08/08/2024

كم تدفع لفاتورة الهاتف؟

مفهوم "الحكومة الالكترونية" بات الهدف المشترك لكل مخططات الاصلاح الاداري في عالم اليوم. ولذا فهو عنصر ثابت ، في كافة البيانات والتقارير السنوية التي ترصد تطور السوق والادارة الحكومية ، في مختلف بلدان العالم. تركز هذه التقارير على توفر الخدمات الحكومية رقميا ، بمعنى امكانية انجازها كليا او جزئيا ، من خلال شبكات الهاتف والانترنت. كما ترصد قابلية السوق المحلي لاستيعاب التطور في مجال الاتصال والمعلوماتية ، أي  إمكانية انجاز الاعمال وخدمات القطاع الخاص من خلال الشبكات أيضا.

المؤكد ان جميع الناس او ربما غالبيتهم ، يريدون جعل الحياة والسوق على هذا النحو. فهو يقلص من كلف المعيشة ، ويسهل الاعمال ، ويقلل من تأثير الفوارق الطبقية على مستوى الخدمات المقدمة لعامة الناس.

لكن ثمة سؤال لابد ان يواجه الذين اختاروا هذا الطريق: هل يأتي التحول الى نمط الحياة هذا من دون ثمن؟..

كنت قد وجهت هذا السؤال الى بعض الزملاء في مجلس ، فأجابني أحدهم بما يشبه النكتة: قال اننا جميعا نعرف الثمن ، وهو فاتورة الهاتف والانترنت الشهرية!.

-         هل حقا يقتصر الثمن على فاتورة الهاتف؟.

-         بالطبع لا.

ثمة ثمن ثقافي وآخر اجتماعي ، ربما لا يشعر به الانسان حين تعرض عليه الفكرة للمرة الأولى. لكنه – بالتأكيد – سيرى انعكاساته الواسعة بعد زمن يسير ، في نفسه وفي محيطه العائلي والاجتماعي.

"الحكومة الالكترونية" تجسيد بارز للادارة الحديثة الشديدة العقلانية ، أي التي تقوم على انظمة مكتوبة ومحددة ، على نحو يختصر الدور الشخصي للمدير ، ويحيل كثيرا من الاعمال الى الآلات ، التي لا تفرق بين زيد وعبيد ، حتى لو اختلفت مكانتهم الاجتماعية. لا نريد – بطبيعة الحال – المبالغة باظهار الامر مثاليا ، فثمة على الدوام خطوط مستقيمة وأخرى متعرجة ، لأننا ببساطة بشر يتعاملون مع بشر آخرين ، ولكل منهم خصائص نفسية وذهنية ، تختلف عن غيره ، ولا يمكن التعامل مع الجميع كما لو كانوا "روبوتات".  كذلك فان مستوى النمو التقني والاقتصادي ، يتفاوت بين بلد وآخر. وهو ينعكس على العلاقة بين الدولة والمجتمع ، وطبيعة التفاعل بينهما في كل مجال ، بما فيها المجالات التقنية البحتة. نحن اذن لا ندعي ان الاوصاف المذكورة تأتي كاملة او قريبة من الكمال. الذي يهمني في الحقيقة ، هو توضيح الاتجاه العام والرسالة الداخلية ، التي ينطوي عليها التحول نحو الحكومة الالكترونية.

لو اردنا تلخيص هذا التحول ، فسوف اجمله في نقطتين: سيادة القانون ، والمساواة بين الجميع. سيادة القانون هي ابرز تجسيدات الحياة الحديثة وهي احد الفوارق الرئيسية بينها وبين النظام القديم. وهي تقود – بالضرورة - الى النقطة الثانية اي المساواة ، حيث يتقلص ، نسبيا على الأقل ، تأثير الانتماء الاجتماعي على نوعية ومستوى الخدمات المقدمة لعامة الناس.

لا أحد – على الأرجح - سيجد القراء مشكلة في هذا. لكني أدعوهم الى التعمق أكثر في معنى المساواة ، التي تشمل أيضا تقليص الفوارق بين الرجال والنساء في مجالات عديدة ، اجتماعية وقانونية. أعلم ان شريحة من المجتمع ترحب بهذا التطور ، وهي الشريحة التي تميل – عادة – الى نمط الحياة الحديثة. لكن ثمة شرائح اخرى ، أظنها أوسع حجما ، تشعر بالقلق حين ترى الشباب والفتيات ، قادرين على اختيار أنماط عيش جديدة ، مختلفة جدا عما ألفه الجيل الأكبر منهم سنا. حين تتحول الانترنت الى جزء محوري من حياتنا اليومية ، فان مصادر ثقافتنا وطريقة تفكيرنا في الحياة ، تتغير بالتدريج. وبالنسبة للجيل الجديد فان تأثير الآباء سيكون في حده الأدنى ، وسوف تتشكل هويتهم على ضوء الصلات الجديدة التي تربطهم مع العالم ، وتوفر لهم المعلومات التي يحتاجونها.

هذا اذن مثال واحد على ما قلته في مقال سابق ، وخلاصته ان الانتقال الى الحداثة ليس اختيارا ، ولن يكون محدود الأثر.

الخميس - 03 صفَر 1446 هـ - 8 أغسطس 2024 م    https://aawsat.com/node/5048456/

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتا...