23/10/2004

التامين الاجتماعي الشامل



لا بد ان كل مواطن قد خصص بعض ماله او تفكيره خلال هذا الشهر الكريم لضعفاء الخلق الذين ضاقت بهم الحال وقصرت ايديهم عن النوال. شهر رمضان فرصة تمينة يرغب الناس خلالها في مد يد العون الى الغير. الاساس في فكرة التكافل الاجتماعي ان لكل انسان حق على مجتمعه مثلما لمجتمعه حقوق عليه. وتتجلى هذه الحقوق المتقابلة في وقت حاجة كل طرف الى الاخر. المجتمع يحتاج الى الفرد مثلما يحتاج هذا الى ذاك.

يمكن تصور فكرة التكافل الاجتماعي على ثلاثة مستويات : فردي يتجلى في العون المباشر من شخص الى شخص ، ومؤسسي يتمثل في الجمعيات الخيرية العامة او المتخصصة ، ثم المستوى الوطني الذي يتمثل في الضمان الاجتماعي الشامل. في الوقت الحاضر يتوفر الضمان الاجتماعي لموظفي الحكومة والشركات الكبرى على شكل حقوق مالية تدفع عند يلوغ الموظف سن التقاعد. هناك فرصة لغير الموظفين ايضا للحصول على معونات ضمن نفس الاطار عند بلوغهم سن العجز عن العمل . لكن يبدو ان عددا ليس بالقليل من المواطنين لا يتمتع بهذه الفرصة ولا تلك لسبب او لآخر. والفكرة التي اود طرحها هنا هي دعوة الى تطوير نظام للتامين الاجتماعي الشامل تشمل ضمان راتب تقاعدي لكل مواطن يصل سن التقاعد وعونا محددا في حال البطالة او العجز عن العمل او انخفاض دخله الشخصي عن مستوى معين . واظن ان الانتعاش الاقتصادي الحالي يمثل فرصة مناسبة لدراسة مشروع من هذا النوع من جانب مجلس الشورى او الهيئات الحكومية المختصة .

قبل اشهر قليلة رفض وزير العمل فكرة تقديم مساعدة مالية للعاطلين عن العمل بدعوى ان تجربة الدول التي لديها مثل هذا النظام غير مشجعة . ولم نسمع بمثل هذا التبرير ، لكنه مقبول بالنظر الىاختلاف الحالة عندنا . فالدول التي تقدم مساعدة للعاطلين تفرض على كل مواطن عامل مشاركة الزامية في النظام الوطني للتامين الاجتماعي وبالتالي فان ما يحصل عليه هو حق مكتسب دفع في مقابله ، او هو ملتزم بدفعه عند حصوله على عمل . ومثل ذلك يقال عن الضمان التقاعدي. لكن من ناحية اخرى فان ترك المسالة دون اي تنظيم بديل سوف يؤدي الى تثبيت نسبة الفقر وجعلها مستحيلة العلاج ، خاصة وان التشغيل الكامل لكافة المواطنين في سن العمل مستحيل او غير مرغوب . ان نسبة معينة من البطالة تعتبر ضرورية لتثبيت معدلات التضخم ، وهذا امر معروف بين الاقتصاديين .
على اي حال فان موضوع الضمان الشامل لا يقتصر على شريحة العاطلين عن العمل ، بل ان الجانب الابرز منه يتوجه الى الشريحة الواسعة من المواطنين الذين يصنفون كعاملين مستقلين وتضم هذه الشريحة معظم الحرفيين الذين يملكون اعمالهم وجميع المزارعين اضافة الى الاغلبية الساحقة من النساء غير المتزوجات من موظفين .

لا تقوم هذه الفكرة على تحميل ميزانية الدولة عبئا اضافيا ، وواضح ايضا ان اضافة موارد انفاق جديدة واسعة النطاق ربما يستتبع اثارا سلبية على الاقتصاد الوطني . تتكون الفكرة من جانبين متلازمين : وضع نظام للتامين الاجتماعي الالزامي ، بحيث يتوجب على كل فرد في سن العمل – مواطنا او مقيما – ان يدفع جزء معينا من دخله الشهري كمشاركة في الضمان مثلما يفعل موظفو الدولة ، وفي المقابل يحق له الاستفادة من المزايا التي يوفرها النظام . لجعل هذا النظام ممكنا فاننا بحاجة الى اطلاق حملة ارشاد واسعة ومحددة الاهداف غرضها توعية الجمهور بضرورة هذا النظام وفوائده ، ثم البدء بتطبيقه بصورة تدريجية . سيحتاج الامر بطبيعة الحال الى دراسة كافية لمعدلات الاقتطاع الشهري المناسبة خاصة من اصحاب الحرف المتغيرة الدخل كالمزارعين وبعض فئات العمال ، كما يحتاج الى ربط مستوى الاقتطاع  والراتب التقاعدي بمعدل التضخم السنوي بحيث يكون العائد مجزيا ومقنعا للمشاركين.

صحيح ان اطارات المساعدة الحالية تعالج قدرا معقولا من الحاجات ، لكننا نحتاج الى جعل الامر روتينيا وقائما على قاعدة ان الضمان الاجتماعي هو حق مكتسب لكل مواطن ، يحصل عليه بصورة اتوماتيكية مقابل مشاركته المسبقة . التامين الالزامي يمثل من ناحية اخرى وسيلة هامة لتوفير راس المال على المستوى الوطني ، وهو يعتبر في دول كثيرة احد المداخل الرئيسية للاستثمار ، وتجربة صندوق التقاعد عندنا هي مثال على هذه الفائدة ، فهذا الصندوق يعتبر اليوم احد اعمدة الاستثمار في البلاد . الاستثمار المتجدد يعني تحفيز النمو وتحسين مستوى المعيشة.  لو نجحنا في توسيع تجربة صندوق التقاعد من الحدود الحالية التي تقتصر على موظفي الدولة والشركات الكبرى الى كافة المواطنين في سن العمل ، فمن المرجح ان قدرته على الاستثمار ، وبالتالي مساهمته في معالجة الفقر وتوفير فرص العمل ستكون اكبر بعدة اضعاف.

رمضان اذن فرصة للتفكير في التكافل بين جميع المواطنين ، واظن ان خير صور التكافل هي تلك التي توفر للجميع حلولا اقتصادية وطويلة الامد.
  (السبت - 9/9/1425هـ ) الموافق  23 / اكتوبر/ 2004  - العدد   1224
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/10/23/Section_6.xml

16/10/2004

افكار للاستعمال الخارجي فقط


شدد وزير التربية والتعليم على ضرورة اتباع معايير الكفاءة في انتخاب مسؤولي القطاعات التعليمية بدلا من التعيين وفق القرب القبلي او العائلي او الطائفي او الميول والمصالح الشخصية . وقد اختار الوزير المنطقة الشرقية لاطلاق هذه التصريحات وهو اختيار لا تخفى دلالاته ومعانيه. مسألة المساواة في الفرص والمساواة امام القانون هي – ربما – اهم القواعد التي تقوم عليها الدولة الحديثة ، ولا يمكن لاي مجتمع ان ينهض الا اذا استثمر جميع ما فيه من قوى مادية وفكرية واجتماعية . مثل هذه النهضة لا تتحقق ولا تكتمل الا اذا كان الجميع سواسية في المغانم والمغارم .


ولا يختلف اثنان على ضرورة المساواة بين المواطنين من الناحية المبدئية . ما دامت الفكرة محصورة في الاطار النظري والمثالي فالكل معها والكل يدعو اليها . لكن مشكلة الافكار الجميلة جميعا هي انها محدودة الاستعمال ، مثل بعض الادوية التي يكتب على غلافها تحذير : للاستعمال الخارجي فقط ، او للاستعمال بواسطة الراشدين فقط . يجب ان نقول لمعالي الوزير ولكل دعاة المساواة بين بني الانسان: ان فورمول ( للاستعمال الخارجي فقط) لم يعد ينفع ، لان مشكلة التمييز لم تعد عرضا ثانويا يمكن تسكينه باسبرين الكلام عن المثاليات ومكارم الاخلاق بل علة متاصلة ومتكررة . المساواة في الفرص حق طبيعي ثابت واصلي لكل مواطن بمقتضى الشراكة في تراب الوطن ، وهي حق قانوني مكتسب لكل مواطن بمقتضى النظام الاساسي. مقولات النظام الاساسي هي التزام على عاتق كل مسؤول وصاحب منصب ، ليس القبول بها فحسب بل تطبيقها في الواقع ، كلا ضمن دائرة عمله .

الكل يتحدث عن الكفاءة واعتبارها مقياسا اعلى للتفاضل في الفرص الوظيفية ، والكل يمتدح المساواة بين الناس باعتبارها من اعظم تمثلات العدالة الاجتماعية التي اقرها الاسلام . لكننا مع ذلك ما زلنا نشكو من ان هذه القيمة الجميلة مازالت محدودة في (الاستعمال الخارجي فقط).

رغم ان تراثنا يدعو الى المساواة بين الناس (كلكم لآدم وآدم من تراب) الا ان سيطرة الفكر المذهبي والطائفي بتفرعاته الكلامية والفقهية على هذا التراث ، جعلنا – عن وعي احيانا وعن غفلة في معظم الاحيان – نتحدث عن المساواة كفرضية ثم ننقضها في الاستنتاج والممارسة. بكلمة اخرى: نحن نتعامل مع قيمة المساواة كقيمة اخلاقية مجردة لكننا نقيدها بعشرات من القيود حتى تنتفي تماما . وبهذه الممارسة فاننا نريح انفسنا من حرج التنكر للقيمة الاخلاقية البديهية ، دون ان  نتحمل عبء تبنيها فكريا او تطبيقها عمليا .
هذا التفارق بين المناداة بالمثاليات المجردة على مستوى الكلام والكتابة من جهة ، وتفكيكها او صرفها الى نقيضها من جهة اخرى ، هو مظهر آخر لعلة عميقة الجذور في ثقافتنا ، هذه العلة هي التعامل مع القيم العليا كجدليات تفيد في المناكفة والمساجلة مع الخصوم ، وليس كاشارات تدلنا على طريق العمل او معايير لتقييم سلوكياتنا الحياتية . اننا نجادل الغربيين باننا لا نحتاج الى مواثيق حقوق الانسان التي يدعوننا للالتزام بها ، لانها موجودة بالتمام والكمال في تراثنا . ترى الم نسأل انفسنا : اذا كان هذا حقا فلماذا اذن لا نجدها مطبقة في حياتنا العامة ؟.

من الواضح ان المساواة بين الناس ليست من القيم النشطة في واقعنا الحياتي ، و هذا راجع الى انها ليست مكينة وراسخة في ثقافتنا (خارج حدود المثالية المجردة) . بل ان تراثنا يحفل بما هو نقيض لقيمة المساواة  على المستوى التطبيقي . وقد ذهب الكثير من قدامى المفكرين ، من المسلمين وغيرهم ، في الشرق والغرب ، الى ان امر المجتمع لا يستقيم الا بانقسامه ، بل ودافع بعضهم عن الحدود التي تفصل الطبقات والشرائح الاجتماعية حتى البسها ثوب القداسة . وفي عصور امارات الطوائف ، حوالي القرن الثامن الهجري ، ذهب بعض المفكرين المسلمين الى تحريم زواج الاعجمي من عربية لانها اعلى مرتبة ، والزواج يقتضي جعل الزوج اعلى من زوجته في النظام الاجتماعي . ولا زلنا في العصور الحاضرة نسمع من يحرم التزاوج بين اصحاب المذاهب الاسلامية لنفس المبرر او قريبا منه .
اذا اراد معالي الوزير ان يحقق فكرة المساواة في وزارته ، وان يجعل الكفاءة معيارا اعلى للتفاضل بين موظفيه وادارييه ، فان الخطوة التالية بعد المناداة بالفكرة تتمثل في وضع قانون يحدد كيفية تطبيق الفكرة ، ويعين جهة ادارية محددة يمكن الشكوى اليها في حال جرى العبث بالقانون او مخالفته. ثمة شكاوى كثيرة حول هذا الموضوع تترامى الى الاسماع من هنا او هناك ، وحري بمعاليه ان ينظر اليها باهتمام خاص، ليس كحلقات منفصلة بل كاعراض لعلة قد لا تكون واضحة امام الاعين  ، وان كانت نشطة من وراء الستار. الاصلاح يبدأ بكلمة ، لكنه لا يكتمل الا بالفعل .

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...