كتب في يناير 2016 ونشر
في كتاب "الصراع المذهبيّ: فصول في المفهوم والتاريخ" الصادر عن جامعة
الكوفة ، اليونسكو – منشورات دار الرافدين – يونيو 2018
خلال النصف الثاني من عام 2006 كنت تسمع أو تقرأ في كل يوم تقريبا عن نهاية "العراق" كدولة. الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وسياسيون آخرون ، قالوا لصحف أجنبية أن هذا البلد على حافة حرب أهلية لن يخرج منها مثلما دخلها[1]. نعلم ان هذا لم يحدث. لكن الانقسام الشديد في هذا البلد ، أعاد تسليط الضوء على التقصير المريع في بناء وتعزيز الوحدة الوطنية ، التي كانت ستخفف الانعكاسات الكارثية للانقسام الطائفي الذي يعانيه اليوم.
لم يكن ثمة مناص من القبول بالعرف
الدستوري الذي – منذ 2003- قضى بقسمة الدولة بين الطوائف الرئيسية الثلاث ، الشيعة
والسنة والكرد. لكن هذا الحل المرحلي الذي بدا ضروريا لاعادة بناء الثقة ، قد
يتحول الى عرف فوق الدستور ، وحينها سيتطور الانقسام من حالة مؤقتة الى وضع دائم.
يمكن تحديد أسباب عديدة وراء المشكلة
التي أدت الى هذا الانقسام. ومن المهم ان نبحث في كل منها على حدة ، كي نتعرف على
المعالجات الضرورية لاستعادة الوحدة الوطنية والسلم الأهلي. سوف يركز هذا المقال
على مشكلة واحدة ، هي ضمور "الهوية الوطنية" التي كان يفترض ان تكون
جامعة ومتعالية على الهويات الفرعية. ويبدأ بتعريف موجز يشير لدور السياسات
الرسمية في خلق مبررات نهوض الهويات الفرعية ، وفي الختام يقدم مقترحات محددة
يراها الكاتب عناصر ضرورية في اي استراتيجية لاعادة بناء الوحدة الوطنية والهوية
الجامعة.
معنى ان تكون طائفيا:
لن يعترف أحد من السياسيين او عامة
الناس بأنه طائفي ، حتى لو كان منخرطا بالفعل في مشروع طائفي. هذا يرجع غالبا الى
المضمون القبيح ، الانقسامي على وجه التحديد ، للطائفية كمنهج او سلوك. مما يثير
السخرية ان تجد كثيرا من الناس يفخرون بانهم قوميون ، أو إسلاميون ، أو شيعة أو
سنة. وكل هذه الأوصاف تنطوي على مضمون انقسامي ، بمعنى انها تفترض تفضيلا للذات
على الغير. القومي العربي يرى قوميته – وتبعا شخصه – فوق بقية القوميات ،
والاسلامي يرى نفسه اقرب إلى الله من غيره ، كذلك يفعل السني والشيعي حين يقارن كل
منهم حملة هذه الصفة بتلك.
لكن هذه ليست مشكلة ، ما لم يترتب
عليها عمل مقصود ، يسهم بشكل مباشر او غير مباشر في التمييز ضد شركاء في الوطن ،
لهم – من حيث المبدأ – حقوق مماثلة لحقوقه. ان إيمان شخص بتمايزه على غيره ، لا
لسبب سوى انتمائه لشريحة اجتماعية محددة ، اي إيمانه بأن هذه الشريحة لها حق في
الاستئثار بموارد وخيرات مادية أو معنوية ، يفترض انها عامة ومشتركة بين الجميع ،
هو ما يلقي عليه صفة الطائفي. أما مجرد الفخر بأنك من سلالة صلاح الدين أو المختار
الثقفي ، فليس له أهمية في المجال العام.
بناء على هذا فاننا نصف شخصا ما بأنه طائفي ، اذا اصبحت هويته الدينية أو المذهبية مزاحمة لهويته الوطنية أو غالبة عليها. اذا عرف المصري نفسه كمسيحي أولا ثم مصري ، او عرف العراقي نفسه كشيعي أولا ثم عراقي ، او عرف السعودي نفسه كسني أولا ثم سعودي ، فهو طائفي. وصف الطائفية هنا يشير الى قرار واع من جانب الشخص ، بتغليب هوية فرعية على الهوية الوطنية ، التي يفترض ان تكون على الدوام فوق كل الهويات الأصغر ، اي هويات المجموعات الاجتماعية التي تشكل جزءا من الوطن ، سواء كانت أكثرية أو أقلية.
وعلى نفس النسق فان الحكومة
الطائفية هي الحكومة التي تعرف نفسها
كممثل لفريق من الشعب ، ولو كان أكثريته ، وليس للمجتمع الوطني كله. أما السياسة
الطائفية فهي أي عمل يستخدم راس المال المادي أو الرمزي المشترك بين أبناء الوطن
كله أو أبناء الأمة كلها ، لصالح فريق محدد ، على نحو يؤدي لحرمان بقية الفرقاء من
خير مشترك ، مادي أو معنوي.
التمييز بين الشخص والحكومة والسياسة
مهم في التحليل ، رغم انهم يحملون جميعا الهوية الطائفية. لأننا نتوقع ان ينفذ شخص
طائفي سياسات غير طائفية ، أو تنفذ حكومة غير طائفية سياسات طائفية. بحسب تعبير
برهان غليون فانه "لاعلاقة للطائفية بتعدد الطوائف او الديانات. فمن الممكن
تماما ان يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية او الاثنية ، من دون ان يؤدي ذلك الى
نشوء دولة طائفية ، او سيطرة الطائفية على الحياة السياسية ، وبالتالي لتقديم هذا
الولاء على الولاء للدولة والقانون".[2]
تكرار الاشارة الى عنصر التزاحم بين
الهويات الفرعية والهوية الوطنية في تعريفنا للطائفية ، يستهدف حصر الموضوع في
الجانب السياسي ، وكي نتلافى الخلط المحتمل بين فهمنا للطائفة والانتماء الطائفي ،
وبين التعريف المتداول في البحوث الاجتماعية الغربية ، حيث يطلق عنوان الطائفة (=sect) على المجموعات الصغيرة المنغلقة او
المنفصلة عن الاطار الاجتماعي العام.[3] في اعتقادي ان هذا الوصف لا ينطبق على "الطائفة" في المعنى الذي نعرفه في العالم العربي. التأكيد على
المضمون السياسي ضروري أيضا لتلافي سوء فهم شائع في العالم العربي (وأظنه مقصودا
في بعض الاحيان) يلقي وصف
"الطائفي" على اي حراك للأقليات الدينية ، ولو كان مجرد تعبير
بسيط عن الذات او الثقافة ، حتى لو لم يزاحم اي جماعة أخرى فضلا عن الهوية الوطنية
الجامعة.
إشكالية التعريف:
ارتباط الانتماء الطائفي بالانتماء
الديني ، اي كون الهوية الطائفية تعبيرا عن الانتماء الى مذهب او قراءة خاصة للدين
، يثير مشكلة حرجة في المعالجة السياسية لمسألة الهوية. ذلك ان الانتماء الديني
يعتبر – عند الناس – أمرا بديهيا وتمثيلا لقيمة عليا لا تقبل المقارنة.
خلال بحث سابق حول مسألة المواطنة ،
وجهت سؤالا واحدا لعينة عشوائية تضم بضع عشرات من الناس. طلبت منهم تعريف انفسهم
بحسب الترتيب الذي يرونه صحيحا: شيعي/سني ، سعودي ، عربي ، مسلم. كانت النتيجة ان
ثلاثة ارباعهم تقريبا عرفوا انفسهم كمسلمين أولا. وجاء الانتماء الوطني (السعودية)
في المرتبة الثانية عند أقل من نصف العينة. وجاء المذهب في المرتبة الثالثة عند
اكثر من النصف. واظن ان تقديم الدين على الوطن في التعريف ، يشير الى تطلع مثالي
مشوب بعاطفة او قلق ، وليس بالضرورة تفكيرا واعيا في الهوية. على أي حال فقد مر
الان نحو ست سنين على ذلك البحث. ولو أجريته اليوم ، فان الانتماء الى المذهب
سيتقدم الى المرتبة الثانية على الأرجح. ذلك ان وسائل الاعلام – التي تشكل مصدر
معلوماتنا الرئيسي في هذه الأيام – تركز بشكل غير مسبوق على الانتماء المذهبي أو
الرموز التي تشير إليه ، في تصوير سلبي أو ايجابي. وقد لاحظت في السنوات الثلاث
الاخيرة ، ان خطباء الجمعة في بلدنا يختمون خطبهم بالدعاء لنصرة "أهل السنة
والجماعة" على "اليهود والنصارى والروافض" بينما جرت عادتهم ، حتى
العام 2011 على الاقل ، على الدعاء بنصرة "الاسلام والمسلمين" على
"اليهود والنصارى والمشركين". ولاحظت أيضا ان الشيعة العراقيين اصبحوا
أقل اكتراثا بالحديث عن "الوحدة الاسلامية" واكثر اهتماما بالاشارة الى
الشيعة والتشيع و"اتباع أهل البيت" حين يتحدثون في الشأن العام. بعدما كانت
التعبيرات الدينية قليلة في الكلام العام ، واذا جرت فهي تشير غالبا الى وحدة
المسلمين ورفض الافتراق او التمايز على اساس مذهبي.
لماذ نعتبر هذا مشكلة ؟.
تفسير مارسيل غوشيه لنهوض الهويات
الدينية في العصر الحديث جدير بالتأمل. فهو يراه ثمرة لتعمق قيم الحداثة ، ولا
سيما الفردانية. وهذا يتعارض حديا مع رأي باحثين آخرين ، يرون فيها نوعا من النكوص
الى الماضي واحتماء به.[4] جادل غوشيه بان الفرد المتأثر بموجات الحداثة ، ما عاد يرى نفسه مجرد
صورة عن الجماعة التي ينتمي اليها ، بل كائنا مستقلا يختار صورته وهويته. تطور
التفكير في الذات على هذا النحو أدى الى انفصاله عن التدين الجمعي التقليدي ،
بمعنى انه تحول من التبعية المطلقة لتلك الصورة/الهوية الدينية ، الى امتلاك تدينه
الخاص/هويته. ونتيجة لهذا اصبحت الهوية الدينية فردانية ، أي اكثر تصلبا وتسلطا
مما كانت عليه يوم كان صاحبها تابعا لـ "دين الاباء". تحول الدين الى
خيار فردي ، جعل حامله مهموما بالعمل على فرض نفسه في العالم كحقيقة وحيدة وحصرية.[5] انها – في هذا المعنى – وسيلة لتحقيق الذات في عالم متصارع.
بصورة عامة تشكل التجربة الدينية ،
ثقافة وتراثا ومنظومة قيمية ، المكون الرئيس لذهنية الفرد المسلم. وبالنسبة للفرد
العربي فان المكون الديني للهوية ، يشكل نقطة توتر رئيسية في رؤيته للعالم. حين
تطلب من فرد مسلم المفاضلة بين صفته كمواطن في بلد ، وكونه مسلما ، فسوف يرجح
غالبا الوصف الديني ، نظرا لارتباط الدين بقيم رفيعة يود الانسان ان يتمثلها.
بينما لا تشير الهوية الوطنية لأكثر من علاقة قانونية أو سياسية بأرض أو جماعة.
نفترض من حيث المبدأ ان المفاضلة غير
صحيحة بين الهوية الدينية والوطنية. لأن كلا منهما يشير الى عالم مختلف في أغراضه
ودينامياته ومعاييره. لكن واقع الحال في العالم العربي ، سيما بسبب الفقر الشديد
في الثقافة السياسية ، والتوترات العديدة التي يرتبط بعضها بالدين ، جعل الدين
أسيرا لرؤية دفاعية في ذهن الانسان المسلم ، مصدرها شعور عميق بأننا نعيش صراعا
وجوديا مع العالم. وهو شعور متجدد تغذيه مؤسسات الثقافة العامة ، الدينية والرسمية
وغيرها. يرتبط هذا التوجيه بفشلنا في تطوير رؤية مناسبة لذاتنا وعلاقتنا مع
العالم.[6] لكن ايا كان السبب ، فان الناتج الموضوعي هو شعورنا المقيم بأننا هدف
دائم للغزو والهيمنة ، وأن ديننا هو موضوع
الصراع أو هدفه ، أو – في احسن الحالات – المتضرر منه.
ومن هنا فان رد الفعل الأولي على اي
تقييم للدين أو مقارنة بينه وبين غيره ، هو ببساطة توكيد مكانة الدين ورفعه فوق أي
اعتبار آخر. وهو سلوك معروف في معظم المجتمعات الاسلامية التي واجهت تحديا يتعلق
خصوصا بهويتها الدينية[7]. ان الشعور الانفعالي بالخطر المتجه للهوية ، يجعل الموقف الأولي
للانسان العربي دفاعيا ، يطرح في طريقه أي قيمة أخرى. في حالة كهذه لا يتوقف
الانسان لحظة كي يسأل نفسه: ما هو وجه المفاضلة بين الهوية الدينية والوطنية ،
ولماذا يتوجب علي ان اراهما كدائرتين متزاحمتين؟.
هذا التصرف الذي يبدو عفويا ، قاد مع
تفاقم الازمات ، ومع الشحن الثقافي والسياسي على مدى زمني طويل ، الى ترسيخ الرمز
الديني – وتاليا المذهبي – كمضمون للرابطة الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع
الوطني. اصبحت الجماعة الصغرى ، سواء كانت دينية او مذهبية او قبلية ، كهفا يلجأ
اليه الناس في مواجهة تحديات الحياة العسيرة ، سيما تلك التحديات المرتبطة عضويا بوجود
النظام السياسي او الناتجة عن سياساته.[8]
نهوض الهويات الفرعية
لاحظ بنديكت اندرسون انه لا يوجد
مبرر "مادي" للعلاقة بين اتباع قومية محددة أو دين محدد. الكردي الذي
يعيش في خانقين لا يعرف غالبا نظيره الذي يعيش في دهوك ، لم يلتق به ، ولم تربط
بينهم أي علاقة مادية. بل ربما يكون احدهما اقرب عاطفيا ومصلحيا الى جاره العربي
او التركماني. يتولد الشعور بالذات الجمعية حين يكتشف الأفراد العناصر التي تجمع
بينهم ، وتميزهم – في الوقت ذاته - عن الاخرين.
وتركز النخبة غالبا على هذه العناصر
كي تحول هؤلاء الأفراد المتباعدين الى كتلة واحدة ، قادرة على التأثير في السياسة.
الخطوة الاولى في تحول الهوية الفرعية من عامل ساكن الى عامل نشط ، هو اختيار عناصر
التميز أو التمايز الموجودة فعلا في ماضي الجماعة او حاضرها. حيث يجري تفخيمها
واستبعاد العناصر الاشكالية منها ، على نحو يحولها من حدث عادي الى اسطورة ، يجري تكرار
عرضها ، حتى تتحول في عيون ابناء المجتمع ، الى صورة نهائية لذاتهم الجمعية. الغرض
الاخير من هذه العملية هو احياء واغناء الشعور بالوحدة (داخل الاطار) والتمايز عن
الاخرين (خارج الاطار).[9]
-
لكن ما
الذي يدفع فردا في خانقين للتوحد مع فرد في دهوك ، لم يلتق به مطلقا ، بدلا من
جاره العربي مثلا؟.
يجيب أمين معلوف ، المفكر الفرنسي
اللبناني الاصل ، بأننا "غالبا ما نتعرف الى انفسنا في الانتماء الاكثر عرضة
للتهجم"[10]. حين تكون سنيا في مجتمع شيعي ، أو اسود اللون في مجتمع أبيض مثلا ،
فان الكيفية التي تفهم بها موقف هؤلاء ، ووصفهم لك وتعاملهم معك ، يحدد جانبا
فعالا من هويتك. انت هنا مصنف – بصورة عفوية او متعمدة - كشخص مختلف. وهو تصنيف أعمق
أثرا وفاعلية حين تكون العلاقة مع (اولئك الاخرين) سلبية ، ولا سيما حين تكون انت
في الجانب الضعيف الذي يتعرض للعدوان.
وأذكر للمناسبة قصة سمعتها من الرئيس
العراقي السابق الاستاذ جلال طالباني (لندن 1992) توضح هذه الفكرة. خلاصة القصة
انه كان يوما في دكان فاكهاني في دمشق. بعد ان اختار ما يريد ، دفع مبلغا وانتظر
من البائع ارجاع الباقي (الفكة) ، فتأخر البائع ، فذكره بانه ينتظر الباقي ، ثم
ذكره مرة ثانية ، فتوجه اليه الرجل قائلا: "انا فهمت ، فهمت كلامك ماني
كردي" (= لست كرديا لا يفهم). يقول طالباني فاجبته "انا كردي"
فاجابني البائع: "حاشاك استاذ ، حاشاك".
رأي اريك اريكسون الذي قدم أبرز
المعالجات الخاصة بالهوية في الاطار السيكولوجي ، ان تشكل الهوية الفردية ليس خطا
مستقيما ، فهو محصلة لمرادات الفرد وانعكاس ردود فعل المحيط الاجتماعي الايجابية والسلبية
على نفسه. الردود السلبية تضم خصوصا ما يعاب على الفرد وما يعاقب بسببه ، وما يشعر
بالاثم ازاءه ، اي تلك العناصر التي تعني فشلا نسبيا في الكفاءة المتوقعة من الفرد
، فضلا عن الصورة التي يسعى الفرد لتكوينها لذاته.[11]
زبدة القول ان بروز الهوية المنفصلة او
المتمايزة يبدأ غالبا من نقطة تنوع ، تتحول ضمن مسار عفوي غالبا ، الى خط
تمايز/انفصال ، وتترسخ كحقيقة مستقلة بسبب العلاقة السلبية بين الفرد والمحيط
الاجتماعي اوالسياسي. وفي مرحلة تالية تشكل نقاط التنوع تلك محورا لتفاعل واع مع عمل
مقصود يستهدف دمج الفرد في جماعة جديدة متمايزة/منفصلة عن الهوية الجمعية او
التيار العام ، اي تشكيل دائرة مصالح جديدة قادرة على التأثير في المجال السياسي.
التقصير
نتحدث عن
"الثقافة السياسية" في معنى مستخلصات التجربة الحياتية ، التي تشكل
ذهنية الفرد (=subjectivity)، وبالتالي رؤيته لنفسه كفاعل في المجال العام ، أي فهمه للعلاقة
بينه وبين المحيط الذي تتداول فيه القضايا العامة. وهي – بهذا المعنى – جزء من
الثقافة العامة ، التي تشكل رؤيتنا للعالم وقيمة أفعالنا ، وردود فعلنا على افعال
الاخرين ، وتصوراتنا عن الاشياء والاشخاص الذين نتصل بهم او نتفاعل معهم بصورة او
باخرى[12].
ثقافتنا السياسية هي التي تقرر اذن
رؤيتنا للمجتمع السياسي الذي نحن جزء منه. وتتمظهر في ثلاثة نطاقات:
أ- ذهني/شبه ثقافي يتمثل في معرفة الافراد ووعيهم بالسلطة وتفرعاتها
(حكومتنا/حكومتهم)،
ب- شعوري/سيكولوجي
يتمثل في الموقف الشخصي تجاه السلطة (حب/كره ، تعاطف/ارتياب) ،
ت- قيمي/
عقلي يتجلى في تقييم الافراد للسلطة القائمة وأعمالها (جيدا/سيء ، مفيد
للجماعة/ضار بمصالحها).[13]
نفترض – نظريا على الاقل – ان اغلبية المواطنين
في أي دولة ، سيحملون ثقافة سياسية متشابهة. فهم – نظريا أيضا – يتلقون تعليما
موحدا ، ويتعرضون لقنوات تأثير ثقافي تتعامل مع وضع واحد ، ويفترض ان تكون ردود
فعلها متشابهة. كما ان التحديات والتأزمات التي يواجهها البلد ، ستنعكس بصورة
متماثلة على جميع سكانه.
لكن تاريخ الدولة العربية الحديثة
يخبرنا ان الأمر لم يسر على هذا النحو. منذ الربع الثاني من القرن العشرين ، عملت
معظم النخب التي ورثت السلطة من المستعمر الاجنبي على ترسيخ نموذج حكم فئوي[14] ، أدى – موضوعيا – إلى إقصاء
أو تهميش شرائح اجتماعية على خلفية اختلاف انتمائها القومي أو المذهبي أو لكونها
أقليات من حيث العدد ، أو لسكناها في أطراف البلد ، أو لنمط معيشتها المتباين مع
الأكثرية ذات الحظوة. أكراد العراق وسوريا مثل أمازيغ الجزائر وأقباط مصر ومسيحيي
السودان وشيعة الخليج ، تعرضوا جميعا للتهميش في بلدانهم ، وحرموا تبعا لذلك من
حقوق متاحة لسائر المواطنين في المجال العام.
يتراوح الحال بين عقيدة سياسية تغفل
تماما وجودهم ، وتوجيه ثقافي – سياسي يصنفهم كمواطنين من الدرجة الثانية ، وبين
نسق أمني يتعامل معهم بارتياب. في مصر مثلا لا يستطيع المسيحيون الحصول على ترخيص
من البلدية او وزارة الأوقاف إذا ارادوا بناء كنيسة. ترخيص بناء الكنيسة يجب ان
يصدر من رئيس الوزراء شخصيا.[15] المسيحي السوداني لا يستطيع الحصول على منصب رفيع في الدولة أو
المؤسسة العسكرية الا ضمن
"كوتا" محددة يتفق عليها السياسيون ، وليس بحسب مؤهلاته الشخصية. كذلك
الحال مع الكردي العراقي او الشيعي السعودي او الكويتي. اما الكردي السوري فكان
محروما من الجنسية حتى سنة 2011.[16]
باستثناء حالات محددة ، مثل أكراد
العراق ، لم يكن الأمر شديد الوضوح خلال معظم القرن العشرين. لكن التحول الذي طرأ
على المشهد الدولي في نهايات القرن ، سيما تفاقم الحراك الاثني في الكثير من دول
العالم ، وتطور أنظمة الاتصالات الحديثة ، واتساع الدعوة الى الحريات المدنية
والديمقراطية على المستوى الدولي ، أطلق روحا جديدة بين هذه المجموعات ، التي
أكتشفت ان الدولة الوطنية لاتعاملهم كمواطنين طبيعيين ، بل كأعضاء في مجموعات اثنية
متمايزة عن المجتمع الوطني. [17]
وتبعا لذلك فقد تحول الشعور بالتهميش
والحرمان ، الى بحث عن علاقة بين ذلك الحرمان وبين الهوية الفرعية (كونه كرديا أو
شيعيا أو أمازيغيا). بقية
القصة معروفة ، فقد شهدنا ميلا متعاظما لشحن الهويات الفرعية بمضمون سياسي
احتجاجي. نعلم أيضا أن رد فعل السلطات في جميع البلدان ذات العلاقة لم يكن وديا ،
ولم يوجه أي اهتمام لاستيعاب المطالب وتسكين الاحتجاج ، وصولا الى حل المشكلة
الرئيسية ، أي التهميش. اختارت الحكومات المواجهة الساخنة ، اي التشكيك في ولاء
المحتجين لوطنهم وفي أحيان اخرى قمعهم.
ادى ظهور الهويات الفرعية كلاعب
سياسي في المجال العام ، الى ميل مقابل عند بقية الجمهور للتركيز على هوياته
الفرعية ، باعتبارها موازية للهوية الوطنية ، او باعتبارها المضمون الوحيد للهوية
الوطنية. وجدنا هذا في التركيز على العروبة كمضون وحيد للهوية الوطنية في العراق
وسوريا والجزائر مثلا ، وعلى الدين الاسلامي كمضمون وحيد للرابطة الوطنية في مصر
والسودان ، وعلى السلفية باعتبارها الصورة الوحيدة للاسلام في السعودية ومثلها
المذهب المالكي في المغرب.
ما العمل؟
يجب ابتداء الايمان بأن الطائفية
السياسية ليست قدرا حتميا في أي بلد. انها مسار سياسي يمكن ان يستمر ويترسخ ، كما
يمكن ان يعالج حتى يزول. هذا الايمان ضروري لاننا نواجه تعبئة إعلامية كثيفة تريد
إقناعنا ، أو انها تؤدي – موضوعيا – الى إقناعنا ، بأن العالم العربي لا يستطيع
الخلاص من الطائفية إلا اذا تخلص من الدين ، أو تلك التي تزعم بأن الحل التاريخي
يكمن في إعادة توزيع خريطة الشرق الأوسط على نحو يمكن الطوائف والمجموعات القومية
من تأسيس دولها الخاصة.
من المهم على أي حال ان نتفهم ان
اعادة بناء الوحدة الوطنية والهوية الوطنية ليس قرارا ينفذ بين ليلة وأخرى ، وليس
اغنية في الاذاعة او احتفالا في مناسبة ما. فهو يتوقف على استراتيجية واسعة النطاق
وطويلة الأمد ، تأخذ بعين الاعتبار مجموع الحقائق القائمة على أرض الواقع ، وترسم
خطا يصل بينها وبين الصورة النموذجية التي قد نصلها او قريبا منها.[19]
فيما يلي سوف الخص المحاور التي
اظنها ضرورية لأي استراتيجية عمل واقعية لتجاوز مأزق الانقسام ، سيما الطائفي ،
واعادة تأسيس الاجماع والهوية الوطنية الواحدة:
التاسيس المفاهيمي:
خلافا للفكرة الشائعة ، فان الولاء
للوطن ، الوحدة الوطنية ، الهوية الوطنية ، ليست من المباديء البديهية التي تتولد
بشكل عفوي في العقل الجمعي ، ولا هي من المفاهيم البسيطة التي يتوصل اليها الفرد
من دون دفع أو توجيه خارجي. ذلك انها جميعا مفاهيم جديدة ، ليس لها جذور عميقة في
التراث العربي والاسلامي. مسمى "الوطن" الذي يصادفنا أحيانا في الشعر
العربي القديم ليس مطابقا للمفهوم الحديث ، فهو يشير الى القرية او مسقط رأس الانسان ، كما عند ابن الرومي
مثلا:
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود
الصبا فيها فحنوا لذلكا
ومثله عند الفقهاء ، الذين يرد ذكر
الوطن عند حديثهم عن أحكام الصلاة والصيام في السفر ، فهو يتمثل في القرية او
المدينة التي تستوطنها ، او تملك فيها بيتا ، وليس الوطن في مفهومه الحديث.[20]
المفهوم الجديد للوطن لا يتعلق
بالقرية ولا الجماعة ، بل بالمجتمع السياسي الواسع المرتبط بأرض محددة ، له عليها
سيادة ، أي سلطة مستقلة معترف بها وبحدودها الاقليمية في النظام الدولي. وعلى نفس
المنوال فان العلاقة بين ابناء الوطن لا ترتبط باللغة ولا بالدين ولا القيم الثقافية
او التاريخ المشترك ، ولا بنمط العيش او مصادر الانتاج التي تجمع بينهم ، فهذه
جميعا تعتبر مصادر لهويات فرعية. الاساس المكين للرابطة الوطنية هو قبول جميع سكان
تلك الارض المحددة باعتبارها بلدا واحدا ، وتعاقدهم على نظام واضح على ادارة وطنهم
باعتبارها ملكا مشتركا ، لكل فرد فيه حصة شائعة تساوي حصة الآخر ، وانه ملك شرعي
لا يمكن خلعه او انتقاصه او التشكيك في صحته ، وان هذه الملكية الشرعية هي مصدر حق
الافراد ، كل فرد على حدة ، في المشاركة في ادارة هذا الملك المشترك ، والتمتع بكل
الخيرات المادية والمعنوية والفرص المتاحة للجميع.[21] وفي المقابل ، تحمل الاعباء والمسؤوليات والتكاليف التي يتطلبها صون
الملك المشترك وتنميته ، بالتساوي بين جميع اعضاء المجتمع السياسي.
مفهوم الملكية المشتركة لأرض الوطن ،
هو القاعدة التي يقوم عليها مبدأ المواطنة. المواطنة – في هذا المعنى – وصف قانوني
لمكانة كل عضو في المجتمع السياسي وعلاقته ببقية الاعضاء من جهة ، وبالدولة من جهة
أخرى.[22]
الحكومة في هذا المفهوم ليست جهة
مستقلة ، بل وكيل عن المجتمع ككل وممثل لجميع اعضائه ، من يحبونها ومن يبغضونها.
ووظيفتها الرئيسية هي صون الملك المشترك وانماؤه ، وحماية أعضائه ، وفض التنازعات
المحتملة بينهم بسبب تعارضات المصالح او الافكار او بغي أحدهم على الآخر. الحكومة
في الدولة الحديثة ليست ممثلا للأكثرية ، ولا يجوز لأي موظف حكومي ان يفهم دوره او
يمارس وظيفته باعتباره ممثلا لشريحة دون أخرى ، أو حارسا لمصالحها دون مصالح بقية
أعضاء المجتمع. كما يجب على موظف الدولة ، من رئيسها الى اصغر موظف ، ان يمارس
وظيفته في إطار القانون ، وليس له ان يعتمد اراءه او مواقفه الشخصية او ميوله
الايديولوجية او الاجتماعية او غيرها ، لأنه كما سلف ، عضو في هيئة مملوكة للجميع
وتمثل مصالح الجميع ، ومهمتها الوحيدة هي خدمة الجميع بلا فرق بين قريب وبعيد.
ليس من واجبات الدولة الحديثة اتباع
ما يراه رجالها حقا أو نصرة الحق. واجبها الجوهري ومصدر شرعية عملها هو تمثيلها
الصادق والنظامي لمصالح مواطنيها ، وكون سياساتها واعمالها وأساليب تخصيصها
للموارد المتوفرة في المجال العام ، معبرة بدقة عن الارادة العامة للمجتمع الوطني
، في إطار النظام الدستوري والقانون ، بغض النظر عن الرأي الخاص للنخبة الحاكمة أو
تقديراتها لما تراه حقا أو باطلا.
زبدة القول ان الحكومة لا تمثل من
صوتوا لها او دعموها فحسب ، بل تمثل مجموع المواطنين ، بمن فيهم اولئك الذين صوتوا
ضدها في الانتخابات او عارضوها في الحكم. عضو البرلمان الذي انتخب بأصوات شريحة
محددة او مدينة بعينها ، يتحول فور دخوله المجلس النيابي الى ممثل لجميع
المواطنين. والوزير الذي عين بناء على خلفية حزبية او اجتماعية محددة ، لا يجوز له
قصر عمله في الوزارة على تمثيل مصالح الفئة التي ينتمي اليها ، فهو أمين على مصالح
المجتمع الوطني ككل. ولو قصر في هذا وكرس نفسه لمصالح حزبه او قبيلته او طائفته او
مدينته دون بقية البلد ، فهو خائن للعهد وغير جدير بتولي المسؤولية الوطنية.
الاجماع الوطني
الانقسام هو الاصل في حياة المجتمعات. يستحيل ان
تخلق مجتمعا موحدا مئة في المئة. ثمة على الدوام اسباب للانقسام راسخة او مستجدة. ومن
العبث السعي لتوحيد الناس ، بمعنى جعلهم متشابهين في الفكرة او الموقف او المصلحة.
انه سعي للمستحيل ، ولو تحقق بعضه فان ضرره سيكون اعظم بكثير من منفعته.
ثمة اتجاه يتسع باستمرار في عالم
اليوم للتخلي عن الوصف الاحادي للمجتمع. بريطانيا مثلا اصبحت تعرف نفسها كمجتمع
متعددة الثقافات multicultural society ولم
تعد الانجلو ساكسونية وصفا نمطيا لها كما في الماضي. كذلك الحال في جميع دول
الاتحاد الاوربي وامريكا الشمالية. المجتمع التعددي هو سمة الدولة الحديثة التي
تحترم حقوق الانسان. بل اصبح ينظر الى التعدد الاجتماعي والثقافي كشرط للنمو
المستدام والتقدم. بلدان مثل كندا والولايات المتحدة واستراليا تدين بجانب كبير من
قوتها وتقدمها للمهاجرين الذين انضموا الى المجتمع الوطني واصبحوا جزء منه ، رغم
انهم لم يتخلوا عن ثقافاتهم او انتماءاتهم الفطرية السابقة.
وطبقا لرؤية روبرت دال فان اتساع
الطابع التعددي للمجتمع (=polyarchy) قد يكون عنصرا محوريا في الحيلولة دون الاستبداد وتعزيز العملية
الديمقراطية.[23] هذا – بطبيعة الحال – مشروط بكون الوحدات التي يتألف منها المجتمع
السياسي منفتحة وذات مضمون تعاقدي ، أي قابلة للتحول ، وليست متخشبة او نهائية كما
هو الحال بالنسبة للوحدات القائمة على أساس الدين/المذهب او العرق وما أشبه.
طبقا لبعض تفسيرات القرآن الكريم فان
الاختلاف – ومن ثم الخلاف – هو الفطرة التي فطرنا الله عليها "إنا خلقناكم من
ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا- الحجرات 13" وتشير آية اخرى الى
ان الخلافات العارضة سببها اختلاف المعرفة ، وهي ناتج قسري لاختلاف العقول
والتجارب "وما
كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه
يختلفون- يونس 19". ورأى جان جاك روسو ان تبلور
مفهوم الملكية وتمايزها كميا ونوعيا ، هو المولد الاول للتباين الاجتماعي وما
يترتب عليه من تعارضات[24].
على أي حال فان الاختلاف والخلاف هو
الوضع الطبيعي للحياة ، ولن يستطيع أحد الغاءه. لكن ثمة في العالم من يضيق بوجود
المختلفين. لأنه ربما ينظر الى نفسه وما عنده كدليل على تميزه عن غيره. ونعلم ان
بعض الطبقات والسلالات والقبائل والطوائف وبعض أهل الحرف ، يرون انفسهم طبقة
مصطفاة مميزة. لكن كل هذه الاعتبارات شخصية ، وغير ذات أهمية في اطار المجتمع
السياسي ، الذي يتألف – من حيث المبدأ – من اعضاء متساوين من حيث القيمة والأهلية
والحقوق.
بعد هذا الاستطراد ، أعود للقول ان
الوصول بمشروع الوحدة الوطنية الى غاياته ، رهن بنجاحه في استعادة الاجماع الوطني.
العراق مثل معظم الدول العربية ، مر بظرف عصيب شهد تلاشي الاجماع الوطني القديم.
تلاشى الاجماع في العراق بسبب الانهيار المتكرر للنظام السياسي بين 1958 حتى 2003.
لكن في بلدان أخرى ، مثل دول الخليج ، كان السبب هو الانهيار المفاجيء للاقتصاد
السياسي القديم خلال الفترة من 1970-1980 ، وهي حقبة تأسيس او إعادة هيكلة الدولة.
يشير مفهوم "الاجماع الوطني"
الى توافق بين اطياف المجتمع الوطني على منظومة قيم ومفاهيم وتفاهمات وتقاليد عمل
، موضوعها تنظيم الشؤون العامة ، أي القضايا التي يشترك فيها – غنما وغرما – مجموع
المواطنين. وبينها خصوصا الاجراءات العملية لاتخاذ القرار وحل التعارضات بين
المصالح ، اضافة الى طريقة الوصول الى الاهداف الاجتماعية. [25] ومن نافل القول ان الاجماع في هذا المعنى ، هو مصدر شرعية النظام العام
، والعامل الرئيس في ترسيخ الاستقرار والسلم الأهلي.
ولأن المجتمع الوطني هو اتحاد
اختياري بين أعضاء أحرار ، فان تحول المتبنيات الخاصة بفرد او طيف اجتماعي محدد ،
ثقافية كانت او قيمية او سياسية ، الى التزامات قانونية عامة ، مشروط بالرضا
الصريح من جانب بقية المواطنين. وليس لأي طرف بعينه فرض معتقداته على البقية.
علاقة الشراكة تعنى ان قبول الشركاء – وليس صحة الموضوع المطروح - هو الشرط اللازم
لتحويل الراي الى قانون ملزم للجميع .
حين يتفكك الاجماع القديم ، فان النظام
الاجتماعي القائم ، المتمثل في المؤسسسات والبنيات الوظيفية والقيمية والأدوار
والتقاليد والأعراف ، يتوقف عن القيام بوظيفته كناظم مقبول للحراك الاجتماعي ،
ومصدر لشرعية السلطة ووحدتها وهيبتها.[26] الامر الذي يفتح الباب امام قيام استقطابات ومحاور أو مراكز قوى
متباينة في المجتمع ، يجسد كل منها نوعا من السلطة ، ضمن إطاره الاجتماعي الخاص. يتسم
ظرف الانقسام هذا بتفاقم الارتياب بين أطياف المجتمع ، وكثرة التحولات الحياتية ، وسيولة
القيم ، وتراجع الأمل في المستقبل ، وتقبل العنف والاستبداد كحل ممكن للأزمات
الحياتية.
وأميل الى الاعتقاد بأن اخفاق النظام
العربي المعاصر في مجال التنمية الاقتصادية والسياسية ، يرجع بشكل رئيسي الى عجز
المجتمع السياسي عن توليد اجماع جديد على طبيعة النظام واهدافه والقيم الكبرى التي
تنظم حركته. تمتاز الانظمة السياسية المتقدمة – كما لاحظ ليونارد بيندر – بقيامها
على أرضية اجماع ثقافي تاريخي يضمن الاستقرار والتواصل.[27] من المهم جدا الانتباه الى التحول الجوهري في العلاقة بين المواطن
والدولة الحديثة. في الماضي كان الحاكم يدير "رعيته" من خلال رؤساء
الجماعة اي النبلاء او شيوخ القبائل او الرؤساء الدينيين. لا يزال بعض هذه
المنظومات الاجتماعية قائما في بعض المجتمعات ، لكنها لم تعد وسيطا في العلاقة بين
المواطن والحكومة. حسب تعبير شارل تايلر فان سمة دولة الأمة الحديثة هي العلاقة
المباشرة بين المواطن والدولة ، وكونه على درجة واحدة مع سائر المواطنين أمام
القانون والحكومة.[28] اعادة بناء الاجماع الوطني
تستهدف – من حيث المبدأ – استعادة الثقة بين الاطياف الاجتماعية ، التي فرقها
الارتياب المتبادل والخوف على المصالح والمصير ، في ظرف انهيار الدولة او تحولها.
اجراءات استعادة الثقة تتخذ عادة شكل
التفاعل الجمعي ، او الحوار بين زعماء الجماعات او الاطياف الاجتماعية. وهو أمر لا
مفر منه على أي حال ، سيما في المراحل الأولى. لكن ينبغي فهم هذا المسار في إطار
غرضه الاجرائي البحت ، وليس باعتباره
مقصودا بذاته. يهمني التأكيد على الطبيعة الاجرائية المؤقتة لهذا النوع من
الحوارات ، كي نتفادى تحول الطبقات العليا التقليدية الى سقف للحياة السياسية وشرط
للاجماع الوطني.
الغاية المقصودة من العمل لاستعادة
الاجماع الوطني هو تعزيز الايمان بالمواطنة في نفوس الأفراد ، وتمكين سيادة
القانون والمساواة ، وصولا الى قناعة الجميع بما يمثله "الوطن" من مصلحة
غالبة لكل منهم على حدة ولهم كمجموع. بلوغ
هذه الغاية يتطلب ان لا يتحول الوسيط (ممثل الهوية الفرعية) من مفاوض يمثل الجماعة
في ظرف محدد ، الى مالك دائم لصفة التمثيل. لا تقوم علاقة المواطنة المتساوية ولا
يتولد الايمان بالوطن الواحد من تفاهمات شخصية بين الزعماء ، على طريقة "حب
الخشوم" العربية ، ولا بتقديم وعود غائمة عن المستقبل ، بل بتحديد موضوعات
الاجماع الممكنة فعليا ، والتوافق عليها توافقا صريحا واختياريا. وأول تلك
الموضوعات هو مضمون المواطنة (الحقوق والتكاليف) وسيادة القانون ، واعتباره المرجع
الاعلى للعلاقة بين اطراف المجتمع الوطني ، إضافة الى السبل القانونية والمؤسسية
التي يلتزم الجميع باتباعها لحل الخلافات وتعارضات المصالح اذا نشبت.
أ- استيعاب القوى الجديدة
ان السبب الرئيس في انهيار الحكومات
والدول ، هو تكلسها وعجزها عن استيعاب القوى الجديدة. وتميل المجتمعات التقليدية
بشكل عام الى تثبيت هياكل القوة القائمة ، الأمر الذي يفضي – بالضرورة – الى
استمرارية النخب القديمة وضيق السبل امام القادمين الجدد الى المجال العام. يميل
السياسيون وزعماء المجتمع - عادة - الى التوافق فيما بينهم والالتزام بالحماية
المتبادلة لنفوذهم ، بمعنى عدم الاعتراف بالقوى الطارئة التي تتحدى ذلك النفوذ.
وأظن ان هذا احد المبررات الهامة
للميل الى التطرف ، وقلة الميل الى
المساومة وتوافقات منتصف الطريق ، في السياسة العربية. ثمة تحليل ينظر مسافة أبعد
فيرى ان السلطة الاجتماعية او السياسية مصنفة في الثقافة العربية كغنيمة شخصية [29]. ولهذا يقاوم اصحابها أي دعوة لتوسيع النخبة او تجديد دمائها ، ظنا
انه سيقود بالضرورة الى تنازل عما يعتبر "غنيمة" أو مكسبا شخصيا.
لكن ظروف التحول لا تسمح بهذا النوع
من التفكير ، مهما كان راسخا. وقد سبقت الاشارة الى ان تلك الظروف يسودها الانقسام
، ومع الانقسام تبرز قوى جديدة غير مألوفة. لكنها تمثل – شئنا أم أبينا – شرائح من
المجتمع لم تجد في النخبة القديمة تمثيلا مناسبا لها او لمصالحها.
ان انكار القوى الجديدة او تهميشها
او تحديها ، يؤدي غالبا الى خلق بيئة خصبة لاستزراع الاتجاهات الراديكالية التي تنكر
النظام الاجتماعي او تشكك في مبانيه ومبرراته القيمية. وأظن ان هذا يفسر جزئيا
القفزات المفاجئة نحو التطرف في المجتمعات التقليدية. وقد اشرنا في اول المقالة
الى رأي مارسيل غوشيه الذي يدعم هذا الاستنتاج. نشير هنا أيضا الى رأي ليونارد
بيندر الذي يعتقد ان اغفال المجتمعات النامية للقوى الجديدة وتباطؤها في تطوير اطر
العمل السياسي الديمقراطي الكفيلة باستيعابها ، أدى لتفاقم التباين القيمي
والسلوكي وانكماش وسائط التفاهم بين اطياف وطبقات المجتمع ، سيما بين الطبقات
الحديثة والتقليدية.[30]
وعلى العكس من هذا فان استيعابها ضمن
مؤسسات النظام ، ومن خلال اطره القانونية كالانتخابات ، سيشكل دعوة غير مباشرة الى
عقلنة التداول السياسي ، وتجديد حركية النظام ، وتوسيع قاعدته الاجتماعية وتمثيله
لمختلف الاطراف والأطياف ، أي تعزيز وحدته الوطنية. مواقف القوى الجديدة واراداتها
الخاصة لا تختلف من حيث القيمة عن نظيرتها التقليدية او المهيمنة ، فتلك مثل هذه تشكل
جزء من منظومة الشرعية السياسية التي تحتاجها الدولة. استيعابها سيقيم بؤرة جديدة
لخلق هويات اجتماعية منسجمة مع الهوية الوطنية ، لان المكاسب التي تحققها من خلال
الاعتراف والاستيعاب الرسمي يجعلها دائرة مصالح مرتبطة بالنظام السياسي وطرفا فيه
، بدل ان تبقى متخارجة عنه او مناوئة له.[31]
ب- التنمية المتوازنة
قارن بين أي مدينة في العراق وبين العاصمة بغداد ، من
حيث الخدمات العامة وتوفر الوظائف والتمويل والفرص.. الخ. هذا المثال يصلح
للمقارنة بين أي عاصمة عربية وبقية المدن. اتخذت الدولة العربية الحديثة منهجا
شديد المركزية في توزيع الثروة الوطنية ، على نحو أدى الى حصر الفرص والامكانات في
حيز جغرافي صغير ، يتمثل في العاصمة والمدن الكبرى. نعلم ان المركزية الادارية لا
تنحصر في الاقتصاد ، فهي تنعكس أيضا على كافة الفرص والخيرات المتاحة في المجال
العام. في حقيقة الأمر فان ما نسميه مجالا عاما ، لا يوجد واقعيا خارج العاصمة. هذا
التقصير سيكون أكثر حدة وتأثيرا في البلدان التي يعتمد اقتصادها على الانفاق
الحكومي في المقام الأول ، فالمركزية الادارية تقود بطبعها الى تباين في تخصيص
الموارد المالية الضرورية للتنمية وخلق مصادر الانتاج خارج المركز ، وهذا حال
نعرفه في مختلف البلدان العربية.
الاقتصاد
السياسي في جميع الدول العربية تقريبا ، يدور – عن قصد او غفلة – حول قضية محورية
واحدة هي تعزيز قوة الدولة وهيمنتها. وهو يؤدي في معظم الاحيان ، الى تحويلها من
دولة مفتوحة للجميع وممثلة لمصالح الجميع الى كيان قائم بذاته ، يملك وجودا منفصلا
عن المجتمع في آليات عمله ومصالحه واستهدافاته ، وهو ما يشار اليه أحيانا بوصف
"الدولة العميقة" القادرة على تغيير جلدها ، وتغيير اتجاهات الرأي العام
ومخرجاته ، على نحو يصون دوائر المصالح المهيمنة وليس الارادة العامة ، مهما كانت
صريحة. الدولة العميقة ليست – في حقيقة الحال – سوى المنظومة التي اقامتها النخبة
كي تصون مصالحها ونفوذها ، حتى لو تطلب الأمر استخدام موارد الدولة ، بل وكيانها
كله ، من أجل هذه المصالح الفئوية.
المركزية
الادارية – وتبعا لها السياسية – من أشد النظم تخريبا للوحدة الوطنية. لانها أولا
تنقض مبدأ شراكة المواطنين جميعا في بلدهم
، وتضعف تبعا لهذا احساس الشرائح المهمشة بالمسؤولية عن الوطن ، حمايته والذوذ عنه
وعمرانه ، كما تمهد لقيام بيئة نخبوية تحتكر مصادر القوة وتضيق القاعدة الاجتماعية
للنظام ، فضلا عن انها تخلق أرضية خصبة لازدهار سلوكيات التملق والنفاق وأشكال
الفساد الأخرى.
التنمية
المتوازنة تعني ان يتمتع المواطنون جميعا بخيرات الوطن وما يتوفر فيه من فرص. وفي
ظرف التفاوت الشنيع ، كما هو الحال الراهن في العراق وأغلب الدول العربية ، فان
على الدولة وضع برنامج مكثف لتسريع النمو في المناطق المهمشة ، حتى تصل الى
المتوسط الوطني العام. يجب ان يشعر الجميع بانهم رابحون في ظل النظام السياسي
الجديد. يجب ان يشعروا بأن من مصلحتهم دعم هذا النظام وانجاحه. الشعور العام بالرضا
النسبي عن عمل الحكومة يترجم ذهنيا في صورة دعم نشط او ضمني للنظام السياسي
والقانون[32] ، وهذا بدوره يعزز الهوية الجامعة ، ويقلل
من اهمية الاحباطات المرتبطة بالهوية الفرعية.
اشكالات اللامركزية
الدعوة الى
تعميق اللامركزية تقودنا بالضرورة الى تجربة فعلية في العراق وفي بلدان أخرى ،
كشفت عن سلبيات مقلقة ، مثل شعور الحكومات المحلية بالاستغناء عن المركز ، أو تهرب
المحافظات الغنية من المشاركة في حمل أعباء المحافظات الفقيرة ، فضلا عن عناصر
الضعف الذاتي التي توجد أحيانا في بعض المحافظات مثل ندرة الموارد. هذه مشكلات معروفة
، ولا ينبغي ان تشكل مبررا لابقاء النظام المركزي ، لانها مهما بلغت فهي أقل سوء
من المركزية. هناك بالطبع حلول مؤثرة أو مساعدة يمكن للحكومة ان تنفذها في هذه
المناطق خصوصا ، مثل منحها وضعا اقتصاديا خاصا ، او نقل مراكز الثقل الاداري
الحكومي اليها. وقد رأينا في بلدان أوربية ان مدنا كاملة قامت وازدهر اقتصادها حول
جامعة او مصنع كبير أو منطقة تجارية حرة. هناك دائما حلول يمكن للدولة ان تنفذها
اذا اعتمدت النظام اللامركزي.
أما شعور
المحافظات بالاستغناء عن المركز ، فهو قد يكون مؤلما في ظل ثقافة سياسية تساوي بين
القيادة وبين التحكم والهيمنة. لكنه لن يكون مؤثرا أو مهما إذا انشغل قادة المركز
بواجبات الحكومة المركزية ، واعتبروا انفسهم جزءا من المنظومة السياسية الوطنية
وليسوا ملاكا لها.
ادارة الانقسامات
الصعود السياسي للتيار الديني خلال
العقود الثلاثة الماضية ، اثمر عن تفاقم مواز لانقسامات على ارضية دينية ، اتخذت
في البداية مبررا ايديولوجيا ، لكنها سرعان ما تحولت الى المبررات المذهبية. يهمني
التأكيد على ان الدين كان مبررا وليس سببا للانقسام ، رغم ان كثافة الكلام الديني
حول الانقسام او تبرير الانقسام ، يوحي بأن الدين هو السبب. اقول هذا لأن جميع
الصراعات السابقة والمعاصرة بين أتباع المذاهب دارت حول مكاسب سياسية. ولذا كانت
تتصاعد او تتراجع تبعا لعلاقات المصالح بين أطراف النزاع. النزاع الراهن في سوريا
مثلا قد يبدو طائفيا ، لكنه يدور حول حصص في النظام السياسي والنفوذ على الأرض.
كذلك الحال في العراق واليمن والسودان وليبيا ، وكل البلدان التي شهدت نزاعات
أهلية تحمل السمة الدينية أو المذهبية. الفارق المهم بين الصراع الذي جوهره ديني ،
ونظيره ذي الجوهر السياسي ، يظهر بوضوح في نهايته. فاذا انتهى باتفاق على تغيير أو
تعديل المعتقدات ، فهو صراع حول الدين. اما اذا انتهى باتفاق على صفقة سياسية فهذا
يعني ان الدين لم يكن سوى مبرر أو وسيلة حشد وتعبئة. ونعلم ان المفاوضات التي أنهت
الحرب الاهلية اللبنانية ، ونظيرتها في السودان والبلقان وتيمور الشرقية ،
والنقاشات الدائرة في العراق وسوريا اليوم ، لم تتناول مطلقا المعتقدات والافكار ،
بل تمحورت حول حصة كل طرف ومكانته في التنظيم السياسي الوطني.
بعبارة
أخرى فان التركيز على الهوية الدينية ، له – موضوعيا - وظيفة سياسية محددة ، هي حشد
الجمهور من أجل هدف محدد ، هو ضمان حصة سياسية لمن يتبناه. وفي هذا السياق ، فان وظيفة
الهوية الدينية لاتختلف مطلقا عن نظيرتها القومية او المذهبية او الاقليمية او
الايديولوجية.
لكن هذا لا
ينبغي ان يقلل من أهمية الاشكالية الواقعية التي يثيرها التركيز على
"الدين" كهوية وكدور في المجال العام. في واقع الأمر فان عزل الدين كليا
عن المجال العام ، سوف يقود الى تقليص المشاركة الشعبية في الحياة العامة ، اي تقليص القاعدة الاجتماعية للنظام
السياسي. ولهذا فان الدعوة الى علمنة الدولة وفق المفهوم المتداول في المجتمعات الغربية
، قد لا تكون سندا للديمقراطية في العالم العربي ، بل ربما تلعب دورا معاكسا. وهذا
ما كشفت عنه تجربة العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين بمجمله.
نحن الآن
امام اشكال واضح المعالم. فمن جانب ، نحن بحاجة الى دور للدين في المجال العام ،
لأن الحكم لا يمكن ان يكون ديمقراطيا او متمتعا بشرعية كاملة ، ما لم يكن ممثلا
لهوية الشعب وثقافته العامة. ومن جانب آخر رأينا ان التيارات التي تبنت الهوية
الدينية او دعت الى تديين الدولة ، تحولت – واقعيا – الى أحزاب طوائف ، تتبنى
المصالح السياسية للشريحة الاجتماعية التي تنتمي اليها ، والتي تجمع بينها - عادة -
الرابطة المذهبية. من المؤسف ان التيارات الاسلامية ، التقليدية والحديثة ، فشلت
تماما في العبور من جدار المذهب ، او تبني مصالح عامة تتجاوز الجماعة الدينية التي
تنتمي اليها. اي انها فشلت في التحول الى أحزاب وطنية تمثل الشعب ، بغض النظر عن
دينه أو مذهبه او قوميته. هذا أيضا حال الأحزاب القومية والعشائر والقبائل التي
سعت للحصول على تمثيل سياسي.
يمكن
التفكير في معالجة ذات اتجاهين:
الاتجاه
الاول: دفع الانقسامات
العمودية بالاتجاه الافقي: بصورة موجزة تتشكل الانقسامات الاجتماعية على نمطين: أ)
انقسام طبيعي او عمودي ، يلتصق بالفرد عند الولادة مثل الانتماء الديني والمذهبي
والقومي/العرقي والقبلي. ب) الانقسام المكتسب او الافقي ، مثل انتماء الانسان الى
حزب او طبقة او نقابة او جمعية او تيار سياسي او ايديولوجي. وهو يأتي غالبا بعد ان
يبلغ الفرد سن الرشد ، ويتسم بالاختيار والتعاقدية ، بخلاف الانقسام الاول.
لا يستطيع
الفرد الفكاك من هويته الناشئة عن الانقسام الاول. لكن الهوية الثانية ذات طبيعة
متحولة ، ولهذا فهي تتسم بقدر اكبر من العقلانية (اي القدرة على حساب عواقب
الافعال واتخاذ القرار بناء عليه). تتركز اشكاليات الهوية في النوع الاول ، حين
يجري شحن الهوية الطبيعية بمضمون سياسي ، فيصبح موقف جماعة الدين او المذهب
او العشيرة او العرق معيارا او حاكما على
موقف الفرد السياسي.
من هنا فان
من مصلحة النظام السياسي تشجيع الافراد على تأطير مواقفهم واتجاهاتهم السياسية ومطالبهم
، في اطار احزاب وطنية او منظمات مجتمع مدني عابرة للانتماءات الطبيعية. كان
هنتينجتون قد جادل في كتابه المرجعي "النظام السياسي لمجتمعات متغيرة" ،
بأن النظم السياسية التي تفتقر الى أحزاب سياسية قوية وحسنة التنظيم ، هي الأقل
استقرارا وشرعية. وهذا ينطبق بدرجة أكبر على النظم السياسية الناشئة.[33] من مصلحة النظام السياسي تشجيع ودعم منظمات المجتمع
المدني والاحزاب السياسية ، بمختلف تشكيلاتها (بما فيها الدينية والقومية) بما
يؤدي الى توسيع المجال العام ومنع احتكاره من قبل المنظمات او التيارات القومية او
الدينية او المذهبية.
الاتجاه
الثاني: ابتعاد النظام
السياسي عن القراءة التقليدية للدين ، التي اظهرت التجربة التاريخية حتى اليوم ،
ان المكون الانقسامي (المذهبي/الطائفي) جزء عضوي منها ، لا تستطيع الفكاك منه. هذا
لا يعني ، ولا يصح ان يؤدي الى انكار او قمع التيار التقليدي ، بل تشجيع القراءات
الجديدة والتجديدية ، واعتماد التعددية الدينية والمذهبية والفكرية كمبدأ معياري
في الموقف من القضايا الروحية والثقافية.
في كل
الأحوال يجب ان نعي دائما ان الحديث عن دور الدين في النظام السياسي ، يدور في
إطار العلاقة بين عالم متعال مقدس ، وعالم متغير مليء بالفضائل والأخطاء. ولهذا
فليس المقصود مطلقا اسباغ الصورة الدينية (سيما القدسية) على الدولة او مؤسساتها.
كما ليس المقصود تحويل الدين الى أداة سياسية. يجب ان نعي أيضا ان كل قيمة دينية
تحولت الى جزء من القانون فسوف تفقد صفتها الدينية. بعبارة اخرى فاننا بحاجة دائما
الى ايديولوجيا – أو طوبى حسب تعبير العروي – .[34] لكن يجب الالتفات دائما الى الفارق بين الايديولوجيا
الى تحثنا على بلوغ النموذج الأعلى ، وبين الواقع وحدوده المادية. اذا اغفلنا
المسافة بين الاثنين ، فان الايديولوجيا قد تتحول الى واحد من اثنين: إما مصدر
تبرير للواقع ، وهذا يلغي دورها كمصدر للقيم والمثاليات ، او تتحول الى ناقض
للدولة ، لأنها بطبيعتها تنطوي على نقد للواقع واقتراح بديل متقدم عنه.
دعوتنا الى
هجر القراءة التقليدية تلاحظ كونها أحادية ومغلقة بطبيعتها. ان الحل المناسب لهذه
الاشكالية يكمن - كما سلف - في اعتماد التعددية الفكرية والدينية ، بما فيها
تعددية القراءات وانفتاحها.
الخلاصة
عالجت المقالة المشكلة الطائفية
باعتبارها انعكاسا للتزاحم بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية الجامعة. وبدأت
بتعريف اجرائي غرضه ايضاح الفارق بين انتماء الفرد الى طائفة ، وبين كونه طائفيا
في المعنى السياسي. كما عرفت الحكومة الطائفية بأنها الحكومة التي تكرس نفسها
لتمثيل مصالح فريق من الشعب ، ولو كان أكثريته ، وليس مصالح المجتمع الوطني كله.
كما تطرقت الى النهوض المعاصر للهويات الفرعية ، وفسرته بالسياسات الرسمية التي
اعتمدت اقصاء او تهميش شرائح اجتماعية محددة ، بسبب اختلافها في الدين او المذهب
او القومية او سكناها في الاطراف ، الامر الذي حول الشعور بالحرمان ، الى بحث عن
علاقة بينه وبين الهوية الفرعية.
أوضحت المقالة ان معالجة المشكلة ، اي
مزاحمة الهويات الفرعية للهوية الوطنية ، وتحولها الى مرجع في العمل السياسي بديل
على مرجعية الوطن ، تتطلب استراتيجية واسعة النطاق. وتقترح المقالة عددا من محاور
العمل التي يجب التركيز عليها في اطار هذه الاستراتيجية.
أول تلك المحاور يتعلق بغياب او قصور
مفهوم "الوطن" وعلاقة "المواطنة" بالمعنى الحديث في الثقافة
العامة ، الأمر الذي يقتضي عملا ثقافيا وتربويا يركز على ترسيخ المفهوم الحديث ومتعلقاته. يتعلق المحور
الثاني باعادة بناء الاجماع الوطني بهدف استعادة الثقة بين الاطياف
الاجتماعية التي فرقها الارتياب المتبادل والخوف على المصالح والمصير في ظرف
انهيار الدولة . كما ركز على ضرورة استيعاب القوى
الاجتماعية الجديدة ضمن مؤسسات النظام السياسي. وعلى التوزيع العادل للموارد والفرص
والخيرات المتاحة في المجال العام من خلال برنامج محدد للتنمية
المتوازنة ، تهتم خصوصا بالمناطق التي لم تنل حظا من الانفاق التنموي. ولفتت
المقالة النظر الى ضرورة التخلص من المركزية الادارية باعتبارها احد العوامل
المهمة وراء التفاوت في التنمية.
اخيرا تدعو المقالة الى معالجة جادة
لدور الدين في الحياة العامة. وتقترح مسارا من اتجاهين ، أولهما دعم وتشجيع منظمات
المجتمع المدني والاحزاب السياسية ، كي تلعب دورا بديلا عن الانتماءات التقليدية
في تشكيل الهوية السياسية للافراد. كما تدعو في الاتجاه الثاني الى ابتعاد النظام السياسي عن القراءة التقليدية للدين ،
التي كشفت التجربة عن تلازمها العضوي مع التوجهات الانقسامية ، سيما المذهبية ، القابلة
للشحن السياسي والتحول الى قوة طائفية. البديل الصحيح هو تشجيع القراءات الجديدة
والتجديدية ، واعتماد التعددية الدينية والمذهبية والفكرية في المجال العام.
[1] New York Times, (9 April 2006), http://www.nytimes.com/2006/04/09/world/middleeast/09cnd-iraq.html
[2] برهان غليون: المسألة
الطائفية ومشكلة الأقليات ، ط. 3 ، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات،
(الدوحة 2012)، ص 13
[3] See for example: R.
N. James III & D. L. Sharpe, ‘Sect Effect" in
Charitable Giving: Distinctive Realities of Exclusively Religious Charitable
Givers’, The American Journal of Economics and Sociology, Oct. 2007, V. 66, Issue 4,
pp 697–726.
[4] See for instance: Daniel
lerner, The Passing of Traditional Society, The Free Press, (New York 1965), p. 44
[5] مارسيل غوشيه: الدين في
الديمقراطية ، ترجمة د. شفيق محسن ، المنظمة العربية للترجمة (بيروت 2007) ، ص 118
[6] داريوش شايغان: النفس
المبتورة ، دار الساقي (بيروت 1991) ، ص 168
[7] See for example: Bulat Akhmetkarimov, ‘Tatarstan: The Search for
Political Identity’, Civil Academy Journal of Social Sciences. V. 5.
Issue: 1 (Spring 2007). P. 135.
[8] محمد محفوظ:
"الأقليات الدينية والدولة في العالم العربي" ، مؤسسة الفكر الإسلامي
المعاصر للدراسات والبحوث (٣٠/١٠/٢٠١٢) http://www.islammoasser.org/ArticlePage.aspx?id=736
[9] Bendict Anderson, Imagined Communities,
Verso, (London 1991), p. 37
[10] امين معلوف : الهويات
القاتلة ، دار الفارابي ، (بيروت 2004)، ص 29
[11] K. Hoover, J. Marcia, K. Parris, The Power of Identity, Chatham
House Publishers, (London1997) p. 36
[12] G. A. Almond & S. Verba, The Civic Culture: Political
Attitudes and Democracy in Five Nations, (Sage 1989), pp 12-14
[13] D. Kavanagh, Political Culture, (McMillan, London 1972), p. 11
[14] برهان غليون: المصدر
السابق ، ص 111
[15] توفر حالة الاقباط في
مصر مثالا نموذجيا عن سياسات الاقصاء التي اتبعتها الدولة العربية ، واسهمت تاليا
في نهوض الهويات الفرعية. انظر بهذا الصدد د. مي مسعد: الاقباط ومطالبهم في مصر
بين التضمين والاستبعاد ، مركز دراسات الوحدة العربية ، (بيروت 2012)
[16] انظر
بهذا الصدد جاد الكريم الجباعي: مسألة الاقليات ، موقع الكتروني لجــان الدفــاع
عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنســان فـي ســوريـا (8-2010) http://cdf-sy.org/content/index.php?option=com_content&view=article&id=294:2010-08
[17] لبحث معمق في هذا الصدد
انظر نزيه الأيوبي: تضخيم الدولة العربية ، ترجمة امجد حسين ، المؤسسة العربية
للترجمة ، (بيروت 2010) ، سيما الفصل الثالث ، ص 191.
[18] لمعلومات حديثة ، انظر
تقارير وزارة الخارجية الامريكية عن الحريات الدينية في العالم العربي لعام 2014. http://www.humanrights.gov/dyn/irf-report-translations/
[19] انظر ايضا توفيق السيف
: ان تكون شيعيا في السعودية ، ص 199. ن. إ. http://talsaif.blogspot.com/2012/12/view-to-be-shia-in-saudi-arabia-on_25.html
[20] حول مفهوم الوطن الفقهي
، انظر جعفر السبحاني: ضياء الناظر في احكام صلاة المسافر ، مؤسسة الامام الصادق
(2012) ، ص 219. http://imamsadeq.com/ar/index/book?bookID=15&page=10
[21] حول الاساس الديني لكون
الملكية المشتركة لتراب الوطن مصدرا أصليا للحقوق المدنية والسياسية ، انظر توفيق
السيف: رجل السياسة ، الشبكة العربية للابحاث والنشر (بيروت 2011) ، سيما الفصل
الخامس ، ص 117
[22] Elise Auvachez, ‘Supranational Citizenship Building and the United
Nations’, Global Governance. V. 15. Issue: 1 (Jan.-Mar. 2009), P.43.
[23] روبرت دال: الديمقراطية
ونقادها ، ترجمة نمير مظفر ، ط2. دار الفارس (عمان 2005)، ص 418
[24] Jean-Jacques Rousseau, Discourse on the Origin of Inequality,
Oxford University Press, 1999, p. 69
[25] Taketsugu Tsurutani, “Stability and Instability”, The Journal of Politics, vol.
30, no. 4. (Nov., 1968), pp. 910-933: p. 911
[26] David Held, Political Theory and the Modern
State, (Cambridge 1989), p.88
[27] Leonard Binder, Islamic Liberalism, (Chicago, 1988) p. 41
[28] Charles Taylor, “Nationalism and Modernity”, in R. McKim & J.
McMahan (eds), The Morality of Nationalism, Oxford University Press.
(New York 1997), P. 36
[29] يوسف خليفة اليوسف:
عندما تصبح السلطة غنيمة: حالة مجلس التعاون الخليجي ، المستقبل العربي، ع. 351 ، مايو
2008 ، صص 71-87
[30] Leonard Binder, ‘National Integration and Political Development’, The
American Political Science Review, vol. 58, issue 3 (Sep., 1964) pp.
622-631: p. 631 .
[31] مارسيل غوشيه ، المصدر
السابق ، ص 143
[32] David Easton, ‘An Approach to the Analysis of Political Systems’, World
Politics, vol. 9 , issue 3 (Apr., 1957) pp. 383-400
[33] Samuel Huntington, Political Order in
Changing Societies, 7th ed., Yale University Press (London 1973), p. 91
[34] عبد الله العروي : مفهوم
الدولة ، ط. 9، المركز الثقافي العربي (بيروت 2011) ، ص 204