25/12/2004

الكلفة السياسية لفواتير الهاتف


 طبقا لتقارير الصحافة المحلية فان شركة الاتصالات السعودية قادرة على منع اي مواطن او مقيم من السفر اذا كان مديونا لها ، وتقول الشركة ان هذا ينطبق على المديونيات التي تتجاوز العشرة الاف ، لكن مواطنين افادوا بانهم او مكفوليهم منعوا من السفر من اجل خمسة عشر ريالا فقط . والمبلغ الاخير يقل بالتاكيد عن كلفة المحاسبة وفرض قرار المنع وتنفيذه اذا اردنا ان نحسب كلفة العمل الذي تقوم به الشركة او جهة التنفيذ . هذه الكلف في المجموع تمثل اهلاكا لعوامل الانتاج ، ولو جرى احتساب مجموع الكلفة التي تقع على جميع المتضررين ، فلربما تصل الى نسبة مؤثرة من الناتج الوطني العام .

الكلفة المادية على اهميتها قد تكون هينة بالقياس الى الكلفة السياسية والاجتماعية لمثل هذا النوع من الاجراءات. من الناحية القانونية فان شركة الاتصالات لا تختلف عن اي بقال في السوق ، فكلاهما يعتبر – قانونيا – وحدة تجارية خاصة غرضها الربح ، وبالتالي فان علاقتها مع المواطن من جهة ومع الدولة من جهة اخرى ، هي علاقة مصلحة مالية بحتة . صحيح ان شركة الاتصالات تقدم خدمة عامة ، لكنها خدمة مقيمة بالكامل على اساس تجاري وغرضها الربح وليس مساعدة المواطنين فلماذا تمنح حقا من نوع منع المواطنين من السفر . دعنا نتصور خطورة المسألة لو ان كل منشأة تجارية اخرى حصلت على حق مشابه ، حينئذ فان البقال الذي يجاور بيتك يستطيع منعك من السفر لانك تأخرت في سداد قيمة مشترياتك ، والبنك سيمنعك من السفر حتى تسدد فاتورة البطاقة الائتمانية ، وشركة الكهرباء لان الشيك لم يصلها في الموعد المقرر ، وصديقك الذي تدين له بعشرين ريالا لانه نسي انك دفعت حقه ، وصاحب التكسي لانه صادف يوما انك ركبت السيارة ولم يكن معك فكة ، وشركة الخطوط لانك حجزت مقعدا ولم تشتر التذكرة ، وو.. الخ . وقبل زمن كانت شرطة المرور تستطيع منعك من السفر اذا لم تسدد مخالفات السير ، ولا ادري ان كان الامر جاريا حتى الان ام لا .

المبالغة في ايقاع عقوبة المنع من السفر على المواطنين لاي سبب ، معقولا او غير معقول له كلفة سياسية كبيرة تتمثل في تعميق شعور الناس بالحصار. اي ان تكون حركة المواطن وعمله وسفره ومعيشته، كلها محكومة بارادة اخرين يتمتعون بقدرة مطلقة وفورية على اعاقته في اي وقت .

من ابرز سمات الدولة الحديثة هو التمييز الحاسم بين الدولة (التي تمثل جميع الناس) والمنشآت التجارية التي تمثل مصالح اصحابها فقط . بموجب هذا التمييز فان القطاع التجاري يمنع بصورة كاملة من الاستفادة من قوى الدولة او صلاحياتها القانونية لتحقيق اغراض تجارية خاصة ، ومن بينها منع التجار من ايقاع اي نوع من العقوبة على المواطنين . ولهذا مثلا فان الدول المتقدمة تمنع على الشركات التي تستفيد من ميزات ترجيحية (من نوع احتكار صناعة الاتصالات الذي تتمتع به شركة الهاتف) من قطع الخدمة الا بعد اخطار قانوني متكرر وتمكين المواطن من الرد والاعتراض امام جهة محايدة .

ما يهم التاجر هو الربح اولا واخيرا ، اما الدولة فينبغي ان تهتم بتحرير المواطن من الضغوط المختلفة ، المعيشية و الاجتماعية وغيرها . المنع من السفر هو حرمان للمواطن من حق طبيعي واصلي يتمتع به بموجب المواطنة وهو عقوبة كبيرة جدا تقارب عقوبة السجن . وطبقا للنظام الاساسي ومواثيق حقوق الانسان التي وقعتها المملكة في اطار الامم المتحدة ، فانه لا يجوز حرمان المواطن من حقوقه الطبيعية الا بموجب قرار من محكمة صالحة وضمن اجراءات التقاضي المعمول بها في البلاد.

في اعتقادي ان منع المواطن من السفر بناء على طلب شركة الاتصالات او المرور او اي منشأة اخرى من دون حكم قضائي متكامل الاركان ، هو مخالفة صريحة للنظام الاساسي الذي هو مرجع القوانين جميعا ، كما انه يزيد في الشعور بالمظلومية والحصار عند المواطنين . وفي مثل الظروف الحالية فاننا بحاجة الى اشاعة الرضى بين المواطنين وليس القهر . اذا ارادت شركة الاتصالات ان تحصل على حقوقها فلتقم دعوى قضائية على من تشاء ، لا ان تخرق الحقوق الثابتة للمواطن.

الدولة هي الجهة الوحيدة التي لها الحق في ايقاع العقوبات وهذا الحق مقيد – بموجب النظام الاساسي- بقرار المحكمة وتوفر ضمانات قضائية متساوية لجميع الاطراف . لهذا فينبغي عدم التوسع في استعمال القرارات الادارية ، سيما تلك التي تنطوي على خرق للحقوق الاساسية للمواطن بالنظر لما تؤدي اليه من تعقيدات في العلاقة بين المواطن والدولة ، وهو مالا يريده اي عاقل لا سيما في مثل الظروف الحالية.

 ( السبت - 13/11/1425هـ ) الموافق  25 / ديسمبر/ 2004  - العدد  1287

18/12/2004

حذام العصر وسياساتها


 كافة الاحزاب التي قررت المشاركة في الانتخابات العراقية ، مثل تلك التي قاطعتها ، تدعي ان لديها برنامجا لاعادة بناء النظام السياسي العراقي الجديد، الا انه يستحيل تقريبا اختبار مصداقية اي من هذه البرامج . كما ان اغلبية الناخبين المفترضين لن يكونوا قادرين على المقارنة بين الطروحات المختلفة والتصويت على اساسها . ولهذا فان تلك البرامج هي اقرب الى الشعارات او الآمال منها الى خطط العمل . في ظني ان الاغلبية الحاسمة من الناخبين سوف تصوت لقائمة معينة بناء على المعرفة الشخصية لواحد او عدد من المرشحين في تلك القائمة ، او بناء على الانطباعات الشخصية عن تلك الاسماء ومن يدعمهم .
في ظل التركيز على الاشخاص او الاسماء ، فانه لا يضير المرشحين ان يعرضوا شعارات متشابهة ، الامر الذي يثير سؤالا مشروعا : اذا كانوا متفقين على كل هذه الامور فما الذي يتنافسون عليه اذن؟. 

اختصار السياسة في الاشخاص هي مشكلة مزمنة في العالم العربي ، وهي ترجع اساسا الى طبيعة العلائق الاجتماعية في المجتمعات التقليدية ، حيث ترتبط الثفة بالتعارف الشخصي او الكاريزما الحقيقية او المصطنعة للافراد الذين يسعون للسلطة سواء على المستوى الاجتماعي او السياسي. الناس في المجتمعات التقليدية لا يهتمون كثيرا بالتحقق من صدقية ما يعد به الشخص ، ولا يحاسبونه فيما بعد على النجاح او الفشل في تحقيق وعوده . ولهذا فانه يسهل دائما تقديم اعظم الوعود حتى لو كانت مستحيلة موضوعيا او عمليا.

تعاني الحركة الدينية من هذه المشكلة بدرجة اكبر من غيرها لاسباب كثيرة ، ابرزها ان فكرة الثقة بالشخص تتحول تدريجيا الى نوع من التسليم لذلك الشخص. نجد ان مقلدي العلماء واتباع القادة الدينيين  ينظرون الى الفقيه او القائد كتجسيد للحق . وفي هذه الحالة فان مقولاته وارائه العلمية تكتسي نوعا من العصمة ولا تقارن باي راي آخر . واذا انتقدها احد فان هذا النقد يفسر فورا على انه اعلان للعداوة او ضلال عن الحق اوانحراف عن الطريق ، الزعيم هو حذام العصر"اذا قالت حذام فصدقوها فان القول ما قالت حذام" .

الحركة الدينية تحتاج بدرجة اكبر من غيرها الى معالجة هذه المشكلة لانها لا تستند الى تجربة في العمل السياسي واضحة المعالم وقادرة على اقناع الاخرين . بعض تجارب الحركات الاسلامية المعاصرة في السلطة مخيبة للامال ، والاخرى مستثناة من جانب الاسلاميين العرب ، لاسباب طائفية او لارتباطها بجدل التقليد/الحداثة . في ظني ان عجز النخبة السياسية العربية – وبينها الاسلامية – عن ابتكار برامج للتحديث منسجمة مع شبكة العلاقات الثقافية الخاصة للمجتمع العربية ، ومتناغمة في الوقت ذاته مع متطلبات المدنية المعاصرة ، هو احد الدواعي المهمة لتركيزها على الاشخاص . كما ان غياب النقاش الحر حول برامج العمل يجعل الجميع مضطرا الى التعويل على الاشخاص .

التركيز على الشخص هو مشكلة للمجتمع والدولة معا ، وهو احد الاسباب التي تحول التنمية الاجتماعية والسياسية من مسار متواصل ومتصاعد الى مراحل متقطعة . ذلك ان التعويل على الشخص بدل المشروع او البرنامج يجعل وجوده على راس المجتمع قدرا لا مفر منه . نحن نعرف ان لكل شخص طاقة معينة ، فكرية او عملية ، ترتبط فائدتها وفاعليتها بمرحلة زمنية خاصة. فاذا تجاوز المجتمع تلك المرحلة ، فان زمام الامور ينبغي ان يتحول الى رجال اخرين اوضح انتماءا للمرحلة الجديدة واقدر على فهم متطلباتها "لكل زمان دولة ورجال" . 

حينما يجري التركيز على الشخص ، ايا كان السبب ، فان ذلك الحراك التنموي الطبيعي سوف يتوقف ، وينكمش معه الحراك الاجتماعي او يتحول الى نوع من التصادم بين القيم والاعراف الموروثة من جهة ومتطلبات التحديث المتواصل من جهة اخرى . في هذه المرحلة فان عدم التغيير سيؤدي بالضرورة الى استهلاك متعاظم للقيم الروحية والاخلاقية لصالح الشخص وتحويلها من آليات نظم للحركة الاجتماعية تحظى بالاجماع الى مبررات لقهر الاجيال الجديدة بواسطة الحرس الاجتماعي القديم.

منتصف ديسمبر 2004 

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...