معظم الدوائر الحكومية
متقشفة وسيئة المظهر كما لو انها تنتمي الى دولة فقيرة. التبرير السريع الذي تسمعه
حين تسأل هو ان الدائرة الحكومية «موقع عمل» وليست دارا او استراحة كي تنفق
الحكومة على تجميلها. هذا التبرير غير منطقي لان بيئة العمل تمثل عاملا مؤثرا في
الارتقاء بمستوى العمل المنجز او العكس.
الموظف الذي يعمل في مكتب
مهلهل سوف يتعلم بالتدريج اللاابالية والاهمال واصطناع التبريرات، و سوف ينجز عملا
يحمل – على الارجح - نفس الصفات. والحقيقة اننا نواجه على الدوام هذا النوع من
الاعمال المنقوصة او المعيبة او البطيئة، ونقول في انفسنا:
لو كان القطاع الخاص هو
الذي ينفذها لكانت افضل واجمل واكمل. ولدينا اليوم امثلة واقعية تشير بوضوح الى ان
التقتير والتقشف لم يكن هو الخيار الافضل، ولعل مقارنة خدمة الهاتف السعودي قبل
التخصيص وبعد التخصيص هي اوضح الامثلة التي اختبرها كل مواطن وكل مسؤول. رغم
الارتفاع الهائل في نفقات شركة الهاتف بعد تخصيصها، الا انها تربح اكثر وتقدم خدمة
افضل وتوفر للحكومة اموالا اكثر مما كانت عليه فيما مضى، اي يوم كانت تتبع سياسة
التقشف السائدة في الدوائر الحكومية.
التقتير سوف يصيب في المرحلة الاولى بيئة العمل. وفي المرحلة الثانية سيصيب الالتزامات اللاحقة، ولا سيما غير
الظاهرة للعيان منها. وفي المرحلة الثالثة سيؤدي التقتير الى وقف او تأخير عمليات
التطوير والتحديث وتحسين الكيفية. الامثلة على كل من هذه المراحل واضحة للجميع.
المستشفى والمدرسة هي اوضح مثال. فالاغلبية الساحقة من مبانينا المدرسية تفتقر الى
اي لمسة فنية او جمالية، انها اشبه بمكعبات من الحجر الترابي اللون القيت خطأ على
ناصية الشارع، لا تتناسب شكلا او لونا او تصميما مع البيئة المحيطة ولا تشعر
العاملين فيها بالراحة.
داخلها مثل خارجها يشعر
بالكآبة احيانا وبالصرامة احيانا اخرى. بينما نحتاج الى بيئة مدرسية تماثل البيئة
الطبيعية التي يعيش فيها الطالب، مثل البيت والحديقة والملعب، كي يشعر بالالفة
والتناغم وعدم الانفصال عن عالمه الحقيقي حين يعبر بوابة المدرسة. نفس الصورة
تجدها في دوائر الحكومة الاخرى. الجدران والابواب تقادم لونها، والاثاث مهلهل،
والبناء بشكل عام يعطي انطباعا بأن احدا لا يهتم به.
اوضح الامثلة على الالتزامات
اللاحقة التي تتأثر سلبيا بالتقتير، نجده في الشوارع. يتسلم المقاولون الشارع كي
ينفذوا خطوط الكهرباء اوالهاتف او المجاري، ثم يعيدونه الى البلدية محطما مليئا
بالحفر والمرتفعات والمنخفضات. تسأل اهل البلدية عن السبب وراء هذا فيقولون انه لا
يوجد قسم لمراقبة الجودة. والسبب دائما هو عدم توفر ميزانية لتوظيف مهندسين
متخصصين في هذا الجانب كي يحاسبوا المقاول ويتأكدوا من وفائه بالشروط المثبتة في
العقد. نفس هذه الشوارع لا تحصل على اي صيانة دورية. تنفذ البلدية الشارع، ثم
تتركه عشر سنين او ربما عشرين من دون صيانة.
يقول اهل البلدية ان لديهم
برنامجا (على الورق) عن مواصفات كل طريق ودورات الصيانة اللازمة له، لكن ميزانية
الصيانة لا توضع سلفا كي تتحول الى فرض سنوي لازم مثلها مثل الرواتب والمشروعات
الجديدة. ولا يوجد اساسا قسم خاص لمراقبة الشوارع ومتابعة حاجاتها. ولعلنا البلد
الوحيد الذي لا يجري فيه تجديد خطوط الطريق وعلامات المرور والارصفة بصورة دورية
كما في كل بلدان العالم الاخرى.
وحين تاتي الى التحديث
والتطوير تجد الامر نفسه. وقصة توفير انظمة الكمبيوتر لكل الدوائر الحكومية هي
ابرز الامثلة على هذا. فالكثير من دوائر الدولة اشترى انظمة قديمة لانها ارخص، لكن
الانكى من ذلك ان الجميع متفق على عدم تحديث الاجهزة والبرامج، مع ان دورة التقادم
في انظمة الكمبيوتر لا تزيد عن اربع سنوات. كثير من الدوائر الحكومية يشكو من قلة
او انعدام الميزانيات المخصصة للتحديث ولهذا فهي تعمل على انظمة انتهت صلاحيتها
ولم تعد متوافقة مع اي منتج في السوق.
في هذه الايام يتحدث كثير من
المسؤولين عن الحاجة الى مبان ذكية. المباني الذكية يمكن ان توفر الكثير من
النفقات غير الضرورية. لكنها لا تفعل ذلك لمجرد اطلاق اسم «المبنى الذكي» عليها.
انها تحتاج الى انظمة حديثة وفعالة. وهذا يحتاج الى اموال اضافية في البداية
ويحتاج الى صيانة وتحديث مستمر، اي اموال اخرى.
زبدة القول ان الارتقاء
بمستوى الخدمات الحكومية يحتاج الى تفكير منفتح، يتضمن بصورة خاصة اعادة النظر في
مفاهيم كثيرة سائدة، ومن بينها خصوصا الميل الى التقتير والاقتصاد غير المبرر في
النفقات.
وقد اشرنا في مقال الاسبوع
الماضى الى بعض النواحي القانونية والادارية، وعرضنا هنا وهناك امثلة على كل جانب.
ويبقى الجانب الاكثر اهمية في هذا الموضوع، وهو معالجة الفهم السائد للعمل الحكومي
عند بعض الموظفين الذي يميل الى اعتباره نوعا من ممارسة السلطة، واستبداله بمفهوم
«الخدمة العامة»، ولهذا حديث آخر ربما نعود اليه لاحقا.
« صحيفة عكاظ » - 5 / 9 /
2007م