09/10/2025

من اقتصاد السوق الى مجتمع السوق

 

في سبتمبر الماضي نشر د. فهد الخضيري ملاحظة للطبيب المصري د. يحي النجار ، يقول فيها انه شهد سيدة فقيرة بحذاء بلاستك تدخل عيادته ، فيصرف خمس دقائق على فحصها ، فتدفع له ما يكسبه زوجها من عمله في أسبوع عمل كامل. ثم يستدرك ان هذا عمل تستحي منه الإنسانية. ولهذا قرر جعل فحص الفقير والطفل اليتيم مجانيا. وقد حصدت الرسالة تفاعلا استثنائيا ، من جانب رواد منصة التواصل الاجتماعي "اكس".

قبل هذا ، في 26 فبراير الماضي ، عثر عامل صيانة ، بمحض الصدفة ، على جثة الممثل الشهير جين هاكمان ، الذي توفي بعد أسبوع تقريبا من وفاة زوجته في الغرفة المجاورة. يرجح ان الزوجة توفيت في 11 فبراير وتوفي هاكمان ، الممثل الحائز على جائزة الاوسكار مرتين ، في 17 فبراير. الجيران الذين تحدثوا للصحفيين ، قالوا ان الزوجين كانا منعزلين ، نادرا ما يزورهما أحد ، رغم ان هاكمان لديه ثلاث بنات من زواج سابق ، وبالطبع ، الكثير من زملاء وأصدقاء العمل. لكن أيا من هؤلاء ومن الجيران ، لم يفتقد الزوجين ولم يسأل عنهما طيلة أسبوعين على الأقل.

جين هاكمان

سيدة على صلة بالزوجين ، قالت فيما يشبه رثاء الذات ، ان حياة الناس تحولت الى ركض وراء المال. حتى العلاقة مع الاهل والأصدقاء باتت تقاس بالعائد او الفاقد المالي ، وكذا الخدمات البسيطة التي اعتاد الناس تقديمها لبعضهم ، تأكيدا للمحبة او الشفقة. فاذا بلغ الشخص خريف العمر ولم يعد مفيدا تجاريا ، فسوف تنتهي حياته الاجتماعية ، وسوف ينتقل الى هامش الحياة ، مثل سيارة قديمة تنقل بعد سنين من الاستعمال ، الى ساحة التشليح او حاشية الطريق.

الذي يجمع بين قصة الطبيب النجار وقصة الممثل هاكمان وامثالها ، هو ان الوقت الاجتماعي بات سلعة. أناس كثيرون باتوا يأبون إنفاق وقتهم في أشياء ضرورية جدا لأشخاص آخرين. يمكن ان يكون هؤلاء الاخرون أبا او اخا او صديقا او مريضا فقيرا او طفلا ، او أي شخص وضعته الحياة في طريقنا ، فهل نحن مستعدون لابطاء حركتنا ، او حتى التوقف من أجل ان نتعرف عليه او نساعده او نعطيه أملا؟.

يعتقد البروفسور مايكل ساندل ، وهو فيلسوف أخلاقي معاصر ، ان المشكل ليس البخل او قلة الأدب او قلة الاكتراث ، بل الانزلاق الذي لا نلاحظه بدقة ، من شعار "اقتصاد السوق" الى واقع "مجتمع السوق".

خلال الخمسين عاما الماضية ، بات اقتصاد السوق قرينا للازدهار والرفاهية. بل ان الفيلسوف المعاصر روبرت نوزيك ، اعتبره سبيلا وحيدا لاقامة العدالة في توزيع الثروة والفرص. وبشكل عام ، ورغم كل عثرات هذا النموذج ، فان التجربة العملية تؤكد فرضية انه الآلية الأكثر كفاءة لتنظيم الإنتاج والتوزيع ، والعون الأكبر لتحويل الأفكار الى محرك للابتكار والثروة.

معظم الناس يدعمون هذه الفكرة. لكن بعضهم أشار دائما الى مجال لا يمكن لاقتصاد السوق ان يعالجه بشكل جيد. خذ مثلا ظاهرة المشردين الذين تعج بهم المدن الكبرى في القارتين الامريكية والأوروبية ، الذين يعيشون في الخرائب او ربما على الرصيف ، لأنهم لا يملكون سكنا ولا المال اللازم لاستئجار مسكن. وخذ أيضا رفض المستشفيات الخاصة علاج حالات طارئة لان المريض ليس مسجلا في نظام التامين الصحي ، حتى ان بعض الناس توفوا في انتظار الموافقات وتأمين الأموال..

يتحول المجتمع الى سوق ، وتمسي الحياة الاجتماعية امتدادا للسوق ، اذا بات كل شيء يشترى بالمال ، بما فيه الصداقة والمحبة والتعاطف والوقت الاجتماعي والكرامة والفرح والحزن والألم والسعادة. قد يبدو هذا الكلام مبالغا نوعا ما. ولحسن الحظ فلازال المجتمع العربي بعيدا عن هذه الحالة. لكن انظر لما تنشره الصحافة ومنصات التواصل الاجتماعي ، من امثلة شبيهة لما ذكرته في السطور السابقة ، ثم سائل نفسك عن مصدر هذه الحالات واسبابها.. سترى الجواب واضحا تماما.

الشرق الاوسط - الخميس - 17 ربيع الثاني 1447 هـ - 9 أكتوبر 2025 م   https://aawsat.com/node/5195279

 

02/10/2025

العقل في المرحلة الأوروبية

العقل المعاصر نتاج لعصر النهضة الأوروبية. لكنه لم ينحصر في أوروبا ، بل بات أقرب الى نموذج كوني ، يمثل حقيقة الانسان في هذه المرحلة من تاريخ البشرية. أعلم ان غير الأوروبيين لا يرتاحون لهذه النسبة. فهي تقلل - ضمنيا - من قيمة اسهامهم  في انتاج الفكر الإنساني والتجربة التاريخية للبشر بشكل عام. وقد يظن بعض المسلمين ان الفارق الديني هو المحرك لكلا الموقفين ، الاستهانة الغربية والرد عليها. لكني وجدت مفكرين من خارج هذين السياقين يعبرون ، صراحة او ضمنيا ، عن موقف مشابه. من يقرأ اعمال امارتيا سن ، الفيلسوف والاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل ، سيلاحظ ان الثقافة الهندية حاضرة بكثافة في كل كتاباته تقريبا ، رغم انتمائه للتقليد العلمي الأوروبي.

أمارتيا سن

أردت البدء بهذا التمهيد تنبيها للقاريء الى حدود التعميم الذي سيظهر في ثنايا المقال. والحق اني انظر لتطور مفهوم العقل وانتسابه للحضارات المتعاقبة ، من زاوية لاتتصل ابدا بتقييم تلك الحضارات والمراحل. اعتقد ان تاريخ البشر تجربة واحدة ممتدة ، تتنوع وتتصاعد باستمرار ، وتتشكل في إطارات مختلفة ، لغوية او جغرافية او دينية ، بحسب مايتوفر من عوامل بعث أو خطوط انكسار. من هنا فان الأديان والحضارات والحروب والتجارب العلمية ، تشكل كلها طبقات في بناء واحد. لا شك عندي ان جانبا مهما من نضج الثقافة الإسلامية القديمة وعمقها ، ثمرة لاتصال المسلمين بالثقافات السابقة ، كاليونانية والصينية والهندية والفارسية والافريقية وغيرها. وبالمثل فان الثقافة الاوربية المعاصرة امتداد لتلك الثقافات ومنها الإسلامية. نعلم أيضا ان قابلية الثقافة للتطور ، رهن بقدرتها على التفاعل مع الثقافات المختلفة وإعادة انتاج مفاهيمها ضمن نسيجها المحلي. ولهذا السبب خصوصا ، ذكرت في كتابة سابقة ان ضعف النشر العلمي باللغة العربية ، يرجع في جانب منه ، الى ما أظنه تعقيدا مبالغا فيه للشكل اللغوي والقواعد النحوية والبلاغية ، بحيث باتت فرصة الكتابة العلمية بالعربية ، قصرا على من يجيد قواعدها النحوية والبيانية اجادة تامة.

بالعودة الى صلب الموضوع ، فان العقل المعاصر  يمتاز بسمات أساسية يشكل مجموعها خطا فاصلا عن عصور العقل السابقة. أذكر هنا ثلاثا من تلك السمات:

1-     الفصل بين المعرفة والقيمة. اذ لم يعد التفكير في القضايا ، متقيدا بقيمتها المستمدة من موقعها الاجتماعي او التاريخي او الديني. ربما يتقيد الباحث بقيمه الخاصة في مرحلة مابعد الاستنتاج ، لكنه في مرحلة الملاحظة والبحث وصناعة الفكرة ، ينبغي ان يتحرر من كل قيد. تتعاضد هذه المقولة مع قاعدة ان حرية التفكير والاعتقاد والتعبير ، جزء أساسي في مفهوم كرامة الانسان وقيمته كموجود عاقل.

2-     العقل نفسه ينظر اليه الآن ككون مستقل عن الأرضية الثقافية التي ولد فيها (او بالأحرى ينبغي ان يكون هكذا). لكن نتاج العقل لا يعد مطلقا ولا مستقلا. بات متفقا عليه ان العقل يتشكل بتأثير تجربة الانسان الحياتية ، التي تعكس الى حد كبير شروط بيئته وما يتجاذب فيها من تيارات. من هنا فان نتاج العقل لم يعد تعبيرا عن الحقيقة ، بل هو معرفة مؤقتة او رأي شخصي ، قد يتحول الى توافق عام اذا عبر القنوات الخاصة بتعميم الأفكار ، كمؤسسات الصناعة والبحث العلمي والهيئات التشريعية.

3-     التمييز بين استقلال العقل في الأصل ، وتبعيته الواقعية لشروط البيئة الاجتماعية ، تظهر أهميته في التمييز الضروري بين دورين يقوم بهما ، دور يسمى "العقل العملي" ووظيفته فيه هي ربط الانسان بما حوله وتيسير حياته ، أي ادراجه في شبكة الأعراف السائدة ، ودور يسمى "العقل النظري" ووظيفته نقد اعراف وتقاليد البيئة والثقافة ، ومحاولة تحرير الانسان من قيودها بإنتاج بدائل لها ، تتحول بالتدريج الى تقاليد في دورة اعلى ، وهكذا. العقل اذن تابع في مرحلة ومتمرد في مرحلة تالية.

 هذا ما اتسع له المقام. ولعلنا نعود للموضوع في قادم الأيام.

 الشرق الاوسط الخميس - 10 ربيع الثاني 1447 هـ - 2 أكتوبر 2025 م   https://aawsat.com/node/5192734

مقالات ذات صلة

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح
اصلاح العقل الجمعي
اناني وناقص .. لكنه خلق الله
تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة
الثقافة كصنعة حكومية
الرزية العظمى
العقل الاخباري
عقل الصبيان
العقل المساير والعقل المتمرد
العقل المؤقت
ما رايك في ماء زمزم؟
من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي
من تقليد الى تقليد ، عقل معماري وعقل هدام
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟
اليد الخفية التي تدير العالم

من اقتصاد السوق الى مجتمع السوق

  في سبتمبر الماضي نشر د. فهد الخضيري ملاحظة للطبيب المصري د. يحي النجار ، يقول فيها انه شهد سيدة فقيرة بحذاء بلاستك تدخل عيادته ، فيصرف خم...