‏إظهار الرسائل ذات التسميات بيكون. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بيكون. إظهار كافة الرسائل

11/09/2025

هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟

 النقاش الدائر حول "اصنام العقل" الأربعة ، الذي عرضنا طرفا منه في الأسبوعين الماضيين ، محركه سؤال محوري ، شغل بال المفكرين قرونا متطاولة. فحوى السؤال: هل يمكن الاعتماد التام على العقل في انتاج القيم الأخلاقية؟.

سقراط

افترض ان غالبية الناس ، سيضحكون ساخرين. ولعل بعضهم يقول: ان لم نثق بالعقل ، فما الذي نثق فيه ، وهل توجد وسيلة أخرى لانتاج المعرفة والمعنى ، غير العقل؟.

الحقيقة ان أناسا آخرين قد أجابوا فعلا ، قائلين انه يوجد مصدر آخر اعلى من العقل ، أو ان العقل بحاجة الى ميزان يرجع اليه ، كي يتحقق من صحة احكامه.

من الواضح ان الشك في كفاية العقل ، راجع لوجود عوامل تؤثر عليه ، فتجعله منحازا في أحكامه او متعثرا في فهمه للموضوعات. إن "أصنام العقل" المذكورة ، مثال على تلك العوامل التي تأخذ العقل بعيدا عن الصواب. وقد أسلفنا القول بان بعضها كامن في نفس الانسان ، وبعضها في محيطه الثقافي/الاجتماعي ، وهي تتعاضد في توجيه العقل نحو مسار محدد ، منحاز غالبا ، وبالتالي فلن نتيقن من سلامة ما يتوصل اليه.

نعرف من الفلسفة القديمة رؤية سقراط وتلاميذه ، التي أقامت منظومات الاحكام والقيم على أرضية القانون الطبيعي. وخلاصة هذه الفكرة ان العالم نظام متقن ، تتحرك اجزاؤه في مسارات دقيقة ، كي تحقق غايات وأغراضا ذات أهمية لحياة البشر. هذه الغايات هي التي تضفي على النظام قيمته وهي التي تخبرنا عن حقيقته.

انطلاقا من هذه الرؤية ، قالوا ان أفضل نظام اجتماعي ، هو الذي يستلهم مسارات النظام الكوني وأغراضه. بعبارة أخرى فاننا نحكم بصحة المعارف التي ينتجها العقل ، إذا تلاءمت مع نظام الطبيعة ، الذي نعرف سلفا انه صحيح وكامل.

بنفس المقياس ، فقد افترض هذا التيار الفلسفي ان القيم الأخلاقية الكبرى ، موجودة في نظام الطبيعة ، من قبل ان يتوصل اليها الانسان. لان الاخلاق في أبسط صورها ، هي الملاءمة بين ما يريد الانسان فعله ، وبين ما ينبغي له فعله ، أي بين الصورة الواقعية والصورة النموذجية للفعل. هذه الصورة النموذجية هي التماثل التام مع متطلبات النظام الطبيعي. من هنا قالوا بأن العقل لا ينتج القيم الكبرى والاخلاقيات ، بل يستمدها من النظام الطبيعي.

انتقلت هذه الرؤية الى المجتمع المسلم ، حين انفتح على علوم الأمم الأخرى. وقد أثرت بقدر ما. لكن المفكرين المسلمين طوروا نموذجا بديلا ، حين أضافوا الوحي كمصدر للمعرفة والاخلاقيات ، وقللوا بقدر ما من دور النظام الطبيعي. ثم انقسم الفكر الإسلامي الى اتجاهين: اتجاه "اخباري" شدد على محورية الوحي ونصوصه الصريحة ، واتجاه اعلى من شأن العقل ، وربما قدمه على نصوص الوحي. وابرز رموز هذا الاتجاه هم "المعتزلة" الذين قالوا ان العقل دليل كامل ، ولولاه ما عرفنا الله ولا وجوب طاعته ، ولا عرفنا ضرورة الرسل  وصدق الرسالات. ان الله خلق العقل وجعله رأس كل الموجودات في العالم ، وأرجع اليه قيمة الانسان. فالانسان العاقل هو المخاطب بأوامر الله وتعاليمه ، وهو خليفته في أرضه. كما قالوا بان الخلق والرزق والعقائد واحكام الشرع ، ترجع في منطلقاتها وبنيتها ومبرراتها ، الى قواعد علمية او منطقية يقبلها العقلاء. ولذا فالعقل مصدر منفرد للتشريع. ولتبرير هذا الرأي الخطير ، توسعوا في التأسيس المنطقي لقاعدة "التحسين والتقبيح العقليين". وخلاصتها ان كل فعل بشري ينطوي في ذاته على قبح او حسن ، قابل للادراك بواسطة العقل. فاذا تعرف  العقل على حسن الفعل أو قبحه ، بات قادرا على الحكم بالمكافأة او العقاب. وهذا هو جوهر فكرة الامر والنهي الإلهي.

هذا ما اتسع له المقام اليوم ، وآمل ان نعرض رؤية الاخباريين ، والمرحلة الأوروبية في قادم الأيام بعون الله.

الشرق الأوسط الخميس - 19 ربيع الأول 1447 هـ - 11 سبتمبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5185007

مقالات ذات صلة

 

04/09/2025

هل جربت صنم الكهف؟

اتخيل ان نظرية "الاصنام الأربعة" التي اقترحها فرانسيس بيكون ، أثارت جدلا واسعا يوم نشرت اول مرة. لم اكن حاضرا يومئذ كي أرى بعيني (القراء الأعزاء يعرفون هذا بالتأكيد) كما لم اقرأ شيئا يؤكد واقعة كهذه. لكني اعلم أن الأمس مثل اليوم: كل رأي يعارض الأفهام السائدة ، سيثير شيئا من الجدل ، كثيرا أو قليلا.

لعل القراء الأعزاء يذكرون قول بيكون بأن عقل الانسان يتأثر دائما بعوامل من داخل النفس ومحيطها ، أبرزها ميل البشر لتعميم الأحكام التي يتوصلون اليها دون تمحيص. وهو ما اطلق عليه اسم صنم القبيلة ، ثم صنم الكهف ، وهو الميول الشخصية الناتجة عن انتماء الفرد الاجتماعي او مصادر ثقافته او مصالحه وبقية المؤثرات التي تسهم في تشكيل شخصيته. الثالث والرابع هما صنم السوق وصنم المسرح ، وسنعرض لهما في قادم الأيام.

افترض ان المجادلة الرئيسية التي واجهت نظرية بيكون هي: اذا كانت الاصنام الأربعة تؤثر على العقل بقدر يؤدي لتغييبه وتعطيل فاعليته ، حتى يعجز عن تمييز الحقائق ، فكيف نستعين به لاحقا ، في تفكيك الأفكار والتصورات وإعادة تركيبها ، وكيف يستطيع فرز المعلومات الصافية من تلك المشوبة بالمؤثرات السلبية؟.

يزعم معارضو رؤية بيكون بأنها تنطوي على تعارض داخلي ، كأنها تقول للمريض الذي تسمم بسبب الاناء الملوث: ضع مزيدا من الدواء في هذا الاناء نفسه وستشفى. فهل يمكن للوعاء الذي تسبب في مرضي أولا ، ان يكون أداة شفائي تاليا؟. فكذلك حال العقل المتأثر بالأوهام والأصنام: كيف له ، بعدما تأثر وانحرف بتفكيره عن الجادة ، ان يعود للصواب فيصلح عالمه؟.

لدى فرانسيس بيكون جواب على هذا. فقد استعار – كما أظن - اسطورة الكهف التي اقترحها افلاطون ، لتصوير المشكلة والحل.  خلاصة الأسطورة ان أشخاصا سجنوا مقيدين في كهف بابه وراء ظهورهم. يدخل الضوء من الباب ، فاذا تحرك الناس خارج الكهف انعكست ظلالهم على الجدار المقابل للباب ، ومر الزمان وسجناء الكهف لا يرون غير حركة الظلال على الجدار ، فاستقر في انفسهم ان هذه الظلال هي  التصوير الكامل للحركة الجارية في العالم. في يوم من الأيام ، أفرج عن أحدهم ، فلما خرج رأى حركة الناس مختلفة تماما ، في حجمها واتجاهاتها وتأثيرها ، وان الظلال التي كانوا يرونها في الكهف لم تكن سوى طرف ضئيل جدا من انعكاس تلك الحركة ، ولا تكشف حقيقتها. فعاد واخبر زملاءه في الكهف ، فلم يصدقوه ، وافترضوا ان زميلهم أصيب بلوثة بعدما خرج من "عالم الكهف". فكيف يصدقون ناقلا ويكذبون اعينهم؟. ولعلهم تمثلوا بقول العربي القديم: 

"يابن الكرام الا تدنو فتنظر ما 

قد حدثوك فما راء كمن سمعا".

تشير اسطورة الكهف الى امتلاء ذاكرة الانسان وعقله بالمعلومات المتحيزة التي تبني له عالما متوهما ، لكنه لا يشك أبدا في انه عالم حقيقي ، لأنه يراه بعينه (الصحيح انه يرى ما يصوره عقله ، لكنه عاجز عن التمييز بين الوهم والواقع).

ما يتسلل الى ذهنك من تفاعلات المحيط واللغة والثقافة السائدة والأعراف ، وما تصنعه من أفكار من خلال الدراسة والقراءة والتجارب الشخصية ، كلها تتعاضد في تكوين ذاكرتك وعقلك. هذا ما يسميه بيكون "صنم الكهف". أي المنظومة أو الكهف الذي يحبس عقلك.

-         كيف ينفتح العقل إذن ، كيف يكتشف انه يسير بالاتجاه الخطأ ، كيف يميز بين الوهم والواقع؟.

جواب افلاطون: اذا خرج من الكهف ، سيرى عوالم مختلفة ، سيضطر للمقارنة بين ما عرفه سابقا وما يراه الآن. سوف يثور الشك في ذهنه ، وسيبدأ العقل في إعادة ترتيب البيانات ومقارنتها.

الخلاصة ان العقل يبدأ في استعادة دوره ، حين يتحرر من الاتجاه الواحد والمحيط الواحد والخطاب الواحد ، حين يرى البدائل ويحصل على إمكانية المقارنة والاختيار. لعل كلا منا يسائل نفسه الآن: هل انكشف له كهفه ، وهل يحاول الانعتاق منه؟.

الشرق الأوسط الخميس - 12 ربيع الأول 1447 هـ - 4 سبتمبر 2025 م  https://aawsat.com/node/5182511

 

مقالات ذات صلة

 

04/01/2023

ما رايك في ماء زمزم؟


في ماضي الزمان ، كان يقال ان التجربة برهان قطعي على صحة الفكرة/الفرضية او خطئها. وكانت هذه القاعدة  جارية في العلوم التجريبية والنظرية على حد سواء. لكن هذه الرؤية خسرت قوتها منذ ان نشر فرانسيس بيكون (1561-1626) كتابه "الاورغانون الجديد". في هذا الكتاب تحدث بيكون عن "اصنام العقل الأربعة" التي تسهم في تشكيل ذهنية الانسان ، وتؤثر بالتالي في فهمه للعالم وفي احكامه.

الواقع ان الفكرة كانت معروفة قبل بيكون. لكن عمله رفع وزنها العلمي ، وأوضح مبررات ومسارات تأثيرها الحاسم في تفكير الأفراد. منذئذ بات ثابتا في الدوائر العلمية ان كل تأمل ذاتي ، وكذا التفكير في العالم خارج الذات ، سيكون متأثرا – بالضرورة – بالصور والقناعات التي سبق ان توصل اليها الانسان ، من خلال تجاربه الشخصية ، او انتقلت اليه من محيطه ، او اقتنع بها بعد مكابدات فكرية مقصودة.

خلال القرن العشرين ، جرى التركيز بصورة خاصة على التجارب المتعلقة بالعلوم الطبيعية والتجريبية ، بغرض اكتشاف إمكانية التوصل الى نتائج محايدة ، أي غير متأثرة بخلفية الباحث الذهنية. وكان الاعتقاد السائد قبل ذاك ان الانحياز الذهني مقتصر على العلوم الإنسانية دون الطبيعية والتجريبية ، لانها تتكون وتتطور في الذهن ، بخلاف العلوم الأخرى التي تتكون وتتطور في الخارج ، فلا تتأثر – حسب ذلك الاعتقاد – بميول الانسان. لكن تلك المسيرة انتهت بتوافق عام تقريبا ، على ان الانحيازات المسبقة تترك آثارها على كافة الاعمال العلمية ، نظرية كانت او طبيعية او تجريبية. وقيل ان ذلك التأثير يبدأ منذ الملاحظة الأولية ، ثم المراقبة المقصودة للمواد الخام والتجارب المعملية ، وصولا الى اعلان النتائج. فحين يبدأ الباحث بمراقبة المواد الخام او جمعها ، فانه ينطلق من فرضيات خاصة ، متاثرة بقناعات مسبقة. ان اختيار هذه الفرضيات دون غيرها ، يحاكي في غالب الأحيان ، الميول الرائجة في الاطار الاجتماعي او الاكاديمي للباحث ، بل وحتى ميوله الدينية والسياسية في بعض الأحيان. دعنا نأخذ مثالا على هذا بخبير أوكلت اليه مهمة تحليل "ماء زمزم" للتحقق من القول السائر بان فيها شفاء من الامراض. فاذا كان هذا الباحث مسلما ، فمن المؤكد انه سيدخل في التجربة بنية إثبات فوائد ماء زمزم ، الطبية او غير الطبية. ومن المستبعد ان يبدأ باحتمال ان يكون هذا الماء ضارا بالصحة ، أي بعكس الفرضية التي يريد كافة المسلمين الايمان بها.

حين ينظر الانسان الى شيء ، سواء كان فكرة او مادة او شخصا ، فانه لا يراه بعينيه بل يراه بعقله. انت تفهم الشيء الذي تراه ، لأنك تصورته سلفا في عقلك ، أي وضعت اطارا لفهمه واستيعاب معناه. وفي هذا الاطار لا يختلف الباحث في العلوم عن الشخص العادي ، فكلا منهما يتأثر بمسبقاته الذهنية. ومن هنا فان عدة اشخاص ينظرون الى شيء واحد ، فيفهمه كل منهم على نحو مختلف ، وقد يستمعون الى الخبر نفسه فيتأثر به بعضهم الى درجة البكاء ، بينما يقف الآخرون موقف المندهش ، لأن الخبر لم يلامس قلوبهم او يستثير عواطفهم ، بمعنى انهم لم يدركوا الحمولة التي تنطوي في داخل الخبر ، او ان هذه الحمولة لا تعني لهم شيئا ذا بال.

زبدة القول انك مثلي ومثل كل شخص آخر ، لا تنظر للاشياء نظرة محايدة ، ولا تفكر فيها متجردا من انحيازاتك. هذه الانحيازات ليست شيئا قررته ، بل هو جزء من تكوين عقلك ، وقد ترسخ عبر مراس طويل الأمد. ولذا فان ما تعتبره موضوعيا او حقيقة واضحة ، ليس – في الواقع – سوى تصوراتك الشخصية التي البستها تلك العباءة.

الأربعاء - 11 جمادى الآخرة 1444 هـ - 04 يناير 2023 مـ رقم العدد [16108] https://aawsat.com/home/article/4078766/

مقالات ذات صلة

أصنام الحياة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الصنم الخامس

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

كيف تولد الجماعة

مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان

نسبية المعرفة الدينية

 

20/04/2022

أصنام الحياة

"صنم المسرح" هو العنوان الذي أطلقه الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) على الآراء والتقاليد والعناصر الثقافية الأخرى ، التي نرثها عن أسلافنا ، وتسهم في تشكيل الجانب الأبرز من ذهنيتنا ، اي خلفية سلوكنا وتفكيرنا في الحياة والأشياء.  

كلنا نتأثر بتراث الأسلاف ، فهو الوسط الطبيعي لحياتنا المبكرة. وهو الذي يربطنا بالأشخاص الآخرين في محيطنا العائلي ، منذ لحظة ولادتنا. وحين نشب عن الطوق ، ونبدأ في التعرف على العالم خارج إطار العائلة ، عندها نتعرض لمصادر تأثير أخرى ، أطلق عليها بيكون اسم "صنم السوق".

فرانسيس بيكون

"صنم السوق" هو ما نسميه اليوم الرأي العام  أو الثقافة العامة ، اي الانطباعات الاجمالية التي يحملها غالبية الناس ، وطريقة تعبيرهم عن مواقفهم تجاه ما يحبون وما يكرهون ، ومنها أيضا نظرتهم للآخرين: الزعماء والشخصيات المشهورة ومصادر التأثير الثقافي ، وكذا نظرتهم للحوادث والنزاعات والقضايا المثيرة للاهتمام.

"صنم المسرح" و "صنم السوق" اثنان من أربعة أصنام ، اتخذها الفيلسوف نموذجا تحليليا لفهم حركة العقل البشري ، والطريقة التي يتبعها في تفكيك الاشياء وانتاج المعاني التي تعيد ربطها بحركة الحياة. كان بيكون يسعى للاجابة على سؤال في غاية الجدية ، نلخصه على الوجه التالي:

-         حين نفكر في موضوع ، هل تعمل عقولنا بصورة مستقلة ، فتنظر للاشياء نظرة محايدة. ام أنها – على العكس - تعمل كمرآة تكثف ما يوجد في البيئة الاجتماعية ، وتقرأ الخط الجامع فيما بينها ، ثم تعيد انتاجه على شكل قاعدة أو فكرة؟.

حاول بيكون والعديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين جاؤوا من بعده ، وضع خط يميز ما هو نتاج حقيقي للعقل ، اي ما نسميه التفكر ، عما هو مجرد تكرار لما يعرفه الناس وما اعتادوا عليه. حاول هؤلاء المفكرون ايضاح ان العقل لا يعمل في فراغ ، بل هو عرضة للتأثر بعوامل مختلفة ، بعضها نابع من داخل الانسان (مثل حاجاته الشخصية وهمومه وميوله ونتائج التجارب التي خاضها بنفسه) وبعضها الآخر هو انعكاس للمعارف والمواقف والهموم الدائرة في المجتمع ، والتي توجب على اعضائه ان يتبنوا منها موقفا منسجما مع التيار الاجتماعي الاوسع.

بعبارة اخرى فان عقل الانسان – من حيث المبدأ – ابن بيئته. لكن هذا الاساس لا يبقى على الدوام. بقدر ما ينفتح الانسان على أجواء مختلفة ويلتقي مع اشخاص جدد ، ويقرأ أفكارا غير مألوفة ، فان عقله سيبدأ باكتشاف ذاته المستقلة عن تأثيرات المحيط وتراث الاسلاف. في هذه المرحلة يتخذ العقل دور المحقق الذي يسائل ما استقر في تلافيف الذاكرة ، ويجادل ما يتوجه اليه من الخارج ، قبل ان يقبله أو يرفضه.

هذه هي مرحلة الانعتاق والتحرر الداخلي ، التي ينبغي لكل انسان ان يجاهد كي يبلغها. وهي مرحلة لا تخلو من عسر ، بل كفاح مرير للتحرر من هيمنة القناعات التي ترسخت في ذهن الانسان وتحولت الى بديهيات لا يفكر فيها الانسان ولا يسائلها ، واشياء ارتبطت بها مصالحه وعلاقاته ونظام معيشته ، فليس من السهل ان يتنكر لها او يخاتلها. هذه هي الاصنام التي اسماها بيكون "اصنام المسرح" و "اصنام السوق".  

من المهم ان نفهم جيدا هذا السياق ، لأننا سوف نواجه – اليوم او غدا – تلك الاسئلة العسيرة. نحن بحاجة لتوجيه الأسئلة الصحيحة الى انفسنا قبل الغير ، الاسئلة الضرورية لتنوير انفسنا وعقولنا ، سواء اقتنع الآخرون بها ام لا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 19 شهر رمضان 1443 هـ - 20 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15849]

https://aawsat.com/node/3601166


مقالات ذات علاقة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

الـدين والمعـرفة الدينـية

الصنم الخامس

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

نسبية المعرفة الدينية

الهوية المتأزمة

 


23/09/2015

الصنم الخامس



لطالما أثار فضولي وصف "الاصنام الاربعة" الذي وضعه فرانسيس بيكون (1561-1626). وتعتبر اعمال هذا الفيلسوف الانكليزي من المساهمات المبكرة في نظرية المعرفة الحديثة ، التي قادت الى تهميش المنطق اليوناني القديم.
لاحظ بيكون ان سنن الحياة وحقائق الكون واضحة وقابلة للادراك ، الى درجة يصعب اغفالها. ورغم وضوحها فان الناس لا يستوعبونها فلا يستثمرونها. بعض اصدقائه فسر المفارقة بأن الناس لا يستعملون عقولهم. لكن بيكون تساءل دائما: هل يمكن لاي شخص ان يوقف عقله؟. ليس العقل من الاعضاء التي تتحرك اراديا. العقل لا يتوقف ابدا.
فرانسيس بيكون
المشكلة حسبما رأى بيكون تكمن في احتجاب العقل وراء المسبقات الذهنية ، التي تحصر نشاطه في مسارات محددة. في حالة كهذه فان العقل يلاحظ أشياء كثيرة ، لكنه لا يراها ذاتها ، بل يراها أجساما مغلفة في ثوب يحجب حقيقتها. هذه خلاصة رؤية بيكون عن الاصنام الاربعة.
تراءى لي احيانا ان فرانسيس بيكون اغفل صنما خامسا. ولعل هذا الصنم خاص بنا نحن العرب والمسلمين ومن يمر بمثل ظرفنا التاريخي. دعني أسمي هذا الصنم "الزفة". وهو يشبه من حيث الوظيفة "صنم السوق" ، وهو الثالث من اصنام بيكون. لكنه يتمايز عنه من حيث الأثر.  صنم بيكون يعيق العقل عن رؤية الحقيقة. اما صنمنا فهو يحول تلك الحقيقة الى "كلام جرايد" كما يقول اخواننا المصريون. اي شيئا لا قيمة له.
لو بحثنا في صحافتنا وكلام أهل الرأي منا ، لوجدنا تحليلات قيمة وحلولا ذكية لمختلف القضايا التي برزت على السطح في السنوات الماضية. قد نتعجب اذا علمنا مثلا ان حلولا لمشكلة البطالة قد طرحت منذ عقد ونصف ، لكنا لم نطبق ايا منها ، وان المعالجات الضرورية للخلاص من الاتكال الكلي على اسواق البترول مدروسة ومعلنة منذ اربعين عاما ، وبعضها تم تبنيه رسميا في خطط التنمية الاقتصادية. لكن ايا من تلك الحلول لم ير النور.
الذي حدث اننا تحدثنا فيها كثيرا ، ثم جاءت قضايا أخرى فانتقلنا للكلام فيها وتوصلنا الى حلول ، ثم جاءت قضايا بعدها ، فانصرفنا الى السجال حولها. وهكذا. كل قضايانا اشبعناها بحثا ، لكن ايا منها لم يجد من يعلق الجرس او يسعى لتطبيق الحلول.  فكأن النقاش كان مجرد "زفة" تبدأ ، وتصل الى ذروتها ، ثم ينصرف الناس الى اعمالهم الاخرى وينسون ما جرى فيها وما قيل.
كل الناس سمعوا بالمشكلة ، وكل الناس سمعوا بالحلول المقترحة ، وكلهم نسوها او تناسوها. ليس لانهم اغبياء. بل لان زفة اخرى قد بدأت فانشغلوا بها. وهكذا تستمر حياتنا: زفة تتبعها زفة ، لكنا لا نخرج من اي زفة باي ناتج حقيقي.
اذا اردتم الاثبات فاسألوا المصريين عن التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل ، واسألوا الجزائريين عن توطين صناعة البترول ، واسألوا اللبنانيين عن اتفاق الطائف ، واسألوا السعوديين عن مشروع ال 200 مدرسة. كأن كلا من هذه القضايا الكبرى كان مجرد زفة ، انتهت عند منتصف الليل ، فأوى الناس الى فراشهم ، وفي الصباح عادوا الى حياتهم المعتادة وكأن شيئا لم يكن.
زبدة القول ان كثرة الكلام حول القضايا الكبرى اصبحت بديلا عن تعليق الجرس والانتقال من السجال حولها الى تطبيق الحلول. هذا ليس صنما يمنعنا من رؤية الواقع ، بل صنم يمنعنا من تغيير الواقع المليء بالعقد والمشكلات.
الشرق الاوسط 23-9-2015
http://aawsat.com/node/458816

انظر ايضا: فكرة المجتمع الملول/الضجر: نحو نماذج محلية للتنمية



من اقتصاد السوق الى مجتمع السوق

  في سبتمبر الماضي نشر د. فهد الخضيري ملاحظة للطبيب المصري د. يحي النجار ، يقول فيها انه شهد سيدة فقيرة بحذاء بلاستك تدخل عيادته ، فيصرف خم...