29/08/2024

اليد الخفية التي تدير العالم

مهما قيل في التأثير الهائل لانظمة الدعاية الحديثة على تفكير الناس وميولهم ، فلن تستطيع تحويل الانسان الى شبه آلة ، تحركها تلك الانظمة. بل أزعم ان التسليم المطلق بهذه الفكرة ، يناقض حكمة الله وتجربة البشر التاريخية. نعلم جميعا ان التقدم المستمر كان سمة ثابتة في تاريخ البشرية. وما ينتجه البشر اليوم من المعارف والمنتجات المادية ، دليل صريح على الفارق العظيم بين حالنا وحال البشرية قبل ألف عام مثلا. تزيد العلوم التي ينتجها انسان اليوم في عام واحد ، عما كان ينتجه الاسلاف في عشرات السنين. وينتج من الغذاء ومصادر الطاقة ووسائل المعيشة ، ما لم يصل اليه الأسلاف حتى في الخيال المجرد.

-         حسنا.. تأملوا معي في معنى التقدم ، أليس جوهره هو التمرد على الافكار السائدة والقناعات المعتادة والاعراف المعهودة.

تخيل أن "نيكولاس كوبرنيكوس" لم يتمرد على المبدأ الموروث ، القائل بان الارض مركز الكون وان الشمس تدور حولها ، فهل كان علم الفيزياء والفلك سيقفز تلك القفزة العظيمة التي نعيش نتائجها اليوم ، في حقل الاتصالات والطيران وتنبؤات المناخ وتطوير الانتاج الزراعي.. الخ؟. في تلك الايام كانت الكنيسة تعتمد نظرية الفلكي اليوناني القديم بطليموس ، وفحواها ان الأرض مركز الكون. ولهذا جوبه كوبرنيكوس بالعزل والتكفير ، فتردد كثيرا في نشر كتابه المتضمن نظريته الجديدة ، حتى الاشهر الاخيرة من حياته.

تخيل أيضا ان "آلان تورينج" لم يتمسك بنموذج الحاسبة الذكية التي طورها في 1938 رغم اخفاقاته الأولية وسخرية زملائه وأرباب عمله ، فهل سيكون لدينا الكمبيوتر والانترنت التي باتت محرك حياة العالم في هذا الزمان؟. هذا وذاك ، بل تاريخ البشرية كله ، دليل على ان فطرة الانسان الاولية ، هي التمرد على السائد والمتعارف ، وليس الانصياع له.

أقول هذا رغم اني – مثلكم – انظر للحياة الواقعية الماثلة امامي ، فأرى غالبية الناس ، تتأثر – كثيرا أو يسيرا - بتوجيه "الأيدي الخفية" التي تدير المسرح من وراء الستار.

-         كيف نوازن اذن بين الاستنتاج المثبت علميا ، عن تأثير الدعاية والبيئة الاجتماعية على تفكير الانسان وسلوكه ، وبين رفضنا للتسليم بهذا القول على نحو مطلق؟.

لاستيضاح المفارقة ، دعنا نستعين برؤية ايمانويل كانط ، رائد الفلسفة الحديثة ، حول الفارق بين حقيقة الاشياء وصورتها في الذهن.

ادرك قدامى الفلاسفة ان صورة الاشياء في الذهن ، لاتطابق دائما حقيقتها الواقعية. حين يخبرك شخص عن فرس سباق ، فربما تتخيل صورة اجمل فرس رأيته. لكن حين ترى الفرس في الواقع ، ستجده مختلفا عن صورته في ذهنك.

اولئك الفلاسفة قالوا ايضا ان معاينة الشيء تنهي تلك الازدواجية ، حيث تتطابق الصورة الذهنية مع الواقع. وقالت العرب قديما "فما راء كمن سمعا". لكن ايمانويل كانط وجد انك حين تنظر للشيء فانك تراه من خلال الصورة التي في ذهنك ، والتي غالبا ما تخالف الواقع قليلا او كثيرا. اي ان الفارق يبقى حتى لو رأيت الشيء بعينيك. هذه النقطة هي موضوع

 عمل الدعاية ، التي تحاول تثبيت صورة ذهنية عن الاشياء ، بغض النظر عن واقعها.

لكن كانط يقول ايضا – وهو بالتأكيد صادق تماما – ان عقل الانسان ليس مرتبة واحدة. فهناك العقل العملي الذي يدير حياتك اليومية ، وهناك العقل النظري الذي يتأمل حقائق الاشياء ويفكك معانيها ، باحثا عما وراء ظاهرها كي يتجاوزه ، فيتحرر من الحاجة اليه ، او يستبدله بما يغني عنه. الدافع لاختراع الطائرة – مثلا – كان شعور الناس بان السيارة عاجزة عن تجاوز قيود الجغرافيا ، مع ان احدا ربما لم يتخيل يومذاك امكانية ان يطير الحديد فوق الهواء. هذا العقل هو الذي يتمرد على تاثير الدعاية والتربية والبيئة ويختار طريقه المنفرد.

سوف اعود لهذا الموضوع في وقت لاحق. لكن يهمني التأكيد على لب الموضوع ، اي وجود حالتين متوازيتين في واقع الحياة: سلوك القطيع ومسايرة الناس ، مقابل الشك في هذا الواقع والتمرد على مسلماته. الأول يكرس النظام والراحة النفسية ، والثاني يؤكد قيمة العقل وكونه ماكينة التقدم الانساني.

الشرق الاوسط الخميس - 24 صفَر 1446 هـ - 29 أغسطس 2024 م   https://aawsat.com/node/5055340/

مقالات ذات صلة

 اختيار التقدم

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح

اناني وناقص .. لكنه خلق الله

اول العلم قصة خرافية

تبجيل العلم مجرد دعوى

التعصب كمنتج اجتماعي

حول الفصل بين الدين والعلم

الرزية العظمى

العقل المؤقت

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي 

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي


 

15/08/2024

في مسألة الجبر والاختيار: هل حقا نملك اراداتنا؟


بعض القراء مطلع – بالتأكيد - على الجدل القديم ، حول كون الانسان مسيرا او مخيرا. وهو جدل أثاره سؤال بسيط: إذا كان الانسان يفعل ما يفعل بارادة الله وعلمه المسبق ، فانه ليس مسؤولا عن افعاله ، وبالتالي لايصح عقابه. فكيف يقدر الله شيئا ويريده ، ثم يعاقب عبده اذا فعل ما أراده؟.

أقول هذه مسألة معروفة في التاريخ الاسلامي. وقد حسمت في القرون الأخيرة ، لصالح فهم موسع ، يربط الاثم بكون الفاعل قاصدا متعمدا ، وكونه عارفا بحقيقة ما يفعل. وتوصل الناس الى هذا الفهم بعدما فصلوا بين مرحلتين: القدرة على الفعل وارادة القيام بالفعل. فانت قادر على العيش في الغابة مثلا ، وانت قادر على التبرع بكل أموالك ، لكن القليل من الناس سيفعل هذا. أما الأكثرية الساحقة فهي "تريد" خيارات بديلة. هذا يعني انك تستطيع فعل أشياء ، لكنك لا تريدها ، فلا تفعلها. وهذا بالضبط معنى ان تكون مختارا وصاحب إرادة. وبناء عليه قيل ان الانسان مخير في الاعم الاغلب من افعاله.

يبدو هذا الكلام معقولا ولا غبار عليه. لكن تعالوا نناقش القول السائر ، الذي فحواه أن انسان اليوم ، واقع – من حيث يشعر او لايشعر – تحت سيطرة انظمة الاعلام والدعاية الهائلة القوة ، او انه خاضع لاعراف المجتمع وقوانينه وثقافته ، التي تجعله يفعل ما تريده هي وليس ما يريده هو.

يقول اصحاب هذا الرأي ان انسان اليوم لم يعد صاحب إرادة ، لأنه لا يختار ما يريد. اجهزة الدعاية والاعلام تتلبس عباءة العلم حينا والسياسة حينا آخر ، والاقتصاد في طور ، وحتى الحرص على الصحة العامة في بعض الأحيان. يقولون ايضا ان الذي يختار الرئيس الامريكي مثلا ، ليس الناخبين الافراد الذين يأتون الى صناديق الاقتراع ، بل اجهزة الدعاية التي تبارت في اقناع الناخبين بالشخص الذي اختارته ودعمته ، فجاؤوا للصناديق وقد اقتنعوا بما اريد لهم ان يقتنعوا به.

كذلك الحال في السلوك الغذائي للافراد ، فهم لا يأكلون الطعام الذي الفه آباؤهم ، والذي ربما يعبر عن حاجات البيئة المحلية ، بل يأكلون ما روجته اجهزة الدعاية ، اي ما عرضته عليهم باعتباره رمزا للسعادة او العظمة او الصحة. والشيء نفسه يقال عن نوع الملابس التي نرتديها ، والخيارات الثقافية التي نميل اليها ، وانظمة العمل التي نتبعها في شركاتنا ، وغيرها. نحن نعيش – كما يقول هؤلاء – مسيرين لا مخيرين. صحيح انه لم يضربنا احد على أيدينا ، وليس في طرقنا حواجز مادية تمنعنا من مغادرة الطريق الذي سلكناه. لكننا مع ذلك لا نسير كما نختار ، بل نسير وفق هوى الدعاية او هوى المجتمع ، او تبعا للفضول الذي حفزه هذا او ذاك.

هذا نوع من التسيير غير المرئي الذي ينبع من داخل الانسان ، فيدفعه لمسارات سلوكية محددة ، يظن انه يختارها بحرية ، لكنه - في واقع الامر - لا يرى غير خيارات محددة سلفا. وبالتالي فان اختياره مرسوم ، وليس خيارا حرا ، حتى لو توهم - في الوهلة الاولى - انه حر.

احتمل ان المفكر الفرنسي جان جاك روسو هو اول من أثار هذه المفارقة ، في سياق حديثه عن تلاشي المجتمع الطبيعي السابق للدولة ، وقيام المجتمع المدني المحكوم بالقانون ، اذ يقول ساخرا: "يا لغباء هذا الانسان الذي مشى الى سجن القانون بقدميه ، وكان في وسعه ان يبقى حرا الى الأبد"!.

اراد روسو كشف المفارقة ، بين حياة فيها حرية مطلقة لكنها غير آمنة (في الغابة مثلا) وحياة بنصف حرية ، لكنها آمنة ومريحة (في ظل القانون). قال هذا كي يوضح للقاريء لماذا اختار الانسان ان يتنازل عن حريته الأولى ، فهل وجد في الثانية ما يستحق التضحية؟.

الشرق الاوسط الخميس - 10 صفَر 1446 هـ - 15 أغسطس 2024 م     https://aawsat.com/node/5050790/

مقالات ذات صلة

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

بقية من ظلال الماضين

بماذا ننصح أينشتاين؟

التعصب كمنتج اجتماعي

حجاب الغفلة ، ليس حجاب الجهل

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات

 القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

08/08/2024

كم تدفع لفاتورة الهاتف؟

مفهوم "الحكومة الالكترونية" بات الهدف المشترك لكل مخططات الاصلاح الاداري في عالم اليوم. ولذا فهو عنصر ثابت ، في كافة البيانات والتقارير السنوية التي ترصد تطور السوق والادارة الحكومية ، في مختلف بلدان العالم. تركز هذه التقارير على توفر الخدمات الحكومية رقميا ، بمعنى امكانية انجازها كليا او جزئيا ، من خلال شبكات الهاتف والانترنت. كما ترصد قابلية السوق المحلي لاستيعاب التطور في مجال الاتصال والمعلوماتية ، أي  إمكانية انجاز الاعمال وخدمات القطاع الخاص من خلال الشبكات أيضا.

المؤكد ان جميع الناس او ربما غالبيتهم ، يريدون جعل الحياة والسوق على هذا النحو. فهو يقلص من كلف المعيشة ، ويسهل الاعمال ، ويقلل من تأثير الفوارق الطبقية على مستوى الخدمات المقدمة لعامة الناس.

لكن ثمة سؤال لابد ان يواجه الذين اختاروا هذا الطريق: هل يأتي التحول الى نمط الحياة هذا من دون ثمن؟..

كنت قد وجهت هذا السؤال الى بعض الزملاء في مجلس ، فأجابني أحدهم بما يشبه النكتة: قال اننا جميعا نعرف الثمن ، وهو فاتورة الهاتف والانترنت الشهرية!.

-         هل حقا يقتصر الثمن على فاتورة الهاتف؟.

-         بالطبع لا.

ثمة ثمن ثقافي وآخر اجتماعي ، ربما لا يشعر به الانسان حين تعرض عليه الفكرة للمرة الأولى. لكنه – بالتأكيد – سيرى انعكاساته الواسعة بعد زمن يسير ، في نفسه وفي محيطه العائلي والاجتماعي.

"الحكومة الالكترونية" تجسيد بارز للادارة الحديثة الشديدة العقلانية ، أي التي تقوم على انظمة مكتوبة ومحددة ، على نحو يختصر الدور الشخصي للمدير ، ويحيل كثيرا من الاعمال الى الآلات ، التي لا تفرق بين زيد وعبيد ، حتى لو اختلفت مكانتهم الاجتماعية. لا نريد – بطبيعة الحال – المبالغة باظهار الامر مثاليا ، فثمة على الدوام خطوط مستقيمة وأخرى متعرجة ، لأننا ببساطة بشر يتعاملون مع بشر آخرين ، ولكل منهم خصائص نفسية وذهنية ، تختلف عن غيره ، ولا يمكن التعامل مع الجميع كما لو كانوا "روبوتات".  كذلك فان مستوى النمو التقني والاقتصادي ، يتفاوت بين بلد وآخر. وهو ينعكس على العلاقة بين الدولة والمجتمع ، وطبيعة التفاعل بينهما في كل مجال ، بما فيها المجالات التقنية البحتة. نحن اذن لا ندعي ان الاوصاف المذكورة تأتي كاملة او قريبة من الكمال. الذي يهمني في الحقيقة ، هو توضيح الاتجاه العام والرسالة الداخلية ، التي ينطوي عليها التحول نحو الحكومة الالكترونية.

لو اردنا تلخيص هذا التحول ، فسوف اجمله في نقطتين: سيادة القانون ، والمساواة بين الجميع. سيادة القانون هي ابرز تجسيدات الحياة الحديثة وهي احد الفوارق الرئيسية بينها وبين النظام القديم. وهي تقود – بالضرورة - الى النقطة الثانية اي المساواة ، حيث يتقلص ، نسبيا على الأقل ، تأثير الانتماء الاجتماعي على نوعية ومستوى الخدمات المقدمة لعامة الناس.

لا أحد – على الأرجح - سيجد القراء مشكلة في هذا. لكني أدعوهم الى التعمق أكثر في معنى المساواة ، التي تشمل أيضا تقليص الفوارق بين الرجال والنساء في مجالات عديدة ، اجتماعية وقانونية. أعلم ان شريحة من المجتمع ترحب بهذا التطور ، وهي الشريحة التي تميل – عادة – الى نمط الحياة الحديثة. لكن ثمة شرائح اخرى ، أظنها أوسع حجما ، تشعر بالقلق حين ترى الشباب والفتيات ، قادرين على اختيار أنماط عيش جديدة ، مختلفة جدا عما ألفه الجيل الأكبر منهم سنا. حين تتحول الانترنت الى جزء محوري من حياتنا اليومية ، فان مصادر ثقافتنا وطريقة تفكيرنا في الحياة ، تتغير بالتدريج. وبالنسبة للجيل الجديد فان تأثير الآباء سيكون في حده الأدنى ، وسوف تتشكل هويتهم على ضوء الصلات الجديدة التي تربطهم مع العالم ، وتوفر لهم المعلومات التي يحتاجونها.

هذا اذن مثال واحد على ما قلته في مقال سابق ، وخلاصته ان الانتقال الى الحداثة ليس اختيارا ، ولن يكون محدود الأثر.

الخميس - 03 صفَر 1446 هـ - 8 أغسطس 2024 م    https://aawsat.com/node/5048456/

 

مشكلة الثقافة الدولتية

لو سألت رأيي في رعاية الحكومة للشأن الثقافي ، بل أي تدخل لأي حكومة في الشأن الثقافي ، لترددت طويلا قبل الاجابة. واظن السبب واضحا. فدخولها في الحياة الثقافية يعني تعيين احد التيارات الثقافية ، كخطاب رسمي تعتمده اجهزة الدولة ورجالها. ونعلم ان اتخاذ خطاب رسمي ، سيؤدي – شئنا أم ابينا – لإقصاء الآراء المختلفة عنه ، وتهميش الآراء المعارضة له. نعلم أيضا ان ازدهار العلم رهن بتنوع الآراء المتاحة في المجال العام ، والاقرار بحق صاحب الرأي في مخالفة الآراء الأخرى ، بما فيها المتبناة رسميا. ان الجدل الحر هو الوسيلة الاكثر بساطة والأيسر كلفة لانتشار العلم ، وتحوله من حرفة نخبوية الى مضمون للتبادل بين عامة الناس.

لكن هذي قصة ناقصة. واستكمالها يقتضي القول ان بعض مجالات الاصلاح الثقافي ، لا يمكن إنجازها دون مساهمة واسعة للدولة ، على المستوى السياسي والقانوني خصوصا. دعني أذكر مثلا مفهوم "سيادة القانون" الذي يعد من أعمدة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث ، وبالتالي فهو من المسارات الهامة للانتقال نحو الحداثة. سيادة القانون لا تعني وضع العديد من القوانين واللوائح ، بل التخلص من الطابع الشخصي في الادارة ، وجعلها تجسيدا كاملا للقانون. يظهر الفارق بين الحكم الشخصي وحكم القانون في مضمون ومعايير العلاقة بين المجتمع والجهاز الاداري للدولة.

بيان ذلك: لعل القراء يذكرون نقاشات الصحافة في سنوات سابقة ، حول اختلاف القضاة في الحكم على المسائل المتشابهة. ونعرف ان السبب وراء هذا ، هو اعتبار القاضي مجتهدا يحكم برأيه. وهذا من التقاليد المأثورة في الفقه الاسلامي القديم. نعرف أيضا ان هذا الاختلاف يؤدي الى ما يسمى "عدم استقرار القانون" بل عدم استقرار المعاملات ، نظرا لان الناس لا يعلمون بما يواجههم حين يضطرون للتقاضي. هذا مثال على نوع الحكم الشخصي. لكن لو كان السائد هو حكم القانون ، فان كل شخص يعرف سلفا ما الذي سيواجه لو قام بهذا الفعل او ذاك. وان لم يكن خبيرا ، فان محاميه يستطيع اخباره بما سيجري له لو وصل الأمر الى المحكمة. حين يكون القانون حاكما ، فان الافعال الممنوعة تعرف وتحدد عقوباتها ، في نص قانوني واضح. وبناء على هذا سوف يصدر كل القضاة حكما واحدا في القضايا المتماثلة ، وان المتقاضين سيحصلون على نفس النتائج ، لو وصل امرهم الى المحاكم او حتى الادارات التنفيذية المخولة باصدار احكام. يطلق على هذه الميزة اسم "القابلية للتنبؤ" وهي من العناصر المؤثرة في تكوين البيئة المواتية للاستثمار. ولن تكون ممكنة الا اذا كان القانون هو المرجع الوحيد للجميع ، وليس الرأي الشخصي للمدير أو الوزير ، مهما علا شأنه او علمه.

أظن ان جميع الناس يريدون شيئا كهذا. لكننا نواجه مشكلة حقيقية ، تتمثل في ميل بعض الناس للالتفاف على القانون ، واعتماد العلاقة الشخصية او التأثير الخطابي على المدير ، وقبول المدير لهذا النوع من التعاملات ، التي تؤدي – بالضرورة – الى تقديم الأقوى شخصية او الأقرب علاقة ، على غيره ، ولو كان الحق لهذا الغير. واذكر مديرا بارزا اشتهر بعبارة يقولها تكرارا: "اشفع تشفع" وهي دعوة مفتوحة للوسطاء والمحتاجين لوساطة. وقد برر المدير الهمام دعوته بان القانون لا يلحظ كل القضايا. وهذا تبرير معقول أحيانا. لكنه سيؤدي – في نهاية المطاف – الى الغاء القانون واستبداله بالعلاقات الشخصية.

المجتمع التقليدي يثق في الأشخاص ويعول على "كلمة الرجال" اكثر من القانون. وأصحاب السلطة والنفوذ لا يتمنعون من التعامل مع هذا النوع من المحاولات الاجتماعية ، حتى لو أدت لتجاوز القانون في بعض الأحيان. مثل هذه الحالة لا تعالج باصدار المزيد من القرارات والقوانين والممنوعات ، بل بالتثقيف الواسع النطاق وعلى كل المستويات ، حول القانون وضرورته ، وكونه أساسا للمساواة بين الناس وحاميا لحقوقهم. فهل يمكن لجهة أخرى – غير الدولة – ان تقوم بهذه المهمة؟.

مقالات ذات صلة

 

 اصلاح العقل الجمعي

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة التي لا نراها

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

حداثة تلبس عباءة التقاليد

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة

رأس المال الاجتماعي

طريق التقاليد

عقل الاولين وعقل الاخرين

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

01/08/2024

حداثة تلبس عباءة التقاليد

تعقيبا على حديث الاسبوع الماضي حول تطبيقات الحداثة التي باتت جزء من حياتنا اليومية ، قال احد الزملاء ان  السلوك العقلاني في المجالات التي ذكرنا امثلة عنها ، أداتي محدود الأثر. ومقصوده ان المجتمع يعيش في ظل الحداثة ويمارسها ، لكن من دون ان تغير بنيته الذهنية التقليدية.

هذا مثال عن إشكالات رائجة تطرح في سياقات متفاوتة. وهي تشير الى مشكلتين ، اظنهما مصدر التباين في آراء الناس ومواقفهم حيال الحداثة. المشكلة الأولى هي المسافة بين ثقافتنا الموروثة وبين المضمون الثقافي للحداثة ، المخالف لما ورثناه وألفناه. أما المشكلة الثانية فتتعلق بما يبدو مسارا أحاديا لا خيار فيه: إما الحداثة او العيش على هامش العصر.

سوف اتعرض لهاتين المشكلتين في السطور التالية. لكن يهمني أولا التأكيد على ما سبق ان طرحته ، وهو ان الحداثة ليست قصرا على النتاج الأدبي ، بل يسعني القول ان ابرز تجلياتها تقع في الحياة المادية اليومية ، وذكرت من بين جوانبها السوق والتعليم والصحة ، وأحسب ان هذه القطاعات تشكل الجانب الرئيسي من الحركة اليومية للفكر والبشر والمال ، في أي مجتمع في شرق العالم او غربه. صحيح ان الحداثة لازالت غير مكتملة ، الا ان ما نراه من تطبيقاتها التي تتزايد يوما بعد يوم ، يؤكد على نحو قاطع انها باتت سمة رئيسية لحياتنا اليومية وتفكيرنا في المستقبل.

بالعودة الى المشكل الأول الذي زعمت انه مصدر للتباين في مواقف الناس تجاه الحداثة ، فالواضح ان كل مجتمع يتخذ موقف المتشكك تجاه أي وافد جديد ، خاصة لو رآه معارضا لمألوفه الحياتي او الثقافي ، او العناصر المؤلفة لهويته. وقد ذكرت في حديث الأسبوع الماضي ان العقل هو محور الحداثة ، ونتاجه ، اي العلم البشري ، هو مصدر شرعية الأفعال ، ومعيار التمايز بين ما يصنف صحيحا وما يصنف خطأ أو فاسدا. ثم ان الحداثة لا تقيم وزنا للماضي ، بل تعتبر فعل الانسان في حاضره موضوعا وحيدا للنقاش والتقييم ، وان قيمته مرتبطة بما ينتج عنه الآن ، او ما يترتب عليه في المستقبل.

الماضي – في الثقافة الحداثية - مخزن للمعرفة ، يرجع الانسان اليه ان شاء ، يعمل فيه من اجل معرفة أدق وأعلى ، مرتبطة بزمنها الراهن. بعبارة أخرى فانه ليس للزمن سلطة فوق العقل ، كما ان الماضي على وجه الخصوص لا يتمتع بأولوية او فوقية على الحاضر. بل العكس تماما هو الصحيح ، فقد يكون العلم نتاجا صرفا للحاضر ، او قد يكون امتدادا متطورا عن علم بدأ في الماضي ولم يكتمل. في كلا الحالين ، فان علم الحاضر اعلى قيمة من نظيره القديم.

هذه الفكرة ، أي غلبة الجديد على القديم ، في القيمة والاعتبار ، اقوى من أن تقاوم ، لأن الناس يرون ثمراتها الواقعية. وهذا بالضبط هو سر المشكل الثاني ، اي كون الحداثة طريقا جبريا لا خيار فيه. هذه مشكلة عسيرة فعلا ، لكننا لا نملك خيارات ازاءها. ان اعتزال العالم ليس خيارا. وقد ابتلينا خلال نصف القرن المنصرم بطائفة من الناس اتخذوا التخويف من الحداثة عملا يوميا ، حتى ترسخت قناعة لدى شريحة واسعة من الناس ، فحواها ان تقبل الحداثة يعني تسهيل هيمنة الغرب وزوال الدين والهوية. هذا الخطاب الذي جرى تسويقه على نطاق واسع جدا ، زرع ما يمكن وصفه بعقدة ذنب في انفس الناس الذين يرون بعقولهم فضائل الحداثة ، لكنهم يخشون ارتكاب الخطيئة. 

ربما لهذا السبب نرى من الشائع في مجتمعنا ان يعيش الناس حقيقة الحداثة ويمارسونها كل ساعة ، لكنهم يلبسونها عباءة التقاليد. هذا لا يعني ان ذهنيتهم غارقة في التقليد ، كل ما في الامر ان الحداثة لا زالت غير مكتملة ، وليست – بعد – خطابا مهيمنا.

الخميس - 26 مُحرَّم 1446 هـ - 1 أغسطس 2024 م           https://aawsat.com/node/5045985/

مقالات ذات صلة

 اصلاح العقل الجمعي

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة التي لا نراها

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة

رأس المال الاجتماعي

طريق التقاليد

عقل الاولين وعقل الاخرين

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...