‏إظهار الرسائل ذات التسميات العلم والدين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات العلم والدين. إظهار كافة الرسائل

02/10/2025

العقل في المرحلة الأوروبية

العقل المعاصر نتاج لعصر النهضة الأوروبية. لكنه لم ينحصر في أوروبا ، بل بات أقرب الى نموذج كوني ، يمثل حقيقة الانسان في هذه المرحلة من تاريخ البشرية. أعلم ان غير الأوروبيين لا يرتاحون لهذه النسبة. فهي تقلل - ضمنيا - من قيمة اسهامهم  في انتاج الفكر الإنساني والتجربة التاريخية للبشر بشكل عام. وقد يظن بعض المسلمين ان الفارق الديني هو المحرك لكلا الموقفين ، الاستهانة الغربية والرد عليها. لكني وجدت مفكرين من خارج هذين السياقين يعبرون ، صراحة او ضمنيا ، عن موقف مشابه. من يقرأ اعمال امارتيا سن ، الفيلسوف والاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل ، سيلاحظ ان الثقافة الهندية حاضرة بكثافة في كل كتاباته تقريبا ، رغم انتمائه للتقليد العلمي الأوروبي.

أمارتيا سن

أردت البدء بهذا التمهيد تنبيها للقاريء الى حدود التعميم الذي سيظهر في ثنايا المقال. والحق اني انظر لتطور مفهوم العقل وانتسابه للحضارات المتعاقبة ، من زاوية لاتتصل ابدا بتقييم تلك الحضارات والمراحل. اعتقد ان تاريخ البشر تجربة واحدة ممتدة ، تتنوع وتتصاعد باستمرار ، وتتشكل في إطارات مختلفة ، لغوية او جغرافية او دينية ، بحسب مايتوفر من عوامل بعث أو خطوط انكسار. من هنا فان الأديان والحضارات والحروب والتجارب العلمية ، تشكل كلها طبقات في بناء واحد. لا شك عندي ان جانبا مهما من نضج الثقافة الإسلامية القديمة وعمقها ، ثمرة لاتصال المسلمين بالثقافات السابقة ، كاليونانية والصينية والهندية والفارسية والافريقية وغيرها. وبالمثل فان الثقافة الاوربية المعاصرة امتداد لتلك الثقافات ومنها الإسلامية. نعلم أيضا ان قابلية الثقافة للتطور ، رهن بقدرتها على التفاعل مع الثقافات المختلفة وإعادة انتاج مفاهيمها ضمن نسيجها المحلي. ولهذا السبب خصوصا ، ذكرت في كتابة سابقة ان ضعف النشر العلمي باللغة العربية ، يرجع في جانب منه ، الى ما أظنه تعقيدا مبالغا فيه للشكل اللغوي والقواعد النحوية والبلاغية ، بحيث باتت فرصة الكتابة العلمية بالعربية ، قصرا على من يجيد قواعدها النحوية والبيانية اجادة تامة.

بالعودة الى صلب الموضوع ، فان العقل المعاصر  يمتاز بسمات أساسية يشكل مجموعها خطا فاصلا عن عصور العقل السابقة. أذكر هنا ثلاثا من تلك السمات:

1-     الفصل بين المعرفة والقيمة. اذ لم يعد التفكير في القضايا ، متقيدا بقيمتها المستمدة من موقعها الاجتماعي او التاريخي او الديني. ربما يتقيد الباحث بقيمه الخاصة في مرحلة مابعد الاستنتاج ، لكنه في مرحلة الملاحظة والبحث وصناعة الفكرة ، ينبغي ان يتحرر من كل قيد. تتعاضد هذه المقولة مع قاعدة ان حرية التفكير والاعتقاد والتعبير ، جزء أساسي في مفهوم كرامة الانسان وقيمته كموجود عاقل.

2-     العقل نفسه ينظر اليه الآن ككون مستقل عن الأرضية الثقافية التي ولد فيها (او بالأحرى ينبغي ان يكون هكذا). لكن نتاج العقل لا يعد مطلقا ولا مستقلا. بات متفقا عليه ان العقل يتشكل بتأثير تجربة الانسان الحياتية ، التي تعكس الى حد كبير شروط بيئته وما يتجاذب فيها من تيارات. من هنا فان نتاج العقل لم يعد تعبيرا عن الحقيقة ، بل هو معرفة مؤقتة او رأي شخصي ، قد يتحول الى توافق عام اذا عبر القنوات الخاصة بتعميم الأفكار ، كمؤسسات الصناعة والبحث العلمي والهيئات التشريعية.

3-     التمييز بين استقلال العقل في الأصل ، وتبعيته الواقعية لشروط البيئة الاجتماعية ، تظهر أهميته في التمييز الضروري بين دورين يقوم بهما ، دور يسمى "العقل العملي" ووظيفته فيه هي ربط الانسان بما حوله وتيسير حياته ، أي ادراجه في شبكة الأعراف السائدة ، ودور يسمى "العقل النظري" ووظيفته نقد اعراف وتقاليد البيئة والثقافة ، ومحاولة تحرير الانسان من قيودها بإنتاج بدائل لها ، تتحول بالتدريج الى تقاليد في دورة اعلى ، وهكذا. العقل اذن تابع في مرحلة ومتمرد في مرحلة تالية.

 هذا ما اتسع له المقام. ولعلنا نعود للموضوع في قادم الأيام.

 الشرق الاوسط الخميس - 10 ربيع الثاني 1447 هـ - 2 أكتوبر 2025 م   https://aawsat.com/node/5192734

مقالات ذات صلة

اسطورة العقل الصريح والنقل الصحيح
اصلاح العقل الجمعي
اناني وناقص .. لكنه خلق الله
تعريف مختلف للوعي/ تحييد صنم القبيلة
الثقافة كصنعة حكومية
الرزية العظمى
العقل الاخباري
عقل الصبيان
العقل المساير والعقل المتمرد
العقل المؤقت
ما رايك في ماء زمزم؟
من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي
من تقليد الى تقليد ، عقل معماري وعقل هدام
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟
اليد الخفية التي تدير العالم

25/09/2025

العقل الناقص .. العقل المخيف

 بعض القراء الأعزاء افترض ان ما ورد في مقال الأسبوع الماضي ، يدحض حجة الذين انكروا دور العقل في صناعة القيم ، سواء كانت دينية او غير دينية. وقد ذكرت هناك ان العقل هو الذي مهد للإنسان طريق الايمان ، حين اكتشف التوحيد وانطلق منه لفهم الكون والطبيعة. فكيف اتكلنا على العقل في اعظم القيم واعلاها ، وانكرنا دوره في الفرعيات وتفاصيل الحياة؟.

مايكل ساندل

ان التأكيد على محورية العقل وأهمية دوره ، لا يعني ان منكري هذا الدور جهلة او متنطعين. فهم كغيرهم من أهل العلم ، يتبعون منهجا محددا في الوصول للحقائق ، وعلى أرضية هذا المنهج أقاموا حججا قد لا ترضي مخالفيهم ، لكنها ليست بلا أساس. أقول هذا طمعا في اقناع أصدقائي بالانصاف ، حين يجادلون فكرة او يتخذون موقفا. مجادلة الأفكار ليست حربا مع المخالف. ومثلما أعطيت نفسك حقا في تبني فكرة او موقف دون استئذان مخالفيك ، فجدير بك – ان كنت محبا للعدل – ان تقر لهم بنفس الحق ، بلا نقص ولا تطفيف.

الذين أنكروا دور العقل في صناعة القيم الأخلاقية والدينية ، لديهم نوعان من الحجج ، بينهما تداخل واضح. النوع الأول خلاصته ان تلك القيم وظيفتها توجيه الانسان نحو الكمال. فينبغي ان تصدر عن كامل. ونعلم أن  العقل البشري ليس كاملا ولايدعي الكمال. فكيف يكون هذا الناقص صانعا للقيم وميزانا لقياس جودة الصناعة في آن واحد. هذا اشبه بجعل المدعي قاضيا ، او نظيرا لحبيب المتنبي الذي قال فيه "فيك الخصام وانت الخصم والحكم". هذه الرؤية شائعة بين الاتجاهات الدينية ، التي تنادي بجعل تعاليم الوحي مصدرا وحيدا او مرجعا أعلى للقيم الدينية والأخلاقية. لكنهم يتساهلون في منح العقل دورا كاملا خارج هذا الاطار.

اما النوع الثاني من الحجج ، فخلاصته ان عمل العقل يتسم – عموما – بأنه تجريبي ، يتعلم الصحيح بعد ارتكاب الخطأ. الحياة عموما تجربة متصلة ، تتألف من عشرات التجارب الصغيرة تشكل حياة الانسان اليومية. أخطاء التجارب قابلة للاحتمال ، طالما بقيت في إطار الحياة الفردية ، او حتى حياة عدد قليل من الناس. لكن هل يصح تحويل حياة البشرية كلها ، أو حياة بلد بكامله ، الى موضوع لتجربة ذهنية أو مادية ، يجريها شخص واحد او بضعة اشخاص؟.

كنت قد نقلت في نوفمبر الماضي القصة التي ذكرها برنارد ويليامز ، الفيلسوف المعاصر ، عن "جيم" الرحالة الذي وضعته أقداره امام خيار مرير: ان يقتل شخصا واحدا بلا ذنب ، كي ينجو 19 من رفاقه ، او يمتنع فيموت الجميع. أورد ويليامز القصة في سياق نقده للفلسفة النفعية التي تعتبر الفعل صحيحا (أو عادلا) اذا حقق منفعة اعظم لعدد اكبر من الناس ، ولو تضرر جراءه عدد قليل او كان الضرر بسيطا. مثل هذه القصة يتكرر كثيرا في الحياة العامة. وتحدث عن نظائر لها مايكل والزر في مقالته الشهيرة "الفعل السياسي: مشكلة الايدي القذرة" وقد عرضنا لبعض ما ذكره في مقال سابق. كما تحدث عن الموضوع نفسه مايكل ساندل في سلسلة محاضرات بعنوان "ما الذي يصح فعله". والحق ان مواجهة هذا الخيار ليس بالأمر الهين ، لكنه يمثل تجسيدا لنوع من التجارب الحياتية التي يواجهها الناس يوميا في اطار حياتهم الخاصة ، ويواجهها السياسيون والعلماء حين يخوضون تجارب يتأثر بها ملايين من الناس.

ترى ما الذي ينبغي للرحالة ان يختار. اعلم ان كثيرا من الناس سيختار قتل فرد واحد كي ينجو البقية. لكن هل هذا هو الفعل الصحيح؟. مثل هذه التجارب العسيرة التي تتداخل فيها مبررات عقلية وعاطفية وإرادات متباينة ، هي التي تدعو الاخباريين الى اعفاء العقل من هذه المهمة وايكالها الى قوة أعلى يقبل الناس جميعا بخياراتها. هذه القوة هي الخالق سبحانه او قانون الطبيعة ، او أي قوة أخرى لديها مسطرة واحدة لا ترجح أحدا على احد حين تختار.

الشرق الأوسط - الخميس - 03 ربيع الثاني 1447 هـ - 25 سبتمبر 2025 م  https://aawsat.com/node/5190079

مقالات ذات علاقة

"اخبرني من اثق به..."

ثنائية الاتباع والابتداع
حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم

طرائف التاريخ وأساطيره
عقل الاولين وعقل الاخرين
عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
الفكــرة وزمن الفكـرة

العقل الاخباري

الفعل السياسي: مشكلة الأيدي القذرة

كهف الجماعة
مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

18/09/2025

العقل الاخباري

 منذ قديم الزمان وحتى اليوم ، عرف المجتمع البشري أشخاصا ، يرون الكون فوضى: أجزاء تتحرك في كل اتجاه ، من دون ترابط بين حركة وأخرى أو تفاعل بين جزء وآخر ، أو سبب أو علة تفسر هذه الحركة او تلك. في الماضي السحيق ظن بعض البشر ان آلهة تغضب او ترضى أو تتصارع ، فينعكس ذلك في حركة النظام الكوني. إله البحر يغضب فيحرك الأمواج العاتية كي تغرق السفن ، أو يرضى فيأتي السمك قريبا من الشواطيء. ويتفاهم إله المطر مع إله الريح فيأتي المطر خفيفا لطيفا ليسقى الأرض العطشى ، فاذا تخاصما تحول المطر سيولا جارفة تهلك البشر والشجر.  

ساهمت الأديان التوحيدية ، ثم الفلسفة ، في اقناع البشر بأن الكون نظام واحد ، متكامل ومعقول ، الامر الذي سمح بالتفكير فيه وفهم العلاقة بين أجزائه. هذه الفكرة حررت العقل البشري من خوف الطبيعة ، وسمحت له بالتطلع لاستثمارها وتسخيرها لتحسين مصادر عيشه. تطور العلوم كان ثمرة لتعمق العقل في فهم الطبيعة ونفوذه الى أعماق قوانينها ، واستيعابه لكيفية انتظامها وتفاعلها مع بعضها.

حين انشق حجاب الغيب وانكشفت أسرار الكون ، برز العقل كقائد لحياة البشر ، فاستبشر به معظمهم. لكن بعضهم شعر بالحيرة إزاء ما سيأتي لاحقا ، وشعر آخرون بالرعب من ان يستثمر فريق منهم القوة الهائلة التي وفرتها عقولهم ، للتحكم في الضعفاء أو حتى استعبادهم. صعود العقل لم يكن مريحا لكثير من الناس.

حوالي القرن الرابع عشر الميلادي ، شهد العالم القديم كله تقريبا ، من غرب اوربا الى الهند ، تراجعا في حركة العلم (ومن ضمنه علم الدين) وصعودا مفرطا في أهمية القوة العسكرية. ونعرف أن هذا النوع من التطورات يؤدي لانحسار الأمان النفسي (الطمأنينة) عند عامة الناس ، فيجري التعويض عنه بنمط ثقافي يلعب دور السلوى والمواساة.

يؤدي بروز هذا النمط الثقافي (نمط السلوى والمواساة) الى شيوع الوظائف التي تخدمه ، وأبرزها تأليف وتلاوة القصص الشعبي (السوالف حسب التعبير الدارج في الخليج) وممارسة السحر وادعاء قدرات خارقة. ويجري تسويق هذا النمط بتضمينه مواعظ وتوجيهات او اقاصيص منتقاة من حوادث التاريخ. ان العامل الأكثر تأثيرا في شيوع ثقافة السلوى وازدهار عمل القصاصين ، هو اخفاق المجتمعات في حل مشكلاتها ، من الفقر الى القهر او الشعور بانسداد الآفاق.

هذه هي الأرضية التي ينبت فيها العقل الاخباري. منطلق العقل الاخباري هو التسليم بمعيارية النص المروي ، وكونه تلخيصا صادقا للنموذج الأمثل. انه عقل ينشد الكمال. لكن ليس من خلال اجتهاده الخاص ، ولا مكابدة الاكتشاف والتعمق في فهم العالم ، بل من خلال مطابقة السلوك الحياتي الحاضر ، بالنموذج الذي جرى تبجيله ، لسبب ديني او دنيوي. جوهر الخطاب هنا يعبر عنه القول المنسوب الى الامام مالك "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". وللمناسبة ، فهذا المسلك ليس حكرا على المسلمين ، فكل الأمم فيها تيار واسع يذهب هذا المذهب. ولدى كل منهم مبررات جديرة بالتأمل.

يتسلح العقل الاخباري بمكتبة ضخمة ، مليئة بتراث الأقدمين من نصوص معيارية وآراء وأحكام وتجارب حياتية. هذه المكتبة تحولت الى حياة كاملة عند بعض الناس ، يتحدث بها وعنها ، ويجادل دونها ، ويعيد قراءتها وشرحها ، وتحقيق شروحات السابقين عليها. وثمة جدال ينهض فترة ويتراخى فترة أخرى ، محوره سؤال متكرر بنفس الشكل والجوهر ، فحواه: هل ثمة شيء وراء هذه المكتبة ، نبحث فيه عما يصلح حياتنا ، ام ان معرفة الدين ومراداته وأسراره ، كلها مخزونة في رفوفها؟.

العقل الاخباري شديد الفخر بمكتبته ، فكلما ناقش أحد مسألة من مسائل الدنيا ، استل الاخباري رواية من هنا او هناك ، فشهرها امام المتحدث لايقافه عن كل قول مختلف عما ورد في الرواية. اليس "كل الصيد في جوف الفرا"  كما قال العربي القديم؟.

الشرق الأوسط الخميس - 26 ربيع الأول 1447 هـ - 18 سبتمبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5187446

مقالات ذات علاقة

"اخبرني من اثق به..."
الاستدلال العقلي كاساس للفتوى
أصنام الحياة
الاموات الذين يعيشون في بيوتنا
ثنائية الاتباع والابتداع
حين تكره الدنيا: طريق البشر من الخرافة الى العلم
دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم
الـدين والمعـرفة الدينـية
رأي الفقيه ليس حكم الله
طرائف التاريخ وأساطيره
عقل الاولين وعقل الاخرين
عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي
عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات
الفكــرة وزمن الفكـرة
في رثاء د. طه جابر العلواني
كهف الجماعة
مهابهاراتا.. أعظم ملحمة في تاريخ الانسان
هل العقل كاف لانتاج القيم والاحكام؟
هل جربت صنم الكهف؟
هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه



21/09/2023

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

 

جوهر المسألة التي حاولت ايضاحها في الأسبوعين الماضيين ، هو دور الثقافة العامة في تحفيز التقدم ، لا سيما على الجانب الاقتصادي.

نقصد بالثقافة هنا ما نسميه العقل الجمعي. ولكي لا نقع في خطأ التصور السلبي للعقل الجمعي ، يهمني الاشارة الى انه ليس صفة سيئة. انه اقرب الى معنى العرف العام ، اي مجموع القناعات والقيم والمفاهيم التي تحكم سلوك عامة الناس في مجتمع ما ، وتشكل الصورة العامة للمجتمع. فنقول ان هذا المجتمع بسيط او متحفظ ، وان المجتمع الثاني كريم او بخيل ، والثالث نشط وسريع الاستجابة.. الخ. هذه ليست صفات دقيقة لكل فرد في هذا المجتمع او ذاك ، لكنها المتوسط العام الناتج عن مجموعة صفات يتصف بها كل مجتمع.

داريوش شايغان (1935 - 2018)

أما المراد بالاقتصاد فهو دائرة المعيشة ، اي مصادر الانتاج ووسائله ، وقابليتها للتجدد والتطوير ، ومدى العدالة في توزيع ثمرات النشاط الاقتصادي القومي على افراد المجتمع. نعلم ان غالب المجتمعات العربية ، في وضع أقل من المطلوب. لأن المسافة بيننا وبين الدول الصناعية شاسعة جدا ، في مختلف المجالات ، في انتاج العلم والتقنية وفي مستوى المعيشة وجودة الحياة ، الى المساواة والعدالة والمشاركة في صناعة المستقبل.

هذا يقودنا الى العنصر الاول من عناصر الثقافة الداعمة للتقدم ، أعني به الحاجة لمثال نحتذي به كمعيار للتقدم المنشود. ان النموذج والمثال الواضح أمامنا اليوم هو المجتمعات الصناعية الغربية ، ومن سار على اثرها في الثقافة والتنظيم الاجتماعي. أريد التأكيد على هذا ، لأننا في امس الحاجة الى علاج ما اعتبره عقدة تفسد نفوسنا: وهي العقدة المتمثلة في اعلان الكراهية للغرب وادعاء العداوة له ، رغم ميلنا الصريح او الضمني لاحتذاء نموذج الحياة الغربية.

هذه العقدة لم تقم على ارضية الدين كما يتخيل كثيرون ، بل "استعملت" عباءة دينية لتبرير الانكماش على الذات والتفاخر بالذات في الوقت نفسه. ان الشتيمة الايديولوجية والشتيمة السياسية للغرب ، ليست سوى محاولة للموازنة بين الانكسار الذاتي الذي يحث على الانكماش ، وضغط الحاجات الملحة الذي يتطلب التواصل مع الغرب. وهذا هو مسلك "النفس المبتورة" حسب تعبير المفكر المعروف داريوش شايغان.

لن نستطيع الانضمام الى ركب منتجي العلم ، ولن نقيم اقتصادا قادرا على الصمود في وجه الأزمات ، الا اذا اجتهدنا في تنسيج اصول العلم والادارة الحديثة في ثقافتنا. وهذه الاصول عند الغرب وليست عندنا. وهي محملة بفلسفة تتعارض جديا مع الكثير من قناعاتنا واعرافنا الموروثة. فاذا بقينا على "وهم" ان تبني فلسفة الحياة الجديدة ، مشروط بتوافقها مع موروثنا الثقافي ، فلن نخرج أبدا من أسر التقاليد العتيقة التي عطلتنا ما يزيد عن 1000 عام. الحل الوحيد والضروري هو التخلي عن تلك الأوهام ، مهما كان الثمن.

اما العنصر الثاني فهو اعادة الاعتبار للعلم كقائد لقطار الحياة. أقول هذا مع علمي بان بعض الناس سيعترض قائلا: كيف نزيح الدين عن دفة القيادة ونسلمها للعلم؟. وجوابي لهم: ان الدين الذي يفهم كمزاحم للعلم او معارض له ، لا يصلح لقيادة الحياة ، ولا يمكن ان يكون دين الله ، بل هو نسخة اخرى من التقاليد الاجتماعية التي لبست عباءة الدين.

لا يتعارض الدين مع العلم ، ولا يحتل مكانه في ادارة الحياة وتسييرها. للدين مكان رفيع وللعلم مكان آخر ، ولا يمكن لأحدهما ان يحتل مكان الثاني. فان اردت ان تعرف من يقود الحياة ، فانظر في حياتك اليومية: كم نسبة الاعمال والسلوكيات والقرارات التي تتخذ بناء على معطيات العلم او في سياقه ، وكم يتخذ خارج هذا السياق.

الاقتصاد الحديث قائم على معطيات العلم الحديث ، فان اردنا النهوض ومسابقة الآخرين في هذا المجال ، فليس ثمة طريق سوى تمكين العلم من مقعد القيادة ، اي الاعتماد على معطياته في كل جانب من حياتنا دون استثناء. واعني هنا الحياة العامة ، لا الشخصية.

ولنا عودة للموضوع في القريب ان شاء الله.

الشرق الاوسط الخميس - 07 ربيع الأول 1445 هـ - 21 سبتمبر 2023 م     https://aawsat.com/node/4559076

مقالات ذات صلة

تأملات في حدود الديني والعرفي   
تبجيل العلم مجرد دعوى

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

الثقافة المعوقة للنهضة

 حول تطوير الفهم الديني للعالم

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

داريوش الذي مضى

عجلة التنمية المتعثرة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟

اليوم التالي لزوال الغرب

24/08/2023

العلم والدين عالمان مختلفان

الغرض من هذه الكتابة هو إيضاح الحاجة للفصل بين الدين والعلم ، في الوظيفة والقيمة ومناهج البحث ، لا سيما أدوات النقد.

لا نريد مجادلة القائلين بان العلم جزء من الدين ، أو ان الدين قائم على العلم. فهذي تنتهي غالبا الى مساجلات لفظية قليلة القيمة ، تشبه مثلا إصرار بعضهم على ان قوله تعالى "وعلم آدم الاسماء كلها" دليل على ان العلم والدين كلاهما يرجعان لمصدر واحد ، لهذا فهما متصلان. هذا النوع من الجدل لا ثمر فيه ولا جدوى وراءه.

-         ربما يقول قائل: فلنفترض – جدلا – اننا قبلنا بهذا التمهيد ، فما هي جدوى هذه النقاشات التي أكل عليها الدهر وشرب؟.

مكانة الانسان الفرد ودوره في صناعة عالمه هو قلب اشكالية الدين/العلم

جوابا على هذا أقول ان غرض النقاش هو التشديد على استبعاد المؤثرات العاطفية عند النظر في هذه المسألة وأمثالها. وهي مؤثرات محركها – فيما اظن – ارتياب في الافكار الجديدة ، سيما اذا لامست قضايا مستقرة لأمد طويل. واقع الحال يخبرنا أن الإصرار على ربط العلم بالدين ، ادى الى إقصاء المنطق العلمي الضروري لمواجهة المشكلات. فكأن العقل الكسول يقول لنفسه: مادمنا نستطيع تحويل المشكلة على الغيب ، والخروج بحل مريح ، فلماذا نجهد انفسنا بحثا عن حلول غير مضمونة؟. ولعل بعضنا يتذكر الواعظ الذي هاجم الداعين لاغلاق الجوامع والمشاهد التي يزدحم فيها الناس ايام وباء كورونا. وقال ما معناه ان العلاج الحاسم للوباء يكمن في التوسل الى الله والاستشفاع بأوليائه كي ينعم على المرضى بالشفاء. وهذا غير ممكن الا بترك أماكن العبادة مفتوحة للمصلين والداعين ، أما المرض فهو موجود في أماكن الاثم وليس في اماكن العبادة ، المرض لايأتي الى محل التشافي منه!.

ومن ذلك ايضا التوافق القائم منذ قرون ، على ان "علم الدين" لا ينبغي ان يتجاوز الحدود التي رسمها العلماء الماضون. لهذا اقتصرت بحوث المعاصرين على شرح اقوال السابقين ، او تحقيقها او التعديل عليها قليلا. ونادرا ما تصل لنقضها او اقتراح بدائل تعارضها جوهريا. بمعنى آخر فان "علم الدين" المعاصر ليس أكثر من تأكيد على أخيه القديم.

ونظرا لشيوع هذا المفهوم وتلبسه صبغة الدين ، فقد تمدد في غالبية نظم التعليم والبحث العلمي العربية. لهذا ترى العلم القديم حاضرا بقوة في معظم الابحاث ، لا كموضوع للنقد والمجادلة ، بل كأساس يقف عليه الباحث او دليل يرجع اليه ، مع ان القاعدة العقلائية تفترض ان العلم الجديد اكمل من سابقه.

العلم والدين عالمان مختلفان في الوظيفة. فالعلم غرضه نقض السائد والموروث ، واستبداله بما هو أحسن ، ولذا فان معظمه يركز على مساءلة الأدلة والتطبيقات ، والعمل على نقضها والبحث عن بدائلها. اما الدين فوظيفته معاكسة. يوفر الدين اليقين ، اي الرؤية الكونية التي تجيب على اسئلة الانسان الوجودية ، فتولد الاطمئنان الى المصير. كما توفر الشريعة الارضية الفلسفية للقانون ، والمضمون المناسب لقواعد العمل الفردي والجمعي في المجتمع الانساني. ونعلم ان تواصل الانسان مع الكون الذي يعيش فيه ليس من نوع الآراء التي يمكن تغييرها بين حين وآخر. كذلك فان الاستمرارية جزء من طبيعة القانون ، حتى لو قلنا بامكانية تغييره وتحديثه.

نظرا لاختلاف الوظيفة ، فان منهج البحث في الدين مختلف عن نظيره في العلم. وهنا لا بد من التذكير بضرورة التمييز بين الدين والمعرفة الدينية ، حيث يراعى في الدين مصدره الالهي ، بينما المعرفة الدينية بشرية وغير معصومة ، فهي تخضع لنفس قواعد وادوات النقد المتعارفة في العلوم العادية.

الشرق الاوسط الخميس - 08 صفَر 1445 هـ - 24 أغسطس 2023 م

https://aawsat.com/node/4504281

مقالات ذات صلة

أحدث من سقراط
 أن تزداد إيماناً وتزداد تخلفاً
تأملات في حدود الديني والعرفي   
تبجيل العلم مجرد دعوى

تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة 
حول الفصل بين الدين والعلم

الـدين والمعـرفة الدينـية
الرزية العظمى
الشيعة والسنة والفلسفة وتزويق الكلام: رد على د. قاسم
العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل
في الاعجاز والاختبار والعذاب الالهي
كي لايكون النص ضدا للعقل
لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين
مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم
مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

 

16/08/2023

تبجيل العلم مجرد دعوى

زميل عزيز كتب لي عاتبا على الحاحي غير المبرر – كما قال - على دور العقل في التشريع ، ومساواته بالنص ، فكأنه لم تبق في العالم قضية غير هذه ، وكأن أحوالنا كلها صلحت واستقامت ، فلم يبق سوى اصلاح دين الله.

والحق اني لم اجد جوابا مناسبا على عتاب الصديق. لكني تساءلت عن الداعي للعتاب ، مع ان جدل العقل والنقل دائر منذ قرون. ولم اعرف الجواب في أول الأمر. ثم تذكرت لاحقا ان زميلي لا يتحدث عن "دور العقل" على النحو المتعارف في مجامع العلم الشرعي ، بل يركز خصوصا على ما زعمته من تنافر بين العلم والدين. ويهمني التذكير بأن هذا هو قلب اشكالية العقل والنقل ، في رايي.

علاقة الدين بالعلم ، تبدو عند عامة الناس محسومة. لكنها في واقع الامر محكومة بفرضيات متوهمة. وسأعرض هنا لواحدة منها ، وهي الفرضية القائلة بانه لا خلاف مطلقا بين العلم والدين ، والدليل عليه الآيات والروايات التي تبجل العلم وأهله ، فضلا عن تبجيلنا للعلماء الذين عرفهم تاريخ الاسلام القديم.

ولهذه الفرضية نصيب من الحقيقة ، على المستوى النظري البحت. لكنها تستعمل دائما في الموقع المضاد للنظرية. وهذا سبب وصفها بالوهم ، لأننا نتحدث في مستوى الفعل الواقعي اليومي للناس ، وليس في مستوى المجردات.

يعلم القراء الاعزاء بأن المجتمع الديني يطلق وصف "العالم" على دارس العلوم الشرعية فقط. فالطبيب والمهندس والفيلسوف والفيزيائي واللغوي وأمثالهم ، لا يعتبرون – في العرف الديني – علماء.

-         لكن .. ما الداعي لهذه الاشارة؟.

هذه الاشارة مهمة ، لأن مدارس العلم الشرعي تعتبر العلم حجة على صاحبه. فلو علمت باتجاه القبلة مثلا ، وجب عليك الاتجاه اليها في الصلاة ، حتى لو خالفك جميع الناس. حجية العلم من القواعد المشهورة في أصول الفقه. لكن – وهنا يأتي دور العرف المذكور سابقا – جرى التعارف على ان تلك الحجية محصورة في العلوم التي يألفها طلاب الشريعة ، وهي عدد قليل جدا ، أبرزها علوم اللغة ، فقول اللغوي عندهم حجة في فهم النص. ويميل الاكثر الى قبول رأي بقية العلماء في تشخيص موضوعات الحكم ، وليس أدلة الحكم. ومنه مثلا قبول راي الطبيب في تحديد قدرة المريض على الصوم او عدمها. لكنهم لا يقبلون رأيه أو رأي غيره من حملة العلوم الحديثة ، في الامور التي تحدث فيها قدامى علماء الشريعة ، مثل عدد سنوات الحمل ، وتحديد سن البلوغ والرشد ، وتعيين اوقات الصلاة واثبات الهلال ، والشهادة في القضاء. كما لا يقبلون رأيه إذا تعلق بأدلة الاحكام (وليس موضوع الحكم). ومن هنا فهم لا يقبلون رأي عالم اللسانيات او الفيلسوف في تفسير النص او تأويله. ولا يقبلون رأي عالم الاقتصاد في تحديد المفيد والضار من المعاملات المالية والمصرفية. كما انهم يرفضون – من حيث المبدأ – اي بحث يعتمد معايير ومناهج العلم الحديث ، في موضوعات مثل المساواة بين الذكور والاناث ، في الحقوق والواجبات ، وامثالها.

هذه الامثلة ، وهي قليل من كثير ، توضح المسألة التي بدأت بها ، وهي ان نقاشنا في دور العقل في أمور الدين ، لا يتعلق بالموازنة بين العقل والنقل ، كما يفهمه غالب الناس ، بل بالتناقض الحاصل بسبب ادعاء بعضهم امتلاك العلم وتبجيل اهله ، بينما يرفضون اي علم غير العلم الذي ألفوه واعتادت عليه نفوسهم. والحق ان العلم دليل على الواقع ، وصفا أو تفسيرا ، فينبغي ان يكون – بذاته - حجة مقبولة في اي امر شرعي ، كي يبقى الدين متصلا بالواقع. ولو قبلنا بهذه القاعدة ، فسوف ينفتح الباب لتطورات عظيمة في الفكر الديني وفي القانون.

الشرق الأوسط الأربعاء - 30 مُحرَّم 1445 هـ - 16 أغسطس 2023 م

https://aawsat.com/node/4489901

مقالات ذات صلة

أحدث من سقراط
 أن تزداد إيماناً وتزداد تخلفاً
تأملات في حدود الديني والعرفي
تشكيل الوعي.. بين الجامع والجامعة.. دعوة مستحيلة 
حول الفصل بين الدين والعلم
الـدين والمعـرفة الدينـية
الرزية العظمى
الشيعة والسنة والفلسفة وتزويق الكلام: رد على د. قاسم
العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل
في الاعجاز والاختبار والعذاب الالهي
كي لايكون النص ضدا للعقل
لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين
ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين
مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم
مرة اخرى : جدل الدين والحداثة
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
 حول تطوير الفهم الديني للعالم

24/08/2022

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

كيف نوكل امورنا الدينية والحياتية الى عقل تتغير استنتاجاته بين يوم وآخر وبين شخص وآخر؟.

 وأي عقل هو المعيار .. عقل الفقيه ام عقل الفيلسوف ، ام عقل الطبيب ام عقل السياسي ، ام عقول عامة الناس؟.

 وما العمل اذا اختلفت عقول الناس واختلفت آراؤهم ، في أمور كبيرة تستدعي وحدة الرأي والموقف؟.

هذه الردود هي الاوسع انتشارا بين معارضي دور العقل في التشريع. والحق انها صحيحة في ذاتها ، لكنها لا تصلح للاستدلال. بعبارة أخرى ، فان العقل لا يتوقف عن نقد نفسه ، فقد يتبنى اليوم رأيا وينقضه غدا. كما ان الناس ينظرون الى نفس الموضوع او يستعملون نفس الأدلة ، لكنهم يتوصلون لنتائج مختلفة. وهذا ينافي الثبات والوحدة المفترضة في الاحكام الشرعية والقوانين العامة. ان استقرار القانون وقابلية التنبؤ مسبقا بنتائج الالتزام به او مخالفته ، ركن مهم من اركان العدالة.

هذا يوضح ان تلك الاعتراضات ليست ضعيفة او هامشية. بل هي موقف العقلاء جميعا. لكنها مع ذلك ، لا تصلح لانكار دور العقل/العلم في التشريع.

بيان ذلك: ان نقاشنا يتناول مرحلتين:

الأولى يوضحها سؤال: هل يستطيع العقل/العلم كشف الحسن والقبح في الفعل ام لا؟. هذا سؤال قائم بذاته ، اصلي وتأسيسي ، يجب قبوله أو رفضه من حيث المبدأ ، وبغض النظر عن كون الكشف المدعى طويل الأمد ام قصير الأمد ، ثابتا ام متغيرا.

المرحلة الثانية: اذا قبلنا بفرضية ان العقل/العلم قادر على كشف الحسن والقبح في الأفعال ، فما هي الطريقة الصحيحة ، لتحويل هذا الكشف من رأي لم يتفق عليه الناس ، وهو قابل للتغيير ايضا ، الى رأي ثابت ومورد اجماع ، كي يشكل أساسا سليما للحكم الشرعي والقانون؟.

قلت سابقا انه لا توجد طريقة لاقناع معارضي دور العقل/العلم بتغيير موقفهم. اكثر ما نستطيع هو دعوتهم للتأمل في علاقتهم هم بالعلم والعقل والعرف ، التأمل من دون قيود او مخاوف ، فذلك هو الطريق. لكن دعنا في الوقت الحاضر نفترض انهم قبلوا بالمرحلة الأولى ، أي قابلية العقل/العلم لكشف المصالح والمفاسد. لكن اعتراضهم مركز على المرحلة الثانية ، أي اتخاذ قرارات العقل/العلم أساسا للحكم الشرعي. والجواب على هذا يعرفه كل العقلاء. فالعلماء في مختلف الحقول يدرسون المسائل ويتوصلون الى نتائج (دعنا نطلق عليها رايا علميا او فتوى علمية). ثم تقدم هذه الآراء والفتاوى لصاحب الشأن ، فيختار  منها ما يراه مناسبا للمسألة الحاضرة. 

صاحب الشأن هذا ، هو الشخص او الهيئة المخولة بوضع الاحكام الشرعية او القوانين: ربما يكون قاضي المحكمة ، او مجلس الشورى او البرلمان او رئيس الدولة او الفقيه المرجع او المفتي. بعبارة أخرى فان الراي العلمي قد يصدره فقيه في الشريعة او أستاذ في القانون او خبير في الاقتصاد او كبير مهندسين او كبير أطباء او غيرهم ، فيعامل باعتباره رايا علميا محترما. لكنه غير ملزم لأحد. فاذا اختاره صاحب السلطة المختصة ، فسوف يتحول الى رأي ملزم لكل الناس ، مثل حكم القاضي او قانون البلد. واذا تم إصداره على هذا النحو ، فسوف يكون مستقرا لفترة زمنية معقولة ، ولن يلغى اذا تغير راي العالم او تغيرت قناعة القاضي او رئيس الدولة.

 ان تغيير الحكم او القانون الذي دخل مرحلة التطبيق العام ، سيخضع لنفس الإجراءات التي يمر بها حين ينتقل من راي علمي شخصي الى حكم عام.

الأربعاء - 27 محرم 1444 هـ - 24 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15975] https://aawsat.com/node/3833036

17/08/2022

الزكاة ام العدالة الاجتماعية؟

 

اريد في هذه السطور تبسيط فكرة العلاقة بين العقل والنقل ، واعني بها تحديدا وظيفة العقل كمصدر للتشريع ، مواز للكتاب والسنة. والحق انها فكرة ثقيلة ، لكنها ليست معقدة ، كما قد يظن. على أي حال ، لو تأملنا السيناريو الواقعي لدور العقل في التشريع ، لوجدنا انه ينصرف الى معنيين في الغالب: الأول هو العلم في مختلف حقوله ، الطبيعية والتجريبية والنظرية ، والثاني هو ما نسميه عرف العقلاء او بناء العقلاء (مع ملاحظة الفرق بينهما). وسوف اركز في السطور التالية على الأول،  أي العلم.

فهم الزكاة في اطار السعي لاقرار العدالة الاجتماعية يتطلب تغيير مفهومها  الفقهي جذريا

 نستذكر هنا ان علاقة العلم بالدين قد أسالت انهارا من الحبر. وأجمع الإسلاميون قاطبة ، على تعظيم الإسلام للعلم ، كما دأبوا على تمجيد المساهمات الجليلة لعلماء العصور الإسلامية القديمة في مختلف الحقول. واحسب ان هذا بات من المسلمات التي لا تحتاج الى مزيد كلام.

لكن الذي يحتاج الى مراجعة ، هو السؤال التالي: هل نفهم تعظيم الإسلام للعلم ، باعتباره احتفاء بشيء خارج حدوده ، مثلما نحتفي بضيف غريب ، ومثلما نحتفل بفوز فريقنا في دوري كرة القدم ، ام انه بمثابة إقرار بالدور الحيوي للعلم في حياة الدين وأتباعه ، مثلما نقر بدور المهندس في تخطيط بيتنا ومدينتا ، ومثلما نثق بدور الطبيب في علاج اجسامنا. دعنا فقط نتخيل الفرق بين مهندس توكل اليه تخطيط بيتك ، فتلتزم بتطبيق الخريطة التي رسمها لك ، وبين مهندس نستمع اليه ثم نحتفي به ونفخر بوجوده بيننا ، لكننا لا نعتمد عليه في أي عمل. هذا هو على وجه التحديد ، الفرق بين حالة الدين الذي يعظم العلم ، ثم يعتمد عليه في تحديد مسارات عمله وتنظيم حياة اتباعه ، وحالة الدين الذي يحتفي بالعلم ثم يرسله الى المكتبة أو المتحف  ، كي يستريح هناك حتى موعد الاحتفال التالي.

اعتقد ان أكثر الناس لن يقبلوا بالاقتصار على الدور الاحتفالي للعلم. لكني لست واثقا ان عدم قبولهم ، يعني تقبل دور المهندس او دور الطبيب الذي اشرت اليه آنفا. دعني اضرب مثالا ، يوضح معنى دور المهندس او الطبيب بالنسبة للدين: نعلم ان الغرض الأبرز لتشريع الزكاة مثلا ، هو دعم الفقراء والمساكين. في أيامنا هذه ، طور علماء الاقتصاد طريقة للقضاء على المسكنة ، من خلال كسر تسلسل الفقر عبر الأجيال ، وكسر العوائق الاجتماعية التي تعيق الحراك الطبقي ، وتمكين الفقراء من الوصول الى الموارد والفرص المتاحة في المجال العام. هذا هو جوهر نظرية العدالة الاجتماعية ، في النسخة المساواتية التي طورها امارتيا سن ، وتم تحويلها الى سياسات تفصيلية ، ذات اهداف محددة كميا وكيفيا ، في اطار برنامج التنمية البشرية الذي تبنته "الأمم المتحدة". وتظهر التقارير السنوية ان هذا البرنامج كان له أثر عظيم في تحسين مستوى المعيشة ، في المناطق الريفية الأشد حرمانا.

حسنا.. هذا يظهر ان لدينا بديل عن الزكاة ، يحقق غاياتها بصورة أوسع واعمق ، وهو بديل يستند الى دراسات اقتصادية واجتماعية ، وترتبط به أدوات قياس ومعالجة ميدانية. فهل نأخذ به ، ام نواصل التغني بفضل الزكاة ورمزيتها للتكافل الاجتماعي ، ام نطور مفهوم الزكاة بحيث يستوعب البديل العصري ، ولو أدى الى الغاء الاحكام القديمة المعروفة عند الفقهاء؟.

أعلم ان كثيرا من القراء سيتوقفون في هذه النقطة. وربما ذهب بعضهم باحثا عن مخرج رابع. لكني أردت الإشارة الى المعاني النهائية لما نفكر فيه ، لأن لكل خيار ثمن ، وأن قيمة الأشياء رهن بما تحدثه من تغيير في الحياة الواقعية. هذا يوضح في الحقيقة واحدا من أسباب القلق الذي يثيره نقاش العلاقة بين العقل/العلم وبين النقل ، وكان الغرض منه هو إيضاح ان جدل العقل والنقل ينصرف غالبا الى معنى علاقة العلم بالنقل وعلاقته بالدين عموما.

الشرق الأوسط الأربعاء - 19 محرم 1444 هـ - 17 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15968]

https://aawsat.com/node/3820711

من اقتصاد السوق الى مجتمع السوق

  في سبتمبر الماضي نشر د. فهد الخضيري ملاحظة للطبيب المصري د. يحي النجار ، يقول فيها انه شهد سيدة فقيرة بحذاء بلاستك تدخل عيادته ، فيصرف خم...