مهما قيل في التأثير الهائل لانظمة الدعاية الحديثة على تفكير الناس وميولهم ، فلن تستطيع تحويل الانسان الى شبه آلة ، تحركها تلك الانظمة. بل أزعم ان التسليم المطلق بهذه الفكرة ، يناقض حكمة الله وتجربة البشر التاريخية. نعلم جميعا ان التقدم المستمر كان سمة ثابتة في تاريخ البشرية. وما ينتجه البشر اليوم من المعارف والمنتجات المادية ، دليل صريح على الفارق العظيم بين حالنا وحال البشرية قبل ألف عام مثلا. تزيد العلوم التي ينتجها انسان اليوم في عام واحد ، عما كان ينتجه الاسلاف في عشرات السنين. وينتج من الغذاء ومصادر الطاقة ووسائل المعيشة ، ما لم يصل اليه الأسلاف حتى في الخيال المجرد.
-
حسنا.. تأملوا معي في معنى التقدم ،
أليس جوهره هو التمرد على الافكار السائدة والقناعات المعتادة والاعراف المعهودة.
تخيل أن "نيكولاس
كوبرنيكوس" لم يتمرد على المبدأ الموروث ، القائل بان الارض مركز الكون
وان الشمس تدور حولها ، فهل كان علم الفيزياء والفلك سيقفز تلك القفزة العظيمة
التي نعيش نتائجها اليوم ، في حقل الاتصالات والطيران وتنبؤات المناخ وتطوير
الانتاج الزراعي.. الخ؟. في تلك الايام كانت الكنيسة تعتمد نظرية الفلكي اليوناني
القديم بطليموس
، وفحواها ان الأرض مركز الكون. ولهذا جوبه كوبرنيكوس بالعزل والتكفير ، فتردد
كثيرا في نشر كتابه المتضمن نظريته الجديدة ، حتى الاشهر الاخيرة من حياته.
تخيل أيضا ان "آلان
تورينج" لم يتمسك بنموذج الحاسبة الذكية التي طورها في 1938 رغم اخفاقاته
الأولية وسخرية زملائه وأرباب عمله ، فهل سيكون لدينا الكمبيوتر والانترنت التي
باتت محرك حياة العالم في هذا الزمان؟. هذا وذاك ، بل تاريخ البشرية كله ، دليل
على ان فطرة الانسان الاولية ، هي التمرد على السائد والمتعارف ، وليس الانصياع
له.
أقول هذا رغم اني – مثلكم –
انظر للحياة الواقعية الماثلة امامي ، فأرى غالبية الناس ، تتأثر – كثيرا أو يسيرا
- بتوجيه "الأيدي الخفية" التي تدير المسرح من وراء الستار.
-
كيف نوازن اذن بين الاستنتاج المثبت علميا ، عن تأثير الدعاية والبيئة
الاجتماعية على تفكير الانسان وسلوكه ، وبين رفضنا للتسليم بهذا القول على نحو
مطلق؟.
لاستيضاح المفارقة ، دعنا
نستعين برؤية ايمانويل
كانط ، رائد الفلسفة الحديثة ، حول الفارق بين حقيقة الاشياء وصورتها في الذهن.
ادرك قدامى الفلاسفة ان
صورة الاشياء في الذهن ، لاتطابق دائما حقيقتها الواقعية. حين يخبرك شخص عن فرس سباق
، فربما تتخيل صورة اجمل فرس رأيته. لكن حين ترى الفرس في الواقع ، ستجده مختلفا
عن صورته في ذهنك.
اولئك الفلاسفة قالوا ايضا
ان معاينة الشيء تنهي تلك الازدواجية ، حيث تتطابق الصورة الذهنية مع الواقع. وقالت العرب قديما "فما راء كمن
سمعا". لكن ايمانويل كانط وجد انك حين تنظر للشيء فانك تراه من خلال الصورة التي
في ذهنك ، والتي غالبا ما تخالف الواقع قليلا او كثيرا. اي ان الفارق يبقى حتى لو
رأيت الشيء بعينيك. هذه النقطة هي موضوع
عمل الدعاية ، التي تحاول تثبيت صورة ذهنية عن
الاشياء ، بغض النظر عن واقعها.
لكن كانط يقول ايضا – وهو
بالتأكيد صادق تماما – ان عقل الانسان ليس مرتبة واحدة. فهناك العقل العملي الذي يدير
حياتك اليومية ، وهناك العقل النظري الذي يتأمل حقائق الاشياء ويفكك معانيها ، باحثا
عما وراء ظاهرها كي يتجاوزه ، فيتحرر من الحاجة اليه ، او يستبدله بما يغني عنه. الدافع
لاختراع الطائرة – مثلا – كان شعور الناس بان السيارة عاجزة عن تجاوز قيود
الجغرافيا ، مع ان احدا ربما لم يتخيل يومذاك امكانية ان يطير الحديد فوق الهواء. هذا
العقل هو الذي يتمرد على تاثير الدعاية والتربية والبيئة ويختار طريقه المنفرد.
سوف اعود لهذا الموضوع في
وقت لاحق. لكن يهمني التأكيد على لب الموضوع ، اي وجود حالتين متوازيتين في واقع
الحياة: سلوك القطيع ومسايرة الناس ، مقابل الشك في هذا الواقع والتمرد على
مسلماته. الأول يكرس النظام والراحة النفسية ، والثاني يؤكد قيمة العقل وكونه
ماكينة التقدم الانساني.
الشرق الاوسط الخميس - 24 صفَر 1446 هـ - 29 أغسطس
2024 م https://aawsat.com/node/5055340/
مقالات ذات صلة
اسطورة العقل الصريح
والنقل الصحيح
لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين
العلم والدين
مثال على طبيعة
التداخل بين الدين والعلم
مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي
من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي