‏إظهار الرسائل ذات التسميات المعرفة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المعرفة. إظهار كافة الرسائل

21/08/2025

ماذا يقول العربي.. ماذا يقول الأوروبي؟

الثقافة ، المعرفة ، والوعي ، عناوين لموضوعات مختلفة عن بعضها ، لكنها متداخلة ، تداخلا أدى لخلط معانيها ، ومن ثم إعاقة النقاش السليم في كل منها. اتحدث هذا اليوم عن الأولى (الثقافة) مقارنا بين مفهومها العربي ونظيره الأوروبي ، طمعا في إيضاح واحد من أسباب تفارق الافهام بين المتحدثين.

حين تقرأ في الاعمال المترجمة لباحثين أوروبيين ، تجدهم يتحدثون عن ثقافة المجتمعات التقليدية ، وثقافة البدو والارياف..الخ. وحين تأتي الى أحاديث العرب المعاصرين ، تجدهم يطلقون وصف "المثقف" على نخبة المجتمع المتعلمة ، بل ربما قصروها أحيانا على المشتغلين بالثقافة ، أو الذين تتصل مهنتهم بالإنتاج الثقافي ، من كتاب وأدباء وأمثالهم.

وتتساءل: هل ترى ان الجماعة الأمية ، أي التي لا تكتب ولا تقرأ ، لديها ثقافة؟. فيجيبك الباحث الأوروبي: نعم ، ويجيبك القاريء العربي: لا.

وفقا لمفهوم الثقافة المتعارف في الغرب ، فان كل انسان يحمل ثقافة المجتمع الذي ينتمي اليه ، ويتلقاها منذ لحظة اتصاله بالمحيط الاجتماعي. الثقافة عنوان لمحتوى واسع النطاق ، يشمل التقاليد التي ورثها المجتمع ، او طورها من خلال احتكاكه بضرورات الحياة.  كما يشمل الاخلاقيات والأعراف والفولكلور والأدب والحكايات الشعبية وانماط المعيشة والتعامل ، ومنظومات القيم الخاصة والمعتقدات وتطبيقاتها ، وكل ما يشير الى شخصية المجتمع وطريقة حياته. ولا يهم بعد ذلك ان يكون هذا المجتمع متعلما (بمعنى انه تلقى التعليم وفق النظم الحديثة) او يكون أميا (بمعنى ان غالبية اعضائه لا يقرأون او يكتبون).

هذا يوضح ان مفهوم "ثقافة" عندنا ، مختلف عن نظيره الأوروبي. ومن هنا فان الحديث عن الثقافة من زاوية علم الاجتماع ، يستدعي بالضرورة المفهوم الأوروبي ، لأن علم الاجتماع الذي نتداوله ، نشأ وتطور هناك.

قلت ان وصف الثقافة والمثقف يشير  ، وفق المعنى الشائع في التداول العربي ، الى النخبة وأصحاب المهن الثقافية. وهو بعيد جدا عن المفهوم الغربي السابق الذكر.

يظهر أثر هذا المشكل حين تعالج – من زاوية علمية – الموضوعات الاجتماعية المتصلة بالثقافة ، كما فعلت في مقال الأسبوع الماضي ، حين تحدثت عن الثقافة السياسية. فالواضح ان بعض القراء فهموا الثقافة في معنى نوعية المعرفة الجديدة المتاحة للمجتمع ، ولذا نسبوا المشكلة الى التأثير الأيديولوجي ، وقرر آخرون ان المشكلة في التعليم. والحق ان كلا العاملين مؤثر الى حد معين. لكن جوهر المشكل في مكان آخر ، هو التاريخ الثقافي (بالمفهوم الغربي للثقافة) أي انعكاسات التجربة التاريخية على ذهنية المجتمع وذاكرته. ومثال ذلك المجتمعات التي تتعرض للقمع الشديد ، فهي تميل للارتياب في المستقبل ، ولذا لا تخوض مغامرات مكلفة ، وهذا يبرز خاصة في قلة الميل للاستثمار الاقتصادي في المشروعات طويلة الأمد. ويتحدث علماء الاجتماع أيضا عن فروق سلوكية بين المجتمعات الزراعية وتلك الصناعية او التجارية ، بل وحتى بين مجتمعات الريف والمدن.

بهذا المعنى فان "الثقافة" عنوان لمحتويات الذهن والذاكرة ، التي توجه السلوك العفوي للفرد والجماعة ، كما تؤثر بقوة على رؤيته لعالمه والناس والاشياء من حوله ، فضلا عن طريقة تعامله مع المستجدات والحوادث. لا يحتاج المرء الى الكتاب او المدرسة كي يحمل هذا النوع من الثقافة ، بل يحتاج الى التواصل مع المجتمع الذي ينتمي إليه ، وسوف يأخذ نسخة من الذاكرة الاجتماعية خلال تعامله اليومي. وعندما يتقدم في العمر ، سيجد ان ذهنه بات نسخة من العقل الجمعي ، ولهذا فهو يحمل هوية الجماعة ويمسي عضوا فيها.

نحن نمتص ذاكرة آبائنا ومجتمعنا بشكل تدريجي وعفوي ، لا نشعر به وهو يحدث. لكن بعد مرور سنوات ، سوف نتيقن ان تاريخنا الشخصي هو تاريخ الجماعة ، وسنرى ان لهجتنا ومفرداتنا وفهمنا للعالم ، هو ذات الفهم السائد في الجماعة. هذه – ببساطة – طريقة انتقال الثقافة ، وهذا هو معناها ، أي الذهن والذاكرة التي تشير – غالبا – للماضي.

الخميس - 27 صفَر 1447 هـ - 21 أغسطس 2025 م       https://aawsat.com/node/5177411

مقالات ذات صلة

 استمعوا لصوت التغيير

 الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

انهيار الاجماع القديم

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

حول جاهزية المجتمع للمشاركة السياسية

رأس المال الاجتماعي

سلوك النكاية

صناعة الكآبة

عقل الاولين وعقل الاخرين

عقل العرب ، عقل العجم

العقل المؤقت

عقل في السجن

فتش عن الماسونية!

فكرة التقدم باختصار

في جذور الاختلاف

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

القيم الثابتة وتصنيع القيم

كفوا السنتكم.. اصلحكم الله

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمعات متحولة

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

هكذا خرج العقل من حياتنا 

الهندسة الثقافية: تمهيد موجز

الهوية المتأزمة

هيروهيتو ام عصا موسى؟

13/12/2010

فقه الواقع من منظور الايديولوجيا


اذا لم يستوعب الدعاة ان العالم قد تغير في العقد المنصرم فهذه مصيبة ، واذا فهموا ورفضوا التعامل مع هذه التغيير او البناء عليه في ارائهم وفتاواهم فهذه مصيبة اكبر من الاولى.

ناصر العمر
قبل عقدين من الزمن (1991م) كتب الشيخ ناصر العمر رسالة صغيرة اسماها "فقه الواقع" ، كرسها للتاكيد على ضرورة فهم الواقع السياسي والاجتماعي قبل اصدار الراي او الفتوى. وحملت الرسالة وما تلاها من خطابات وكتابات للشيخ ناصر العمر تنديدا باهمال العلماء وطلاب الشريعة لذلك الفن واعتبارهم اياه انشغالا بما لا يستحق. وقد اثارت الفكرة جدلا في وقتها ، ثم ذهب الامر برمته في الارشيف مثل سائر الجدالات. كان يمكن للفكرة ان تمثل اضافة هامة للتفكير الديني لو ان صاحبها التزم بالمعايير الموضوعية في فهم الواقع (او فقه الواقع بحسب اصطلاحه الخاص). لكنها بقيت – كما سلف – مجرد عنصر في سلسلة طويلة من الجدالات.
تنقسم المعرفة ، بحسب تقسيم الفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، الى ثلاثة عوالم:

العالم الاول : هو الكون المادي الذي يتالف من حقائق واقعية. يعيش الناس في هذا العالم ويسعون الى فهمه وتصويره على شكل نظريات واوصاف ، فيفلحون احيانا ويفشلون احيانا اخرى . حقائق هذا العالم موجودة سواء احببتها او كرهتها ، فهمتها او عجزت عن ادراكها.

العالم الثاني : هو تصوراتنا الشخصية وتجاربنا وتاملاتنا في ذواتنا او في الكون المادي المحيط . وهي تشكل في مجموعها رؤيتنا للعالم وعلاقتنا به وموقفنا من عناصره ومكوناته. هذا العالم هو الذي تعمل فيه عقولنا حين نفكر في وجودنا وما يطرأ عليه من متغيرات. المعارف الشخصية والتاملات والذاكرة الشخصية هي بعض تمثيلات هذا العالم . وهي جميعا قائمة على ارضية الوعي الشخصي والرغبات والميول والهموم ومتفاعلة معها . هذه المعرفة قد تكون مطابقة للواقع وقد تختلف عنه. لكن صاحبها يؤمن بها ويحبها لانها مرتبطة بشخصه او ميوله.

العالم الثالث : هو مجموع منتجات العقل الانساني المجردة ، اي القائمة بذاتها كموضوع منفصل عن شخص المنتج او الاشخاص الاخرين.  ونراها عادة في اطار اعمال علمية او تطبيقات تقنية مثل الكتب ، الالات ، النظريات ، النماذج ، الحاسبات ، الشبكات .. الخ .

من المهم التمييز بين العالمين الاول والثاني في مرحلة التفكير والتحليل. لان الاسراف في استعمال المنظورات الشخصية والايديولوجية – حتى لو كانت صحيحة بذاتها – قد تعطي للمفكر صورة ملتبسة عن الواقع. ويقال عادة ان اهم اخطاء الماركسية هي هذا الفهم الايديولوجي للعالم. انها خطا جميع الذين ينظرون الى حركة التاريخ باعتباره سلسلة من الحتميات المتعاقبة. واظن ان صاحب "فقه الواقع" قد وقع في هذا المطب . التاريخ قد ينتهي الى نتيجة حتمية ، لكننا لا نعرف توقيتها ، ربما تكون نهاية العالم او مرحلة متاخرة من تاريخه. لكن من الخطا اعتبار الحوادث التي تجري كل يوم نوعا من الحتميات، سواء الحتميات التي نحبها او التي نخشى منها.

الجدالات الاخيرة التي شهدتها البلاد تشير الى غفلة مريعة من جانب بعض الدعاة والناشطين في التيار الديني عن التحولات الجارية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي – ومن بين هؤلاء كاتب رسالة فقه الواقع نفسه-. وهي تحولات تنعكس ، شئنا ام ابينا ، على الثقافة العامة وانماط التدين ومعايير العلاقة بين القوى الاجتماعية. تنتمي هذه التحولات الى العالم الاول ، وهي تستوجب فهما وتفسيرا تبنى عليه المواقف والاراء (اي ما ينتمي الى العالم الثاني). اهمال هذه الوقائع او رفضها لا يلغيها ولا يزيل مفاعيلها ، بل يعزل الشخص المفكر عن عصره ويجعل الامور ملتبسة عليه ، فيقع في سلسلة اخطاء منهجية ومعرفية وعملية قد تصحبه لزمن طويل.
فقه الواقع لا يعني – في جوهره - قراءة الاخبار ومتابعة الحوادث والتعليق عليها وكتابة مقالات التنديد والتاييد حولها ، بل استيعاب نسق التحولات ومحركاتها وفهم اتجاهاتها ومآلاتها ، ثم اخذها بعين الاعتبار عند استنباط الموقف الديني والخطاب الديني. اذا اقحمنا قناعاتنا الايديولوجية على تفكيرنا في الحوادث ، فسوف نعود الى ما كنا نعرفه سلفا ، ولن نستفيد معرفة جديدة ، وسوف نعيد انتاج صورة ذهنية عن واقع افتراضي نؤمن به ، لكنه غير موجود خارج اذهاننا.

جريدة عكاظ 13 ديسمبر 2010

تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة

بعد الحديث عن الثقافة في الأسبوع الماضي ، حان وقت الكلام عن "الوعي". واحسب ان كثيرا من الناس يفترضون – من حيث المبدأ – ان كل مثقف...