من حيث المبدأ ، تتألف الفكرة الدينية من قيم ومعايير مجردة ، متعالية على الواقع. لكن الدين لا يريد البقاء فكرة مجردة ، بل يدعو لتطبيق قيمه في واقع الحياة. دين الله نور يشق ظلمات الحياة. ولا قيمة للنور ما لم يكن ثمة مستنير ، انسان يبحث عن طريق وسط الظلام. لهذا السبب اهتمت الاديان بانشاء منظومة تفسيرات وأحكام تنظم الحياة اليومية وما تشهده من وقائع. ونظرا لاتصالها المباشر بوقائع الحياة ، فهي تشبه ما نسميه اليوم "لوائح تنفيذية" تحدد ما ينبغي للمكلف ان يفعل او يترك.
ربط القيم مع الوقائع يؤدي – بالضرورة – الى تغيير صورتها التي
عرفتها يوم كانت فكرة مجردة. ويبدا هذا الربط بالاحكام المتصلة مباشرة بالسلوكيات
الفردية ونواظم العلاقة بين الافراد. ثم يتمدد تدريجيا ، ليشمل المثاليات
والمجردات ، فيمسي كل شيء في الدين متجسدا في صورة مادية او شبه مادية ، على شكل
تطبيق لحكم او تفسير لقيمة او توليد لمعنى محدد ، عملي او نظري. وهكذا لا يعود
للقيم والمعايير النظرية اي وجود مستقل او متعال على الوقائع.
لتوضيح الفكرة السابقة ، نشير الى الجدل الدائم حول الفرق بين الدين والمعرفة الدينية ، او بين الدين
والتدين. ولا بد ان كلا منا قد قرأ او سمع يوما بالدعوى الرائجة ، التي ملخصها ان
الاسلام لا يتحمل وزر تخلف المسلمين او تقصيرهم. فهذا القول يشير –
ضمنيا – الى تقبل اصحابه ، واظنهم الشريحة الاوسع ، لفكرة وجود نسختين من الدين
مختلفتين: نسخة اصلية سابقة للتجربة الحياتية ، ونسخة تشكلت بعد اختلاط القيم الدينية
بمؤثرات الحياة الاجتماعية وأفهام الناس ، وهي لا تطابق – بالضرورة – مثاليات
الدين وصورته المتعالية.
نعلم من تجربة البشر ، ان فهمهم للاشياء يتغير باستمرار ، نتيجة
لتطور معارفهم الشخصية او امتدادا لتغير الوسط الاجتماعي. ويترتب على هذا تغير
رؤيتهم لقيمة تلك الاحكام ، والمعاني التي تولدها ، وموقعها في خريطة
حياتهم.
زبدة القول ، ان تطبيق الفكرة الدينية ، حكما كانت او قيمة او
تفسيرا ، يجري ضمن سيرورة تفاعلية ، بين الفكرة والفاعل وعناصر الواقع الذي يجري
فيه التطبيق. هذا التفاعل متعدد الاتجاهات بالضرورة. تطبيق الحكم يحدث تغييرا في
الواقع ، كما ان شروط الواقع والزاماته ، تحدد نطاق عمل الحكم ومفهومه ، وموقعه في
النسيج الثقافي للجماعة. ومثل هذا يقال أيضا عن فهم الفاعل/المكلف للفكرة ، فهو
يحدد معناها النهائي وطبيعة المعنى الذي تولده ، وبالتالي رتبتها المقارنة مع
القيم الموازية.
تبعا لهذا التحليل ، نستطيع القول ان الاحكام والقيم الدينية
التي نعرفها اليوم ، ليست هي ذاتها التي كانت قائمة في الازمان السابقة. فقد مرت بتحولات في الفهم والتطبيق ، شبيهة
للتحولات التي عاشتها الاجيال التي فهمتها وطبقتها ثم اورثتها لمن جاء بعدها.
معظم العاملين في الدراسات الدينية يعرفون هذا. ولهذا قرر بعضهم
اغفال الفاصل التاريخي ، والذهاب مباشرة إلى النص الحامل للقيمة او الحكم.
يعتقد كثير من الناس ان الحل موجود في منبع النهر. "العودة للكتاب والسنة" ستوفر فرصة افضل لفهم
الدين ، كما كان في الاصل عند المنبع.
لكن هذه المحاولة التي تبدو جذابة ، تواجه سؤالا جديا خلاصته:
هل يستطيع الباحث ان يغادر زمنه الثقافي فيتحرر من ادوات الفهم التي تشكل عقله ،
كي يقفز الى مرحلة سابقة لها ، فينظر فيها بعقل متجرد؟. هل هذا ممكن في الواقع ام
هو مجرد حلم؟.
الشرق
الاوسط الأربعاء - 8 شهر رمضان 1439 هـ - 23 مايو 2018 مـ رقم العدد [14421]https://aawsat.com/node/1277051
مقالات ذات علاقة
الاسلام في ساحة السياسة: متطلبات العرض والتطبيق
ما ينبغي للتيار الديني ان يخشاه