‏إظهار الرسائل ذات التسميات السودان. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات السودان. إظهار كافة الرسائل

04/04/2024

جندية تحمل طفلا

في ابريل من العام الماضي 2023 نشرت قناة سي ان ان الاخبارية الامريكية ، صورة الجندية السعودية "أمل العوفي" وهي تحتضن طفلا وصل للتو الى ميناء جدة ، مع امه التي فرت به من الحرب الاهلية المشتعلة في السودان. اختارت القناة للمادة العنوان التالي: "أمن وأمان وحنان.. مجندة سعودية تخطف القلوب". هذه الصورة جابت العالم شرقا وغربا ، نشرها العديد من الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ، وأثارت تعاطف الملايين من القراء ، لما تظهره من حنان ورحمة ، يتمنى كل البشر ان تكون السائدة في علاقتهم ببعضهم.

تخيل انك مررت بهذا المشهد ، فهل سترى فعل الجندية حسنا ام قبيحا؟. ماذا لو مر بها شخص مسيحي او بوذي او هندوسي او وثني او ملحد ، هل سيحبها ام يبغضها؟.

لننظر الآن في الوجه المعاكس.. تخيل ان هذا الطفل كان غريبا جائعا تائها عن أهله ، ومر به الناس فلم يعبأوا به ولا سألوا عن مصابه ، فكيف سيكون رد فعلك ، كيف سيكون رد فعل أصحاب الاديان الاخرى والذين لا دين لهم ، هل تظنهم سيفرحون بحال الطفل التائه الجائع ، ام سيشعرون بالأسى ويلومون من رآه فلم يأخذ بيده.

اضف الى هذا.. هل سألت انت عن دين الطفل الذي حملته الجندية أمل ، هل سأل الذين شاهدوا صورته في اي صحيفة أخرى عن هذا ، ام فرحوا بفعلها لانه تعبير عن المعاملة التي يستحقها الانسان كانسان ، أيا كان دينه وعرقه وموطنه.

ماذا عن الطفل الآخر ، هل ستسأل عن دينه قبل ان تعطيه شربة ماء ، هل سيسأل اتباع الاديان الاخرى عن ذلك؟.

لقد اخترت هذين المثالين ، كي تتضح بساطة الموضوع الذي ناقشته في الاسبوع الماضي ، اي فعل الخير كجزء من علاقة البشر ببعضهم ، لا باعتباره جزء من اي شريعة او قانون.

-         لكن لماذا نتحدث في هذا الموضوع ونلح عليه... ألا تأمر كافة الاديان بعمل الخير؟.

الواقع ان الاديان – في عمومها – تأمر بفعل الخير لكل انسان ، وتعتبره صفة ملازمة للايمان. لكن حين نأتي للتفاصيل والتطبيقات التي تنظم سلوك الأفراد ، سنواجه تشريعات معاكسة. لدينا قصص كثيرة التداول عن عواقب الاحسان للضعفاء ، وثمة أحاديث نبوية عن امرأة دخلت الجنة لأنها احسنت الى كلب ، واخرى دخلت النار لانها حبست قطة حتى ماتت جوعا. هذا في التوجيه العام. فماذا عن الاحكام الفقهية التي يعتمدها الناس في حياتهم اليومية؟

سترى آراء لفقهاء يأمرون عامة الناس بمنع الصدقة عمن يتبع مذهبا او دينا مخالفا ، ويصنف عندهم كافرا او مبتدعا او غير مؤمن. بل ثمة من يفتي بعدم رد السلام عليهم ، او الاكل من طعامهم او التبسم في وجوههم او افساح الطريق لهم او مشاركتهم في الاعمال.. الخ.

 لا ينبغي الظن ان هذا يقتصر على مذهب دون آخر ، فهي موجودة بهذه التفاصيل وما هو أكثر في جميع المذاهب الاسلامية. وموجود مثلها واكثر في المسيحية واليهودية وبقية الأديان ، على مستوى التنظير او التوجيه. خذ مثلا تبرير المفكر الفرنسي المعروف مونتسكيو (1689-1755) للرق ، حيث يقول:

"لا يلقى في الذهن كون ﷲ البالغ الحكمة قد وضع روحا طيبة في جسم تام السواد.... محال أن نفترض هؤلاء الآدميين من الناس ، وذلك لأننا إذا ما افترضناهم أناسا ، أخذنا نعتقد أننا غير نصارى". مع العلم بان تعاليم السيد المسيح تعتبر بني آدم كافة اخوة في الله.

الاحظ دائما ان الناس يذكرون المباديء العامة حين يجادلون غيرهم. لكنهم عند التطبيق اليومي يعتمدون فتوى الفقيه. ونعلم ان المبدأ العام يعبر عن الايمان وينسب الى الله ، أما الفتوى فتعبر عن هوية الجماعة/المذهب وتنسب الى الفقهاء او الائمة. لهذا اقول ان الخير العام المفصول عن الدين يلتقي مع الايمان بالله ، بينما الخير المخصص (واحيانا الممنوع) يلتقي مع هوية الجماعة/المذهب.

الشرق الاوسط الخميس - 25 رَمضان 1445 هـ - 4 أبريل 2024 م     https://aawsat.news/w24dd

 مقالات ذات صلة

الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

حول الفصل بين الدين والعلم

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دين الانسان

الـدين والمعـرفة الدينـية

الرزية العظمى

شرع العقلاء

عقل الاولين وعقل الاخرين

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

عودة الى نقاش الدور التشريعي للعقل

كي لايكون النص ضدا للعقل

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

نسبية المعرفة الدينية

هكذا خرج العقل من حياتنا

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

 

28/06/2023

الغائب الكبير في السودان وروسيا


اكتب هذه السطور استدراكا على فكرة لصديقي الأستاذ عثمان العمير ، فكرة هي اشبه بالنبوءة عند بعض الناس ، وهي ترتيب منطقي للحوادث عند آخرين. في اوائل مايو المنصرم كتب العمير معلقا على تصريحات قائد ميليشيا فاغنر ، يفغيني بريغوجين ، الذي انتقد فيها وزارة الدفاع الروسية. وتساءل: هل يفضي هذا الى مشهد شبيه بما جرى في السودان ، أي تمرد الميليشيا على حكومة موسكو؟. وهو ما جرى فعلا في الاسبوع الماضي ، وفاجأ الجميع.

المحللون الذين تابعوا الحدثين الروسي والسوداني ، ركزوا على ثنائية القوة العسكرية. فهم يعتقدون ان وجود قوى مسلحة خارج اطار الجيش ، سيفضي – طال الزمن ام قصر – الى صراع بين القوتين. هذا تحليل يسنده تنظير علمي متين ، فضلا عن التجارب الواقعية المتكررة.

لكني أود النظر في زاوية أخرى ، هي حاجة كل بلد لما يسمى في الفلسفة السياسية "المجال العام" الذي يسهم في تحييد القوى المسلحة ومنعها من القفز على السلطة ، او الانخراط في الصراعات السياسية الاهلية.

لا بد من القول ابتداء ان نقاشا كهذا ، يفترض توفر سياق اجتماعي وثقافة سياسية ونظام علاقات ، لا تتوفر عادة في المجتمعات التقليدية. ولهذا فقد يكون النقاش غير ذي صلة بالأوضاع التي نناقشها. لكنني مع ذلك ارى ان طرح الموضوع سيستثير السؤال البديهي: لماذا نجح الآخرون في الوصول الى هذه النقطة ، ولماذا اخفقنا في ذلك؟. ان تفكيرنا في هذا السؤال سيحملنا خطوة الى الأمام. وهذا بذاته جزء من عملية التطور التي نتمناها في مجتمعاتنا.

المجال العام هو الفضاء الذي يتيح للناس مواجهة بعضهم ، ليتشاركوا في الرأي او يختلفوا من دون جبر ولا خديعة. ان السمة الاولى التي تسمح بقيام هذا الفضاء المشترك وانسياب التعاملات فيه ، هو عدم انفراد اي جهة أهلية بقوة فائقة او سلطة مادية او معنوية ، تمكنها من اقصاء الاطراف التي تتبنى رأيا او مصلحة مخالفة للبقية.

وفقا لرأي الفيلسوف المعاصر يورغن هابرماس ، فان المجال العام هو الرحم الطبيعي لما نسميه اليوم "الرأي العام" الذي ينمو ويتبلور في سياق التبادل المتواصل للأفكار والآراء بين المواطنين ، حول القضايا العامة ، بما فيها تلك القضايا الخاصة التي يرى بعضهم ان لها بعدا عاما ، او انها تؤثر على المصالح المشتركة. لا يستطيع المواطنون جميعا ممارسة السلطة ، وليس من الحكمة ان يفعلوا. لكن من المهم ان يشاركوا بالراي في القضايا التي تؤثر عليهم ، او التي يكون أشخاصهم او مصالحهم جزء من موضوعها.

دعنا نتخيل ان هذا المجال كان موجودا في روسيا ، فهل كان بوسع الرئيس بوتين ان يشن الحرب على اوكرانيا ، دون ان تسمع مليون صوت محتج؟. او لنذهب الى الجنوب ، الى الخرطوم التي انتفضت فمهدت الطريق للاطاحة بالرئيس السابق عمر البشير ، اما كانت تستطيع فعل الشيء نفسه مع الذين امسكوا بالزمام بعده ، ولو حصل هذا فهل كانت البلاد تنزلق الى الحرب الأهلية التي نقترب منها اليوم؟. بل لو ذهبنا مسافة ابعد زمنيا: هل كان صدام حسين سيغزو ايران ثم الكويت ، لو كان المجتمع قادرا على الاعتراض العلني على قرار كارثي كهذا؟.

هذه الأمثلة كلها تشير الى مواقف ضرورية من حروب كارثية. لكني اريد الاشارة ايضا الى ان كل مجتمع يحوي العديد من اصحاب الافكار والكفاءات والاشخاص الذين لديهم رؤية مستقبلية ، يمكن ان يكون احدها او بعضها مفتاح الباب نحو التحولات التاريخية الكبرى في مجال العلم او الاقتصاد او غيره.

لا يمكن لهذه الرؤى العظيمة ان تظهر أو تتبلور ، ما لم يكن ثمة فضاء آمن وسليم ، يمنح الاحترام اللازم والقيمة المناسبة لكل رأي او فكرة ، سواء كانت عظيمة حقا او كانت بسيطة.  

الشرق الاوسط الأربعاء - 10 ذو الحِجّة 1444 هـ - 28 يونيو 2023م  https://aawsat.com/node/4405426

مقالات ذات صلة

اربع سنوات ونصف على اقرار نظام الجمعيات الاهلية

ترمب على خطى يلتسن

الجمعيات الاهلية : الترخيص في غياب القانون

حان الوقت كي يقيم المثقفون نواديهم المستقلة

سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة

عرب اوكرانيا وعرب روسيا

في الطريق الى المجتمع المدني

كي تستمر المنتديات الأهلية رافدا للحياة الثقافية

مجتمع الاحرار

المجتمع المدني كاداة لضمان الاستقرار

من المبادرات الثقافية الى الحياة الثقافية

من المجتمع الطفل الى المجتمع المدني: تأملات في معاني اليوم الوطني

21/06/2023

ماذا جرى للسودان ، اين الميل للمسالمة واللين؟




لو سألني أحد عن أكثر العرب ميلا للتسالم وابعدهم عن التنازع ، لما اخترت غير السودان. لا اقصد بطبيعة الحال كل فرد في هذا البلد ، ولا كل فرد في غيره. انما أشير الى السمة العامة التي نطلقها على البلد كمجموع ، دون خشية الاتهام بالمبالغة او التفريط. اظن ان كثيرا من القراء يوافقني في هذا.

مع ذلك ، فان هذا البلد ينزلق الان نحو حرب أهلية ، لا سمح الله.

هل الميل للتسالم مجرد صبغة خارجية ، هل الذي امامنا واقع لا نعرف تفاصيله: مجتمعات عديدة بعضها خشن وبعضها لين ، بعضها ظاهر وبعضها مجهول؟.

هذا سؤال يتعلق بطبائع المجتمعات. وهي – كما نعرف - ليست صفات تنتقل عبر الجينات ، من الآباء للابناء ، كما اعتقد كتاب الازمنة القديمة ، بل هي انعكاس للعقل الجمعي أو الذهنية العامة ، أي محصلة التفاعل المتواصل بين مستخلصات التجربة التاريخية والتوجيه الثقافي او الديني ، إضافة الى تأثيرات الواقع المعاش ، لا سيما الوضع الاقتصادي والسياسي.

حسنا.. لو افترضنا ان الذهنية العامة تتشكل بتأثير عوامل عديدة ، فما هي هذه العوامل وما هو نصيب كل منها في تكوينها النهائي؟. هذا السؤال ضروري كي نفكر في اهداف المعالجة وكيفيتها.

أعلم ان بعضنا سيبادر بتوجيه اللوم للتراث ورواته ودعاته. ولعله يندد بتقصيرهم في حث الناس على التسالم ونبذ العنف. وفقا لهذا الرأي ، فالميل للمسالمة او العنف حالة ذهنية ، واعية او عفوية ، قابلة للتعديل بواسطة التوجيه والإرشاد. البعض الآخر سيختار الاتجاه المعاكس ، فيكرر القول المنسوب لأبي ذر الغفاري "عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج في الناس شاهرا سيفه". وهذا يربط الميول العنفية بالتوتر النفسي المتصل بالفقر المدقع. أي ان الميل للعنف تعبير عن ضعف سيطرة العقل على المشاعر. ثمة فريق سيربط التوتر بالانقسام الطبقي ، لاسيما جمود الحراك الطبقى وفشل الشريحة المتعلمة في انهاء التصنيف القسري ضمن الطبقة الدنيا.

والحق ان هذه جميعا احتمالات واردة. لكن يصعب تحديد أي منها كمؤثر تام. ان السوداني مشهور بالميل للمسالمة واللين. لكن دراسات اجتماعية تظهر ان السودانيين يختزنون – على المستوى الفردي – ميلا قويا للمنازعة. في نهاية 2017 مثلا أظهرت احدى الدراسات ان 60% من السودانيين يفكرون في الهجرة ، وهي نسبة تتجاوز حتى البلدان المنخرطة فعليا في نزاع داخلي ، مثل اليمن والأراضي الفلسطينية وليبيا. ولاحظت الدراسة ان حوالي نصف الذين يفكرون في الهجرة ، لا يمانعون من السفر دون وثائق رسمية ، بعبارة اخرى فهم غير متحفظين ازاء مغامرة ربما تودي بهم للسجن أو الموت ، كما حصل تكرارا لقوارب المهاجرين عبر البحر المتوسط ، والمتسللين عبر الحدود الشمالية الغربية الى ليبيا.

هذا النوع من التفكير لا يعبر عن "عقل جمعي" بل عن شعور فردي بالاحباط واليأس. لكن المشكلة ان هذا الشعور ينتشر بين مئات الآلاف  ، سيما الشباب ، بحيث يتحول تدريجيا الى ظاهرة عامة ، يمكن ان تغير الصورة اللينة التي ذكرتها سابقا ، او على الاقل تشكل ظاهرة فرعية موازية لها.

ما يحدث اليوم في السودان من عنف متصاعد ، قد يكون ثمرة لتفاقم الشعور الفردي بالاحباط. واذا صح هذا الاحتمال ، فان البلد مقبل على انهيار تام للأمن الداخلي ، وتفاقم الاعتداءات على الاملاك الشخصية والعامة ، بشكل غير مسبوق.

الفارق بين التحولات النفسية العامة والفردية ، ان المجتمع يحافظ في الحالة الاولى على قدر من التضامن بين الجميع ، بحيث لا يعتدي احد على الاملاك الخاصة للاخرين. اما في الحالة الثانية فان الانفلات الاخلاقي يجعل الفرد متجردا من اي قيد ، لا يردعه سوى الخوف من السلاح المقابل. 

الشرق الاوسط الأربعاء - 03 ذو الحِجّة 1444 هـ - 21 يونيو 2023        https://aawsat.news/b4gz5

مقالات ذات صلة

 استعادة الايمان بالذات

استمعوا لصوت التغيير

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

 بحثا عن عصا موسى

تفكيك التداخلات

حق الأكثرية

حين تتحول العلمانية الى ضرورة

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

الفقر والإحباط والغضب

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

المال كوسيلة لتبريد التوترات المحلية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

من الحلم الى السياسة

من تديين السياسة الى تسييس الدين

من جيل الى جيل

هكذا نتغير... مختارين او مرغمين

هوية سائلة؟

وعي المستقبل

وقت للأسى: نهاية السودان كما عرفناه

 

03/11/2021

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها


قرأت قبل مدة دعوة لامام مسجد في قرية من قرى السودان ، فحواها ان هذه القرية التي يسكنها بضع مئات ، تشكو من العطش ، لافتقارها الى مضخة لاستخراج الماء من البئر. وان الرجل يدعو كل من وصله الخبر ، لمساعدة اهالي القرية في شراء المضخة العتيدة.

في وقت مقارب قرأت قصة ويليام كامكوامبا ، وهو فتى من قرية صغيرة غرب جمهورية مالاوي الافريقية. يقال ان هذا الفتى قلب المشهد في قريته رأسا على عقب ، حين صنع مولدا للكهرباء من طاقة الرياح ، فوفر لهم الاضاءة ومضخة الماء التي مكنت الأهالي من العودة للزراعة ، بعدما كاد الجفاف الشديد ان يودي بمصدر عيشهم الوحيد.

لم يكن الأمر سهلا. فحين اخبرهم ويليام عن فكرة مولد الكهرباء ، ضحكوا عليه ، وحين بدأ في جمع الاخشاب ولحاء الشجر وقطع السكراب والعجلات المكسورة ، غضبوا منه. لكنهم في نهاية المطاف رأوا المصابيح تضيء والماء يتدفق من فم المضخة.

هذا الحادث جعل كل شخص في تلك القرية ، يعيد النظر في طريقة حياته ونظرته الى نفسه ومن حوله. وعندئذ تحولت القرية الى محج للباحثين عن فكرة مبدعة أو إلهام.

كيف نفهم الفرق بين المثالين ، وأي معيار نعتمد في المقارنة بينهما؟.

دعني أذكر القاريء بقصة "الدروشة" التي نقلتها عن المرحوم مالك بن نبي في مقال سابق. وكان الاستاذ مالك يحذر من الانزلاق الاعمى الى ما اسماه الدروشة ، التي احد تمثيلاتها هو ربط التحولات المادية في العالم ، بالممارسات التي تحمل طابعا روحيا. من ذلك مثلا الاعتقاد السائد بأن التزام الناس بالشعائر الدينية ، أو حتى اعلان تطبيق الشريعة في بلد ما ، أو وصول أشخاص معروفين بالتدين الى سدة الحكم ، سوف يؤدي بصورة شبه اوتوماتيكية ، الى تحول في الحياة والاقتصاد ، بحيث تتنزل النعم والبركات على الناس من دون سعي ولا حساب. وذكرت يومذاك الآية المباركة "ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض" التي راج الاستشهاد بها بعد اعلان الجنرال ضياء الحق تطبيق الشريعة الاسلامية في باكستان سنة 1979 ، ومثله انقلاب السودان سنة 1989 وانتصار الثورة الايرانية في 1979 وانتصار حركة طالبان في 1996. ونظير هذا ما قرأناه قبل حوالي شهر ، من ان معدلات الجريمة في كابل ، عاصمة افغانستان ، وصلت الى الصفر منذ ان سيطرت عليها حركة "طالبان".

والذي نعلم طبقا لما يتوفر من احصاءات وأرقام ، فضلا عما نراه عيانا ، ان جميع البلدان المذكورة ، لم يتحسن حالها بعد اعلان الشريعة او صعود الاسلاميين الى السلطة ، بل الذي حدث هو العكس تماما ، فقد تدهورت معايش الناس وتعثر الاقتصاد الوطني ، فبات أشد ارتباطا بالخارج ، كما بات الناس اقل رضى بحالهم ، وأشد رغبة في تغيير سياسي واجتماعي واسع النطاق.

دعنا ننظر في مثال القرية السودانية التي طلب امامها العون من الآخرين ، مقارنة بالقرية الملاوية التي شهدت تجربة في استنباط حلول محلية للمشكلات ، اعتمادا على المعرفة وعمل الذهن ، و – بطبيعة الحال – الارادة القوية. اي المثالين أقرب الى حقيقة الايمان ، ايهما أقرب من مراد الخالق في الخلق ، الامام الذي طلب العون من الناس ، ام الفتى الذي ابتكر الحل معتمدا على عقله أولا وعلى ما يتوفر من مواد في البيئة المحلية؟. اي المثالين اقرب الى معنى الدروشة وايهما اقرب الى معنى بركات السماء؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 28 شهر ربيع الأول 1443 هـ - 03 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15681]

https://aawsat.com/node/3281901/

مقالات ذات صلة 

 اختيار التقدم

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

 تأملات في حدود الديني والعرفي

تفكيك التداخلات

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

خطباء وعلماء وحدادون

دعوة التجديد بغيضة.... ولكن

رأي الفقيه ليس حكم الله

 شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

كيف نتقدم.. سؤال المليون

المكنسة وما بعدها

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

هيروهيتو ام عصا موسى؟

15/09/2021

تفكيك التداخلات



بعضنا يلح على ان الدين شرط لنهضة العرب. وبعضنا يقول بعكس هذا: ان ترك الدين شرط للالتحاق بركب الحضارة. ثمة فريق ثالث – وانا منهم – ينفي وجود علاقة سببية بين الدين والتقدم. بمعنى ان الدين يمكن ان يحفز المؤمنين للنهوض العلمي ، ويمكن ان يثبطهم. يمكن للدين ان يتعايش مع التخلف او مع التقدم من دون فرق تقريبا.

عمر البشير ايام قوته

كان المرحوم مالك بن نبي بين المفكرين الذين أكدوا على علاقة الدين بالنهضة. لكنه في التحليل النهائي جعل تلك العلاقة مشروطة بعوامل خارج اطار الدين. وهو يقول ان الدين لم يخرج من النفوس ، لكنه فقد فاعليته (مالك بن نبي: وجهة العالم الاسلامي ، ص 32). ويستشهد بمثال في غاية البساطة: كانت امهاتنا يعانين من الم الظهر يوميا حين يستعملن المكنسة القصيرة ، لكن ايا منهن لم تفكر في اضافة عصا طويلة كي تواصل التنظيف من دون ان تنحني. لقد انتظرن عشرات السنين ، حتى جاء الاوروبيون بالمكنسة ذات العصا الطويلة ، التي خلصتهن من الالم (مالك بن نبي: وجهة العالم الاسلامي، ص 141).

لم يكن الدين حاجزا لهن عن التفكير في هذه المشكلة الصغيرة وحلها. لكن الدين لم يكن محفزا ايضا ، رغم ان مالك كان يراه عامل ربط مناسبا بين العناصر الثلاثة التي تحتاجها الحضارة ، اي الانسان والتراب (الطبيعة) والزمن.

وفي تجارب البشر أمثلة عديدة عن مجتمعات متدينة وأخرى غير متدينة ، نهضت او تخلفت. فلا الدين منع الذين ارادوا النهوض ولا هو الذي حفز الخائبين. وأما ما يقال من نهوض العالم الاسلامي في عصره القديم ، فلاشك ان الاسلام كان له دور ايجابي ، لكن هذا لا يثبت كون الدين علة للنهضة ، انما يثبت ان الدين لايمنع النهوض. ولهذه المناسبة أود تنبيه القاريء العزيز ، الى رؤية الفيلسوف ديفيد هيوم القائلة بالتمييز بين اقتران شيئين مع بعض ، زمنيا أو مكانيا ، وبين كون أحدهما سببا أو علة للآخر. انني لا اذهب مذهب هيوم في  انكار مبدأ السببية في غالب حالاته. لكن فيما يخص موضوع نقاشنا ، فان تكرار التجارب يؤكد ان علاقة الدين بالنهضة ، لم تصل حتى الى مرتبة التقارن او التزامن ، فضلا عن السببية.

ان غرضي من التأكيد على هذه المسألة ، هو تفكيك التداخلات المفتعلة بين الدين والظواهر الحياتية الأخرى. وأتذكر في هذه اللحظة ، خطبة للرئيس السوداني السابق عمر البشير ، بعيد استيلائه على الحكم في 1993 افتتحها بالآية المباركة "ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض". فقد لاحظت ان الصحافة الإسلامية احتفت بهذا الكلام ايما احتفاء ، ورأيت كثيرا من اشقائنا السودانيين في غاية التفاؤل ، بأن البلد واقتصاده يتهيأ لنهضة واسعة. لكنا نعلم ان السنوات التالية شهدت تدهور اقتصاد السودان ، وخسارة نصفه الغني بالنفط والثروات الطبيعية الأخرى.

كان مالك بن نبي قد حذر من هذا الربط اللاعقلاني ، واعتبره نوعا من "الانقياد الاعمى الى الدروشة[1]". اني أرى كثيرا من المؤمنين اليوم ، يظن ان مجرد التدين سيؤدي الى التقدم والحضارة ، وان عدم بلوغنا هذه المرتبة سببه قلة إيماننا. لكن هذا مجرد وهم او "دروشة". ولو كان صحيحا لكانت قندهار هي عاصمة العلم والمال في العالم وليست واشنطن.

ثمة من يظن ان نفي العلاقة المذكورة تهوين من شأن الدين الحنيف ، وان تبجيله يقتضي نسبة كل محبوب اليه. واقع الامر ان كل شيء في هذه الحياة له دور يؤديه وغاية يصل اليها ، فما الداعي لربط التبر بالطين؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 8 صفر 1443 هـ - 15 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15632]

https://aawsat.com/node/3189656/

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

خطباء وعلماء وحدادون

 شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

الطريق السريع الى الثروة

  يبدو ان المعلوماتية تتحول بالتدريج الى اسرع القطاعات نموا في الاقتصاد الوطني لكل بلدان العالم تقريبا. (في 2021 بلغت قيمة سوق المعلوماتية ...