01/08/2024

حداثة تلبس عباءة التقاليد

تعقيبا على حديث الاسبوع الماضي حول تطبيقات الحداثة التي باتت جزء من حياتنا اليومية ، قال احد الزملاء ان  السلوك العقلاني في المجالات التي ذكرنا امثلة عنها ، أداتي محدود الأثر. ومقصوده ان المجتمع يعيش في ظل الحداثة ويمارسها ، لكن من دون ان تغير بنيته الذهنية التقليدية.

هذا مثال عن إشكالات رائجة تطرح في سياقات متفاوتة. وهي تشير الى مشكلتين ، اظنهما مصدر التباين في آراء الناس ومواقفهم حيال الحداثة. المشكلة الأولى هي المسافة بين ثقافتنا الموروثة وبين المضمون الثقافي للحداثة ، المخالف لما ورثناه وألفناه. أما المشكلة الثانية فتتعلق بما يبدو مسارا أحاديا لا خيار فيه: إما الحداثة او العيش على هامش العصر.

سوف اتعرض لهاتين المشكلتين في السطور التالية. لكن يهمني أولا التأكيد على ما سبق ان طرحته ، وهو ان الحداثة ليست قصرا على النتاج الأدبي ، بل يسعني القول ان ابرز تجلياتها تقع في الحياة المادية اليومية ، وذكرت من بين جوانبها السوق والتعليم والصحة ، وأحسب ان هذه القطاعات تشكل الجانب الرئيسي من الحركة اليومية للفكر والبشر والمال ، في أي مجتمع في شرق العالم او غربه. صحيح ان الحداثة لازالت غير مكتملة ، الا ان ما نراه من تطبيقاتها التي تتزايد يوما بعد يوم ، يؤكد على نحو قاطع انها باتت سمة رئيسية لحياتنا اليومية وتفكيرنا في المستقبل.

بالعودة الى المشكل الأول الذي زعمت انه مصدر للتباين في مواقف الناس تجاه الحداثة ، فالواضح ان كل مجتمع يتخذ موقف المتشكك تجاه أي وافد جديد ، خاصة لو رآه معارضا لمألوفه الحياتي او الثقافي ، او العناصر المؤلفة لهويته. وقد ذكرت في حديث الأسبوع الماضي ان العقل هو محور الحداثة ، ونتاجه ، اي العلم البشري ، هو مصدر شرعية الأفعال ، ومعيار التمايز بين ما يصنف صحيحا وما يصنف خطأ أو فاسدا. ثم ان الحداثة لا تقيم وزنا للماضي ، بل تعتبر فعل الانسان في حاضره موضوعا وحيدا للنقاش والتقييم ، وان قيمته مرتبطة بما ينتج عنه الآن ، او ما يترتب عليه في المستقبل.

الماضي – في الثقافة الحداثية - مخزن للمعرفة ، يرجع الانسان اليه ان شاء ، يعمل فيه من اجل معرفة أدق وأعلى ، مرتبطة بزمنها الراهن. بعبارة أخرى فانه ليس للزمن سلطة فوق العقل ، كما ان الماضي على وجه الخصوص لا يتمتع بأولوية او فوقية على الحاضر. بل العكس تماما هو الصحيح ، فقد يكون العلم نتاجا صرفا للحاضر ، او قد يكون امتدادا متطورا عن علم بدأ في الماضي ولم يكتمل. في كلا الحالين ، فان علم الحاضر اعلى قيمة من نظيره القديم.

هذه الفكرة ، أي غلبة الجديد على القديم ، في القيمة والاعتبار ، اقوى من أن تقاوم ، لأن الناس يرون ثمراتها الواقعية. وهذا بالضبط هو سر المشكل الثاني ، اي كون الحداثة طريقا جبريا لا خيار فيه. هذه مشكلة عسيرة فعلا ، لكننا لا نملك خيارات ازاءها. ان اعتزال العالم ليس خيارا. وقد ابتلينا خلال نصف القرن المنصرم بطائفة من الناس اتخذوا التخويف من الحداثة عملا يوميا ، حتى ترسخت قناعة لدى شريحة واسعة من الناس ، فحواها ان تقبل الحداثة يعني تسهيل هيمنة الغرب وزوال الدين والهوية. هذا الخطاب الذي جرى تسويقه على نطاق واسع جدا ، زرع ما يمكن وصفه بعقدة ذنب في انفس الناس الذين يرون بعقولهم فضائل الحداثة ، لكنهم يخشون ارتكاب الخطيئة. 

ربما لهذا السبب نرى من الشائع في مجتمعنا ان يعيش الناس حقيقة الحداثة ويمارسونها كل ساعة ، لكنهم يلبسونها عباءة التقاليد. هذا لا يعني ان ذهنيتهم غارقة في التقليد ، كل ما في الامر ان الحداثة لا زالت غير مكتملة ، وليست – بعد – خطابا مهيمنا.

الخميس - 26 مُحرَّم 1446 هـ - 1 أغسطس 2024 م           https://aawsat.com/node/5045985/

مقالات ذات صلة

 اصلاح العقل الجمعي

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة التي لا نراها

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة

رأس المال الاجتماعي

طريق التقاليد

عقل الاولين وعقل الاخرين

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في مسألة الجبر والاختيار: هل حقا نملك اراداتنا؟

بعض القراء مطلع – بالتأكيد - على الجدل القديم ، حول كون الانسان مسيرا او مخيرا . وهو جدل أثاره سؤال بسيط: إذا كان الانسان يفعل ما يفعل بار...