27/06/2018

حول اشكالية الثابت والمتغير


اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى اتفاق علماء الاسلام على تصنيف احكام الشريعة الى نوعين ، ثابت ومتغير. ويقال عادة أن هذا من آيات يسر الشريعة ومواكبتها لمتغيرات الحياة. لكن ثمة مسائل بقيت غامضة او محل اختلاف. ومنها معايير التمييز بين الحكم الثابت والمتغير ، والمعايير الناظمة لتغيير الحكم ، وأخيرا المستوى القيمي للحكم البديل والمستبدل.
د. عبد الكريم سروش
بعض اهل العلم حدد الثوابت بالعقائد والعبادات والاحكام المنصوصة. وقال غيرهم ان الثوابت هي ما ثبت الاجماع عليه. وميز د. عبد الكريم سروش بين الذاتي والعرضي في الدين ، فاعتبر الأول ثابتا دون الثاني. وميز آخر بين مقاصد الشريعة والوسائل الموصلة الى الغايات. فحصر الثوابت في المقاصد والغايات لانها ضرورية لحياة البشر.
تعدد تعريفات الثابت والمتغير يكشف عن حقيقة ان أصل الموضوع اجتهادي ، واننا لا نملك بعد معيارا واحدا قطعيا لما نصنفه في هذا الجانب او ذاك. ولذا يسعنا القول ان المسألة مفتوحة للنقاش ، الآن وفي المستقبل. وقد لا نتوصل أبدا الى معيار واحد ونهائي. لكننا ندرك الضرورة العقلية للتمييز بين ما هو ضروري لبقاء اصل الدين وجوهره وقوامه ، وبين ما يتعلق بحياة البشر ، التي قضى الله ان تكون شريعته وسيلة لنظمها وتيسيرها وارتقائها. هذا ليس تعريفا للثابت والمتغير ، لكنه توجه عام يسمح لنا بالنقاش واتقاء الجمود او التنازع.
-        هل لهذا الجدل اي اهمية؟
نعم بالتأكيد. بيان ذلك ان التحولات والحوادث التي شهدها العالم ، خلال العقد الجاري على وجه الخصوص ، كشفت عن هوة واسعة تفصل بين "المشهور" من احكام الشريعة ، وبين عرف العقلاء في هذا الزمان. يهمني التشديد هنا على المشهور من الاحكام ، التي ورثناها من أزمنة سابقة ، او وضعت حديثا بالرجوع الى تصورات قديمة. كما يهمني التشديد على عرف العقلاء في هذا العصر ، لأن غالب المشتغلين بالفقه لا يعتبره معيارا صالحا في وضع الاحكام ، بل ان بعضهم ينكر كليا اي علاقة له بالتشريع.
نعلم بالضرورة ان كلا من العدل واليسر معيار أساسي لسلامة الحكم الشرعي وملاءمة التشريع لطبائع البشر. وان المعتبر في كليهما هو تعريف العقلاء لما يعتبر يسيرا وعادلا ، او العكس. كان بعض اهل العلم قد قالوا ان المعتبر هو ما قرره الشارع من العدل واليسر ، وليس ما يقرره الناس. لكن هذا الرأي لا يصمد في الامتحان ، لأن تطبيقات اليسر والعدل متفاوتة ومتغيرة على نحو مفرط في الكثرة ، فلا يمكن ضبط موارده كلها ، ولا حتى اغلبها بنص سابق. كما انها تختلف من مكان الى مكان. والصحيح انها متروكة لعرف العقلاء ومستخلصات العلم في كل زمن.
المنظومة المعاصرة لحقوقالانسان ، مثال بارز على التفارق بين الاحكام المشهورة وبين عرف العقلاء. فهذه المنظومة معيار للعدالة في نظر اكثرية سكان الارض ، مسلمين وغير مسلمين ، بحيث يمكن اعتبارها من اجلى تجسيدات "عرف العقلاء". لكن المسلمين بالخصوص يشعرون ازاءها بحرج شديد ، سببه تعارض بعض احكامها مع احكام مشهورة ، منصوصة او اجتهادية قديمة. فما هو الحل السليم: هل ننكر هذا العرف العام ، ونتحمل استمرار الهوة بين الشريعة وعصرها ، ام نضع شريعتنا على الرف ونقول انها عاجزة عن التعامل مع الحياة الجديدة؟.
هذا هو جوهر المسألة ، وهو الذي يثير مرة بعد مرة ، الحاجة الى اعادة النقاش في معنى الثابت والمتغير.
الشرق الاوسط الأربعاء - 13 شوال 1439 هـ - 27 يونيو 2018 مـ رقم العدد [14456]
http://aawsat.com/node/1312721

20/06/2018

التشريع بين المحلي والكوني


في مقاله "الحيوية الفقهية والمستجدات الدنيوية" (الشرق الاوسط 14 يونيو2018) تعرض الاستاذ فهد الشقيران لمسألة طالما بقيت في هامش اهتمام المتحدثين في الفكر والفقه الاسلامي وتجديده ، اعني بها التمييز بين الاحكام ذات الطبيعة الكونية ، ونظيرتها التي تعالج قضايا محلية أو مؤقتة فحسب. وقد أجاد الكاتب في التنبيه لهذه المسألة الهامة.
توشيهيكو إيزوتسو
من حيث المبدأ يتفق علماء الاسلام على ان أحكام الشريعة نوعان: ما يتعلق بحادثة أو ظرف خاص ، فلا يسري على غيرها ، وما هو حكم عام في كل القضايا التي موضوعها واحد. ويتعلق بالموضوع ايضا مسألة الثوابت والمتغيرات. وفحواها ان بعض الاحكام ثابتة في كل زمان ومكان ، وبعضها متحول ، لان الظرف الزماني والمكاني جزء اساسي في تشكيل موضوع الحكم. وهذا ايضا من موارد الاتفاق قديما وحديثا.
تقترح هذه المقالة معنيين للمتغيرات ، يقوم أولها على التمييز بين المحلي والكوني ، وهو ما أشار اليه الاستاذ الشقيران.  ويقوم الثاني على التمييز بين المراحل المختلفة للحكم ، من حيث ارتباطه بتطور المجتمع. وهو يرتبط مع الاول من بعض الوجوه. لكني سأتركه لوقت آخر.
لا شك ان استيعاب المجتمع المتلقي للرسالة السماوية ، وقابليته لاعادة انتاجها على شكل دعوة لغير المؤمنين ، هو غرض مقصود بذاته. لو لم يستوعب عرب الجزيرة معنى ومقاصد الرسالة ، لما تحولت من تيار صغير الى كيان قوي ومن ثم امة كبيرة ، خلال فترة قصيرة نسبيا. نعلم ان سرعة الاستيعاب والتفاعل ، كان ثمرة لنزول الخطاب بلغة مألوفة ، ومخاطبته للعقول والعواطف بصورة متوائمة. وأحيل من اراد التعمق في هذه المسألة الى كتاب المستعرب الياباني توشيهيكو إيزوتسو "الله والانسان في القرآن" الذي ركز على الجوانب الدلالية للغة القرآن ، وكيفية ربطه بين السائد والمحلي ، وبين الرسالة الداخلية للنص. هذه اللغة - الشفافة حسب وصف ايزوتسو - مكنت العربي القديم من النفاذ الى مقاصد الخطاب ، عبر مفاهيم سائدة ومألوفة.
الاحكام التي ذكرت في القرآن والسنة ، التي تنظم العلاقة بين الناس وسلوكياتهم ، ليست استثناء من هذه القاعدة. وأشير هنا الى رأي الفقيه الهندي شاه ولي الله الدهلوي (1703-1762م) في كتابه "حجة الله البالغة" وفحواه ان العديد من الاحكام الشرعية ، بما فيها بعض العقوبات ، ليست من انشاء الشريعة ، فقد كانت معروفة سابقا ، فتبناها الاسلام بعدما ادخل عليها تعديلات.
بعبارة اخرى فقد عمد الشارع الى ما تعرفه المجتمعات المحلية ، وما تعارفت عليه – يومئذ - كنظام معقول وعادل ، فتبناه بذاته او بعد تعديله. ولو جاء بمنظومة احكام جديدة تماما ، فلربما وجدها الناس غريبة او متعارضة مع طبائعهم ونمط حياتهم ، ولربما انكرتها انفسهم.
يميز هذا التحليل بين الحامل (اللغة القومية والعرف المحلي) والمحمول (الدين/الشريعة). يمكن للدين وشريعته ان يخاطب اقواما ومجتمعات مختلفة في ثقافتها وتجربتها التاريخية وهمومها. يمكن ان نضرب مثالا بمجتمع اوربا او اليابان او افريقيا. لكنه حينئذ سيحتاج لطريقة خطاب مختلفة ، في اللغة والمفاهيم الحاملة للفكرة وكذلك منظومات الاحكام.
زبدة القول ان الدين جزءان: اولهما الحقائق الكبرى وهي جوهره ، والوسيط بين كل انسان وبين الخالق سبحانه ، وثانيهما القوانين الناظمة للحياة الاجتماعية ، وما فيها من تعاملات وعلائق. الأول كوني وهو الثابت ، اما الثاني فمتغير بحسب طبائع المجتمعات وهمومها وتاريخها الثقافي.
الشرق الاوسط الأربعاء - 6 شوال 1439 هـ - 20 يونيو 2018 مـ رقم العدد [14449]

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...