اشرت في مقال الاسبوع الماضي
الى اتفاق علماء الاسلام على تصنيف احكام الشريعة الى نوعين ، ثابت ومتغير. ويقال
عادة أن هذا من آيات يسر الشريعة ومواكبتها لمتغيرات الحياة. لكن ثمة مسائل بقيت
غامضة او محل اختلاف. ومنها معايير التمييز بين الحكم الثابت والمتغير ، والمعايير
الناظمة لتغيير الحكم ، وأخيرا المستوى القيمي للحكم البديل والمستبدل.
د. عبد الكريم سروش |
بعض اهل العلم حدد الثوابت بالعقائد
والعبادات والاحكام المنصوصة. وقال غيرهم ان الثوابت هي ما ثبت الاجماع عليه. وميز د. عبد الكريم سروش بين الذاتي والعرضي في الدين ، فاعتبر الأول ثابتا دون الثاني. وميز
آخر بين مقاصد الشريعة والوسائل الموصلة الى الغايات. فحصر الثوابت في المقاصد
والغايات لانها ضرورية لحياة البشر.
تعدد تعريفات الثابت والمتغير
يكشف عن حقيقة ان أصل الموضوع اجتهادي ، واننا لا نملك بعد معيارا واحدا قطعيا لما
نصنفه في هذا الجانب او ذاك. ولذا يسعنا القول ان المسألة مفتوحة للنقاش ، الآن
وفي المستقبل. وقد لا نتوصل أبدا الى معيار واحد ونهائي. لكننا ندرك الضرورة
العقلية للتمييز بين ما هو ضروري لبقاء اصل الدين وجوهره وقوامه ، وبين ما يتعلق
بحياة البشر ، التي قضى الله ان تكون شريعته وسيلة لنظمها وتيسيرها وارتقائها. هذا
ليس تعريفا للثابت والمتغير ، لكنه توجه عام يسمح لنا بالنقاش واتقاء الجمود او
التنازع.
-
هل
لهذا الجدل اي اهمية؟
نعم بالتأكيد. بيان ذلك ان
التحولات والحوادث التي شهدها العالم ، خلال العقد الجاري على وجه الخصوص ، كشفت
عن هوة واسعة تفصل بين "المشهور" من احكام الشريعة ، وبين عرف العقلاء
في هذا الزمان. يهمني التشديد هنا على المشهور من الاحكام ، التي ورثناها من أزمنة
سابقة ، او وضعت حديثا بالرجوع الى تصورات قديمة. كما يهمني التشديد على عرف
العقلاء في هذا العصر ، لأن غالب المشتغلين بالفقه لا يعتبره معيارا صالحا في وضع
الاحكام ، بل ان بعضهم ينكر كليا اي علاقة له بالتشريع.
نعلم بالضرورة ان كلا من العدل
واليسر معيار أساسي لسلامة الحكم الشرعي وملاءمة التشريع لطبائع البشر. وان
المعتبر في كليهما هو تعريف العقلاء لما يعتبر يسيرا وعادلا ، او العكس. كان بعض
اهل العلم قد قالوا ان المعتبر هو ما قرره الشارع من العدل واليسر ، وليس ما يقرره
الناس. لكن هذا الرأي لا يصمد في الامتحان ، لأن تطبيقات اليسر والعدل متفاوتة
ومتغيرة على نحو مفرط في الكثرة ، فلا يمكن ضبط موارده كلها ، ولا حتى اغلبها بنص
سابق. كما انها تختلف من مكان الى مكان. والصحيح انها متروكة لعرف العقلاء
ومستخلصات العلم في كل زمن.
المنظومة المعاصرة لحقوقالانسان ، مثال بارز على التفارق بين الاحكام المشهورة وبين عرف العقلاء. فهذه
المنظومة معيار للعدالة في نظر اكثرية سكان الارض ، مسلمين وغير مسلمين ، بحيث
يمكن اعتبارها من اجلى تجسيدات "عرف العقلاء". لكن المسلمين بالخصوص
يشعرون ازاءها بحرج شديد ، سببه تعارض بعض احكامها مع احكام مشهورة ، منصوصة او
اجتهادية قديمة. فما هو الحل السليم: هل ننكر هذا العرف العام ، ونتحمل استمرار
الهوة بين الشريعة وعصرها ، ام نضع شريعتنا على الرف ونقول انها عاجزة عن التعامل
مع الحياة الجديدة؟.
هذا هو جوهر المسألة ، وهو
الذي يثير مرة بعد مرة ، الحاجة الى اعادة النقاش في معنى الثابت والمتغير.
الشرق الاوسط الأربعاء - 13
شوال 1439 هـ - 27 يونيو 2018 مـ رقم العدد
[14456]
http://aawsat.com/node/1312721