01/11/2017

حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم


|| تاريخ التقدم الانساني هو مسار الخلاص من الخرافة ، ونفي الحتميات الموهومة والمسلمات الجامدة ، وتكريس حاكمية العقل وفوقية العلم ، انه قصة الانتقال من رهبة الطبيعة الى استثمارها والتحكم فيها.||

اراد القاضي البريطاني دينيس لويد (1915-1992) تقديم شرح موجز لتطور القانون. لكن كتابه القيم "فكرة القانون" قدم ما هو أكثر من ذلك. فقد فسر بذكاء العامل المشترك في كل تقرير تاريخي عن المعرفة والانسان ، اعني به: تراجع الاسطورة وتقدم العلم.

في كل خطوة على طريق التاريخ الطويل ، يظهر واضحا ان تحرر الانسان ارتبط بازدهار الاتجاهات العقلية. يتسع دور العقل فيتطور العلم ، فيزداد فهم البشر للطبيعة ، فترتفع قدرتهم على استثمارها ، فيتقدمون ماديا ، فتبرز انعكاسات التقدم المادي على علاقة الناس ببعضهم ، فيعودون الى ذات المعايير العقلية ليضعوا قواعد اكثر تقدما للعلاقة فيما بينهم. وهكذا يتطور المجتمع ماديا واخلاقيا ، ويتسع فهم الانسان لنفسه وعالمه الكبير.

ولفت انتباهي في دراسة لويد اشارته الى دور الرسالات السماوية في اغناء هذا المفهوم ، واسهامها – من خلاله - في تفكيك الاساطير الخاصة بالكون وعلاقة الانسان بالطبيعة.

المسألة على النحو التالي: في قديم الزمان ظن البشر ان الاعاصير والعواصف والسيول وبقية الظواهر الطبيعية المخيفة ، علامات على غضب الآلهة التي تتحكم فيها. اذا غضب اله النار حرك البراكين الخامدة ، واذا نازعه اله المطر حرك السيول الجارفة. لم يجد البشر الضعفاء حيلة للنجاة من غضب الالهة المزعومة ، سوى منحها القرابين والاعطيات. ويحكي القرآن الكريم قصة النبي يونس ، الذي القى به ركاب السفينة قربانا لإله البحر الغاضب ، كي لا يغرق سفينتهم.

زبدة القول ان القلق على الوجود شكل المؤثر الابرز في حياة الانسان القديم. ونعلم ان الانسان القلق على وجوده لا يفكر في شيء سوى النجاة بنفسه.

ركزت رسالات السماء على ان الكون يعمل وفق نظام دقيق ، منطقي وقابل للادراك ، كما ركزت على وحدانية الله ، خالق الكون الرحيم الذي لا يعبث ولا ينتقم من خلقه. مع هذا الفهم الجديد اضافة الى مجموعة الشرائع والقيم الاخلاقية ، تخلص الانسان من قلق الفناء والخوف من طغيان الطبيعة وآلهتها المزعومة ، وبدأيفكر في السيطرة عليها واستثمارها. ومن هذه النقطة بالتحديد تحرك قطار العلم والتقدم في مختلف الاتجاهات.

تاريخ التقدم الانساني إذن هو تاريخ الخلاص من الخرافة ، ونفي الحتميات الموهومة والمسلمات الجامدة ، وتكريس حاكمية العقل وفوقية العلم ، انه قصة الانتقال من رهبة الطبيعة الى استثمارها والتحكم فيها.

لا يخلو العالم من بواعث القلق ، ولن يستريح الانسان من التوتر. لكن الفارق بعيد وجذري بين قلق سببه العجز ازاء الطبيعة القاهرة ، وقلق منشؤه تمرد الانسان على واقعه ، وسعيه للتحكم في حياته وعالمه. القلق الاول يحيل الانسان الى الهروب نحو الوراء ، اي الخرافة وتغييب العقل ، بينما يحيله القلق الثاني للهروب نحو الامام ، اي الهجوم على المشكلة والبحث في عقله وعالمه عن حلها.

مثل بقية الاديان السماوية ، اراد الاسلام تفكيك الخرافة وعقلنة الفهم البشري للعالم ، وأكد على استثمار الطبيعة. لكن – لسبب ما – فان المسلمين قرروا في ازمان الانحطاط ، ان الطبيعة والدنيا كلها لا تستحق العناء. قرر جمهورهم ان الحياة الدنيا ظرف مؤقت ومهلة قصيرة في انتظار الحياة الاخرة. لم يعد المسلم قلقا من بؤس الحياة وتخلفها ، وهو لا يرى نفسه شريكا في بناء حضارة العالم. فكل همه هو النجاة من النار في الحياة التالية.

ترى.. هل يمكن للاسلام ان يسهم في تقدم الدنيا ، واتباعه منصرفون عنها ، مشغولون بما بعدها؟.

 الشرق الاوسط الأربعاء - 12 صفر 1439 هـ - 01 نوفمبر 2017 مـ رقم العدد [14218]

http://aawsat.com/node/1069596

25/10/2017

الخلاص هنا والخلاص هناك


في 2005حلت الذكرى المئوية لصدور كتاب ماكس فيبر "الاخلاق البروتستانتية". ولهذه المناسبة ، كتب المفكر الامريكي فرانسيس فوكاياما ان ذلك الكتاب جعل كارل ماركس يقف على رأسه غضبا. نعلم طبعا ان ماركس لم يكن حيا يومها كي يقف على رأسه. لكن طروحات فيبر  كانت نقيضة لموقفه من الدين ، سيما مقولته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" وقد خدمت الاتجاه المتشكك في الفلسفة الماركسية بمجملها.
جادل ماركس بان غرض الاديان هو تبرير الوضع الراهن للطبقات الدنيا التي هي – في الوقت نفسه - أكثر الطبقات تدينا. ومن هنا فهو يخدم الاثرياء والنافذين ، الذين يضاعفون قوتهم وثرواتهم ، باستغلال جهل الفقراء وقناعتهم بما هم فيه. 
 خلافا لهذا فقد ميز فيبر بين رؤيتين للعالم ، رؤية انسحابية تميل الى تضخيم قيمة الحياة الآخرة وانكار قيمة الحياة الدنيا ، وأخرى تعتبر الآخرة امتدادا للدنيا: من ينجح هنا يفوز هناك ، ومن يفشل هنا يخسر هناك. اطلق فيبر على الرؤية الأولى اسم "النمط الكاثوليكي" ، بينما رأى الثانية متجسدة في العقيدة البروتستنتية، سيما في النسخة المنسوبة للقسيس الاصلاحي جون كالفين.
 جوهر المسألة الدينية في راي فيير هو "الخلاص". الأكثرية الساحقة من المؤمنين ، ان لم نقل جميعهم ، يؤمنون لأنهم يريدون الفوز بالجنة والخلاص من النار. في "النمط الكاثوليكي" بحسب رؤية فيبر ، يتحرك المؤمن بين الخطيئة والندم على ارتكابها ، ثم التوبة منها ، ثم الاعتقاد بنيل الغفران ، ثم تكرار الخطيئة وهكذا. من شأن هذا المسار ان يشحن الانسان بقلق دائم على مصيره. وحين يسائل نفسه عن سبب ارتكابه للاثم ، يخبره التراث المقدس انه الاغترار بالمال وزينة الدنيا او السعي للقوة والنفوذ. وهي من العناصر الرئيسية المحركة لحياة البشر. وهنا تتحول الدنيا  في ذهنه الى رمز للفساد والانحطاط الاخلاقي ، ويظهر الساعون للتفوق فيها كمن يسعى وراء السراب في صحراء لا متناهية.
تقدم البروتستنتية الكالفينية – في المقابل – تصويرا مختلفا ، يربط الخلاص في الآخرة بالنجاح الدنيوي. من أراد الجنة فعليه ان يستحقها بالنجاح في دنياه. من يتعلمون كي يتقنوا عملهم ، ومن يتعلمون كي يكسبوا المال ، يسهمون مباشرة في الارتقاء بمستوى حياة المجتمع ككل. العلماء والباحثون يعلمون الناس كيف يستثمرون الطبيعة التي سخرها الله لهم. والاثرياء يستثمرون أموالهم فيولدون وظائف جديدة تنقذ الناس من ذل الفاقة. اولئك وهؤلاء يسعون لمنفعتهم الخاصة ، لكنهم أيضا يجعلون حياة خلق الله أيسر واكثر نفعا لبعضهم البعض.  العمل في رأي كالفين عبادة ، ولو كان هدفه جمع المال. واتقان العمل سبب لمرضاة الله ، وانتفاع الاخرين بنتائج العمل وسيلة لضمان الجنة.
يعتقد فيبر ان المباديء البروتستنتية لعبت دورا هاما في تعزيز الراسمالية والنمو الاقتصادي. وقد رحب كثيرون بهذا الاستنتاج. لكن باحثين آخرين عارضوه بشدة. ما هو مهم في المسألة – وهذا أيضا رأي فوكوياما – ليس تصوير فيبر للفارق بين نموذجي الايمان ، بل تسليطه الضوء على دور الثقافة الدينية الشعبية في تعزيز العقلانية الجمعية وتمهيد طريق التقدم ، او العكس ، أي ترسيخ صورة اسطورية للعالم ، تحيل قضاياه جميعا الى الاخرة وتضع المؤمن في موقف المنفعل القلق على مصيره.
اظن ان هذا التصوير الفيبري صالح للتطبيق على كل النماذج الدينية. فهو يقدم جوابا مبدئيا على السؤال الأزلي: هل نؤمن بالدين كي نحضى بحياة كريمة ، ام لمجرد الحصول على حياة أفضل بعد الموت. 
الشرق الاوسط الأربعاء - 5 صفر 1439 هـ - 25 أكتوبر 2017 مـ رقم العدد [14211]
http://aawsat.com/node/1062506

18/10/2017

حماية المسار الاصلاحي


أبدأ بما كتبه د. صالح زياد ، وفحواه ان مشروع التجديد الاقتصادي والاجتماعي الذي تتبناه المملكة العربية السعودية حاليا ، يحتاج حاجة ماسة الى إطار ثقافي يعيد صياغة الوعي الشعبي ، على نحو متناغم مع الاستهدافات الفورية والبعيدة المدى لمشروع التجديد (الوطن 8 اكتوبر). وفي يونيو الماضي تحدث الشاعر المعروف محمد زايد الألمعي عن الحاجة الى مشروع سياسي جديد يخدم ذات الهدف.
حديث الرجلين ، وهما من الوجوه البارزة في المشهد الفكري السعودي ، يشير الى نقاش يتسع بالتدريج ، حول الانعكاسات المتوقعة لبرنامج التحول الوطني 2020 ورؤية المملكة 2030. 
https://www.ethos3.com/wp-content/uploads/2017/05/Why-Audience-Members-Need-to-Have-an-Open-Mind.jpg
تضمنت رؤية المملكة 2030 حقيبة مشروعات ، سيؤدي تطبيقها الى تحول عميق في النظام الاقتصادي للمملكة وانماط المعيشة لمعظم سكانها. سنغض الطرف هنا عن تشكك المتشائمين في قدرة المجتمع السعودي على انجاز تحول بذلك الحجم ، لأن عدد ونوعية المشروعات التي دخلت طور التنفيد أو انتقلت من مرحلة القرار الى التصميم ، برهان على اننا لن نعجز عما قدر عليه الآخرون. في كل الأحول فان انجاز نسبة كبيرة من مشروعات الرؤية ، سوف يقود دون شك الى التحول المشار اليه.
معروف بين دارسي التنمية ان التحولات الواسعة في الاقتصاد ونظم المعيشة ، تفرز – بالضرورة – تحولات موازية في الثقافة والقيم الناظمة للحراك الاجتماعي ، إضافة الى التراتب الاجتماعي وأدوار الأفراد.
سنبدا بطبيعة الحال بتجربتنا الخاصة ، سيما خطط التنمية السابقة ، التي قدمت دروسا كثيرة وجديرة بالتأمل ، في طبيعة الحراك الاجتماعي ومساراته. خلال الفترة من 1971 حتى 1985 تبنت المملكة ثلاث خطط للتنمية الاقتصادية ، أثمرت عن تحول عميق في الاقتصاد ومصادر المعيشة ، فضلا عن الثقافة العامة. ونستطيع اليوم معرفة الجانب الاعظم مما جرى على الجبهة الاقتصادية ، نستطيع معرفة الانجازات والاخفاقات ، لأن التركيز على الاقتصاد حوله من موضوع مبهم وعفوي ، الى منظومة معطيات رقمية قابلة للدراسة والتقييم.
لكننا لا نعلم على وجه الدقة ماجرى على حاشية التنمية الاقتصادية الباهرة ، من تحولات اجتماعية وثقافية. بمعنى اننا لا نملك معطيات رقمية واحصائية مناسبة ، تساعدنا على تفسير العلاقة بين التحول الاقتصادي والظواهر الثقافية – الاجتماعية التي شهدتها البلاد في تلك الفترة وما بعدها. لا نعلم – على سبيل المثال – لماذا تضاعف عدد طلبة التخصصات الأدبية والدينية في تلك المرحلة ، بشكل يتجاوز كثيرا التخصصات العلمية ، التي يفترض ان تكون محور التنمية. ولا نستطيع تفسير العلاقة بين تراجع الاقتصاد في النصف الثاني من الثمانينات ، وبين الانتشار المفاجيء للتشدد الديني. ولا نعرف لماذا لم يستطع المجتمع السعودي استنباط حلول فعالة لمشكلاته المعيشية ، عدا تلك التي تقوم بها الدولة.
هذه التساؤلات وأمثالها تسلط الضوء على حقيقة اننا ، في التجربة السابقة ، وضعنا كل الثقل في الجانب الاقتصادي ، وأهملنا ما ينتج عنه من تحولات غير اقتصادية. بديهي ان المقصود هنا ليس "أدوات عرض الثقافة" كالمدرسة والكتاب والمنبر والتلفزيون ، بل جوهر الخطاب الثقافي ، اي فلسفته واستهدافاته ، ومنظومات القيم والتقاليد الجديدة التي تدعم مشروع الاصلاح واهدافه ، وتحميه من التحوير والاختطاف ، او تستثمره في أهداف ايديولوجية خاصة. الخطاب الذي يجعل المجتمع كله شريكا في مشروع الاصلاح وحاميا له وقائما عليه.
نعرف من تجربة البشرية ان الاقتصاد محرك عظيم للتطور. ونعرف أيضا ان استدامة التطور يعتمد كليا على تفاعل المجتمع ومشاركته.
الشرق الاوسط الأربعاء - 28 محرم 1439 هـ - 18 أكتوبر 2017 مـ رقم العدد [14204]
http://aawsat.com/node/1055646

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...