لو سألت رأيي في رعاية الحكومة للشأن الثقافي ، بل
أي تدخل لأي حكومة في الشأن الثقافي ، لترددت طويلا قبل الاجابة. واظن السبب
واضحا. فدخولها في الحياة الثقافية يعني تعيين احد التيارات الثقافية ، كخطاب رسمي
تعتمده اجهزة الدولة ورجالها. ونعلم ان اتخاذ خطاب رسمي ، سيؤدي – شئنا أم ابينا –
لإقصاء الآراء المختلفة عنه ، وتهميش الآراء المعارضة له. نعلم أيضا ان ازدهار
العلم رهن بتنوع الآراء المتاحة في المجال العام ، والاقرار بحق صاحب الرأي في
مخالفة الآراء الأخرى ، بما فيها المتبناة رسميا. ان الجدل الحر هو الوسيلة الاكثر
بساطة والأيسر كلفة لانتشار العلم ، وتحوله من حرفة نخبوية الى مضمون للتبادل بين
عامة الناس.
لكن هذي قصة ناقصة. واستكمالها يقتضي القول ان بعض مجالات الاصلاح الثقافي ، لا يمكن إنجازها دون مساهمة واسعة للدولة ، على المستوى السياسي والقانوني خصوصا. دعني أذكر مثلا مفهوم "سيادة القانون" الذي يعد من أعمدة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث ، وبالتالي فهو من المسارات الهامة للانتقال نحو الحداثة. سيادة القانون لا تعني وضع العديد من القوانين واللوائح ، بل التخلص من الطابع الشخصي في الادارة ، وجعلها تجسيدا كاملا للقانون. يظهر الفارق بين الحكم الشخصي وحكم القانون في مضمون ومعايير العلاقة بين المجتمع والجهاز الاداري للدولة.
بيان ذلك: لعل القراء يذكرون نقاشات الصحافة في
سنوات سابقة ، حول اختلاف القضاة في الحكم على المسائل المتشابهة. ونعرف ان السبب
وراء هذا ، هو اعتبار القاضي مجتهدا يحكم برأيه. وهذا من التقاليد المأثورة في
الفقه الاسلامي القديم. نعرف أيضا ان هذا الاختلاف يؤدي الى ما يسمى "عدم
استقرار القانون" بل عدم استقرار المعاملات ، نظرا لان الناس لا يعلمون بما
يواجههم حين يضطرون للتقاضي. هذا مثال على نوع الحكم الشخصي. لكن لو كان السائد هو
حكم القانون ، فان كل شخص يعرف سلفا ما الذي سيواجه لو قام بهذا الفعل او ذاك. وان
لم يكن خبيرا ، فان محاميه يستطيع اخباره بما سيجري له لو وصل الأمر الى المحكمة. حين
يكون القانون حاكما ، فان الافعال الممنوعة تعرف وتحدد عقوباتها ، في نص قانوني
واضح. وبناء على هذا سوف يصدر كل القضاة حكما واحدا في القضايا المتماثلة ، وان
المتقاضين سيحصلون على نفس النتائج ، لو وصل امرهم الى المحاكم او حتى الادارات
التنفيذية المخولة باصدار احكام. يطلق على هذه الميزة اسم "القابلية
للتنبؤ" وهي من العناصر المؤثرة في تكوين البيئة المواتية للاستثمار. ولن
تكون ممكنة الا اذا كان القانون هو المرجع الوحيد للجميع ، وليس الرأي الشخصي للمدير
أو الوزير ، مهما علا شأنه او علمه.
أظن ان جميع الناس يريدون شيئا كهذا. لكننا نواجه
مشكلة حقيقية ، تتمثل في ميل بعض الناس للالتفاف على القانون ، واعتماد العلاقة
الشخصية او التأثير الخطابي على المدير ، وقبول المدير لهذا النوع من التعاملات ، التي
تؤدي – بالضرورة – الى تقديم الأقوى شخصية او الأقرب علاقة ، على غيره ، ولو كان
الحق لهذا الغير. واذكر مديرا بارزا اشتهر بعبارة يقولها تكرارا: "اشفع
تشفع" وهي دعوة مفتوحة للوسطاء والمحتاجين لوساطة. وقد برر المدير الهمام
دعوته بان القانون لا يلحظ كل القضايا. وهذا تبرير معقول أحيانا. لكنه سيؤدي – في
نهاية المطاف – الى الغاء القانون واستبداله بالعلاقات الشخصية.
المجتمع التقليدي يثق في الأشخاص ويعول على
"كلمة الرجال" اكثر من القانون. وأصحاب السلطة والنفوذ لا يتمنعون من
التعامل مع هذا النوع من المحاولات الاجتماعية ، حتى لو أدت لتجاوز القانون في بعض
الأحيان. مثل هذه الحالة لا تعالج باصدار المزيد من القرارات والقوانين والممنوعات
، بل بالتثقيف الواسع النطاق وعلى كل المستويات ، حول القانون وضرورته ، وكونه أساسا للمساواة بين الناس وحاميا لحقوقهم. فهل يمكن لجهة أخرى – غير الدولة – ان
تقوم بهذه المهمة؟.
مقالات
ذات صلة
ثقافة المجتمع.. كيف
تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه
الحداثة باعتبارها
حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية
الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب
حول العلاقة بين
الثقافة والاقتصاد
د. السيف: فقد الدِين
وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق