعور بالمظلومية والحصار عند
المواطنين . وفي مثل الظروف الحالية فاننا بحاجة الى اشاعة الرضى بين المواطنين
وليس القهر . اذا ارادت شركة الاتصالات ان تحصل على حقوقها فلتقم دعوى قضائية على
من تشاء ، لا ان تخرق الحقوق الثابتة للمواطن.
الدولة
هي الجهة الوحيدة التي لها الحق في ايقاع العقوبات وهذا الحق مقيد – بموجب النظام
الاساسي- بقرار المحكمة وتوفر ضمانات قضائية متساوية لجميع الاطراف . لهذا فينبغي
عدم التوسع في استعمال القرارات الادارية ، سيما تلك التي تنطوي على خرق للحقوق
الاساسية للمواطن بالنظر لما تؤدي اليه من تعقيدات في العلاقة بين المواطن والدولة
، وهو مالا يريده اي عاقل لا سيما في مثل الظروف الحالية.
(
السبت - 13/11/1425هـ ) الموافق 25 /
ديسمبر/ 2004 - العدد 1287