‏إظهار الرسائل ذات التسميات المواطنة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات المواطنة. إظهار كافة الرسائل

20/03/2025

التطرف والانقسام

 في سبتمبر  2017 صوت غالبية الأكراد العراقيين (92%) لصالح استقلال إقليم كردستان ، بعد حوالي عقدين من الحكم الذاتي الموسع. هذا يشبه الى حد كبير مشهد جنوب السودان في يناير 2011 حين صوت 99% من سكانه على الانفصال عن الشمال.

بوسعنا ان نمر أيضا على الحرب الاهلية في جنوب اليمن عام 1994 ، والتمرد الذي أدى لانفصال باكستان الشرقية ، عن اختها الغربية ، وظهور دولة بنغلادش في 1971 ، او الحرب التي أدت الى تفكك يوغوسلافيا ، وقيام جمهورية البوسنة وكرواتيا والجبل الأسود في 1992 ثم انفصال كوسوفو عن صربيا في 2008.

هذه امثلة ، أحسب ان غالبية القراء الأعزاء يذكرونها ، وهي حوادث أدت أو كادت ان تؤدي الى تفكك دول ، ظن كثيرون انها راسخة الجذور عصية على التفكيك.

المؤكد ان كلا منا قد علم بتجربة واحدة على الأقل ، تتضمن حالات انفصال ، بين أزواج او اعضاء في عائلة واحدة أو شركاء في عمل تجاري ، يعرف كل العقلاء انه يؤدي الى خسائر كبيرة. مع ذلك ، فان الناس يقدمون عليه ، افرادا – كما في الأمثلة الأخيرة – او شعوبا كاملة  كما في الأمثلة السابقة.

السؤال الذي لا بد ان يواجهه اخوتنا في سوريا: ما هو الظرف الذي تبلورت فيه إرادة الانفصال وتفكيك البلد ، في التجارب التي ذكرناها ، وفي عشرات التجارب المماثلة على امتداد تاريخ العالم الحديث ، وما هي العوامل المماثلة التي قد تكون متوفرة فعليا في سوريا اليوم. التأمل في هذا السؤال ، سيأخذنا الى الجزء الثاني الأكثر أهمية: كيف نحول دون تفاقم العوامل الدافعة لانكسار الوحدة الوطنية ، وكيف نعزز إرادة العيش المشترك والسلم الأهلي؟.

ان سمحتم لي بالجواب ، فاني أرى أن ظرف انكسار الوحدة الروحية ، أي إرادة التعايش ، يتبلور عندما تشيع الميول المتطرفة وتنكمش الميول المعتدلة ، عند شريحة واسعة من السكان. التطرف يعني ان الفرد مطلع على الخسائر التي ستحصل جراء الانفصال ، لكنه مع ذلك يراه اقل سوء من أي ضرر يترتب عليه ، او لنقل انه يرى الوضع القائم اسوأ كثيرا من أي ظرف سيأتي بعد الانفصال. انه أشبه بالذي يقدم على الانتحار ، او يخوض مغامرة ، يعلم سلفا ان احتمالات السلامة فيها ، اقل من احتمال الهلاك. هذا تصور متطرف بلا شك ، واذا حمله الفرد فانه يعتبر متطرفا.

خلال السنوات العشر التي مضت من عمر الثورة السورية ، لم نسمع أحدا يتحدث عن تقسيم البلاد. حتى في المناطق الكرية التي انفصلت فعليا عن حكومة دمشق ، كان أقصى المطالب هو الحكم الذاتي ، على النحو القائم في كردستان العراق. اما اليوم فنرى خرائط عن ثلاث دول او اربع ، ونسمع أشخاصا يقولون دون اكتراث: اذا أرادوا ان ينفصلوا ، فليذهبوا الى الجحيم ، نحن أيضا لا نريد العيش معهم. وحين ينشر هذا الكلام على منصات التواصل الاجتماعي يتفاعل معه آلاف الناس ، مرحبين او رافضين.

أعلم ان من يقول هذا متطرف أو جاهل ، وان من يتفاعل معه مثله. لكن ما الذي جرى حتى بات الناس يائسين من الشراكة الوطنية ، غير مكترثين بانكسارها. يتحدثون عن تقسيم بلدهم ، كما لو كان وليمة يتنافس عليها البعض ويزهد فيها آخرون.

اني أتمنى من كل قلبي ان لا يصغي السياسيون الى من يدعوهم لارسال الدبابات والمدافع لقتل المتمردين. أتمنى ان لا يصغوا لمن يقول ان للاكثرية ان تقرر وان على الأقلية ان تسمع وتطيع. هذه الدعوات تنبيء عن ذهنية متطرفة ، وهي تؤدي الى اشعال جمرة التطرف عند الطرف المقابل. لو كان هذا مثمرا لكان بشار الأسد قد نجح في انهاء الثورة الشعبية طوال عقد كامل. ما يحتاجه السوريون هو احتواء الخائفين والغاضبين والمتشككين ، وليس قمعهم او اقصاءهم. هذا هو طريق السلامة ان اردنا العبور بسوريا الى بر الأمان.

الشرق الأوسط الخميس - 21 رَمضان 1446 هـ - 20 مارس 2025 م

https://aawsat.com/node/5123814

 مقالات ذات صلة

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون

انهيار الاجماع القديم

بدايات تحول في الازمة السورية
التعايش أو التقارب.. طريق واحد
درس الكارثة: نظام عربي للاستحابة العاجلة
سوريا بين خيار دايتون والحرب الاهلية
سوريا في مشهد جديد
سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

سوريا ليست معركتنا

 شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

صورتان عن الانسان والقانون

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

عرب اوكرانيا وعرب روسيا

الغول

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

القانون للصالحين من عباد الله

مجتمع العبيد

مجتمع العقلاء

مصير المقاتلين الامميين
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

الواعظ السياسي

وجهات "الخطر" وقهر العامة

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

لماذا نجح الغربيون وفشلنا؟

13/03/2025

لماذا نجح الغربيون وفشلنا؟

 النزاع الذي اندلعت نيرانه فجأة في اطراف سوريا ، بعد أسابيع قليلة من انتصار الثورة الشعبية ، تعيد تذكيرنا بأن خطوط الانكسار في البنية الاجتماعية العربية ، لا زالت فعالة ، وان ترسيخ السلم الأهلي مشروط بتصحيح عيوب تلك البنية ، ولاسيما جعل "مبدأ المواطنة" مضمونا وحيدا للعلاقة بين اعضاء المجتمع السياسي ، على المستوى القاعدي ، وبين المجتمع والدولة ، على مستوى السياسة والقانون.
التعدد الديني والعرقي هو الوضع الطبيعي للحياة في عالم اليوم. ويجب ان نكيف فهمنا للسياسة على نحو يستوعب هذه الحقيقة ، كي نتفادى الصراعات الداخلية. القبول المتزايد لهذه الحقيقة ، دليل على نضج البشرية واتساع وعيها بحقائق الكون وضروراته. التنوع قدر لا خيار لنا فيه ، هكذا خلقنا الله وهكذا نصير اليه.

من المؤلم القول ان المجتمعات الغربية تجاوزتنا بمسافة طويلة ، في الاقرار بالتنوع قانونيا وسياسيا وعمليا ، بينما لانزال نتحرك بسرعة السلحفاة. وهو أمر أسبابه معروفة لمن تأمل في البنية الثقافية-الاجتماعية ، ولم يكتف بالوقوف عند التبريرات اللفظية.

السؤال المثير للدهشة حقا هو : لماذا نجح الغربيون – ولو نسبيا – في تجاوز حدود الطوائف والاعراق والثقافات ، فما عاد أحدهم يخشى ان ينقض عليه الآخر أو ان يتآمر. نقول هذا مع علمنا بأن تلك المجتمعات قامت على أرضية تعاقد مادي ومصلحي. في المقابل فان مجتمعاتنا التي تتحدث كثيرا جدا عن التعاون والتكافل والتراحم ومحبة الآخر والايثار ، تبدو وكأنها تعيش على الدوام في مجتمع ما قبل الدولة ، حيث الجميع في حالة حرب مع الجميع ، على النحو الذي صوره توماس هوبز.

 غالبية الدول الإسلامية تعاني مما يمكن وصفه بأزمة هوية ، ليس عند الأقليات فقط ، بل وبنفس القدر عند الاكثريات أيضا. الأقليات تظن ان الأكثرية تظلمها حقها ، والأكثرية تظن ان الأقلية تخونها. وثمة لدى هذا الطرف عشرات من الأدلة التي تدعم دعواه ، ولدى الطرف الاخر أدلة مثلها. لكن السؤال الذي يبقى حائرا: لماذا تعاملت الأكثرية مع "افراد" الأقلية باعتبارهم جمعا واحدا؟ ولماذا فعلت الأقلية الشيء نفسه بالنسبة الى "افراد" الأكثرية.. أي بدل ان تؤاخذ المذنب ، وضعت كل من يشاركه الانتماء في قالب واحد ، وعاملتهم جميعا كمذنبين.

ثم دعنا نفكر في السؤال التالي: لماذا يناصر "افراد" كل طرف دعاوى فريقه من دون نقد او مساءلة؟. ولماذا لا يسمح هذا الجمع بمساءلة مواقفه ونقدها من داخل الجماعة ومن خارجها.

ان اردتم معرفة الطريقة التي يتشكل من خلالها الفارق البنيوي بين المسلمين وغيرهم ، انظر لسلوك الإسرائيليين خلال الحرب المشتعلة منذ أكتوبر 2023 في مقابل سلوك العرب: يخرج السياسيون والمواطنون والمحللون الإسرائيليون في الشوارع وعلى شاشات التلفزيون والصحف ، يوجهون اشد النقد للحكومة ورئيسها وللجيش وقادته ، وفي المساء يذهبون الى بيوتهم آمنين. اما على الجانب الفلسطيني والعربي ، فان الذي يوجه نقدا ولو بسيطا ، يتهم بالخيانة والعمالة والتصهين.. الخ. بعد حرب 1973 شكلت إسرائيل لجنة عالية المستوى لتحديد أخطاء القيادة ، وقد نشر التحقيق ، وترجم الى العربية باسم "التقصير". وهو يحوي نقدا شديدا للحكومة والجيش وأجهزة الأمن. فهل علمتم عن أي دولة عربية قامت بتحقيق مماثل ونشرته على الملأ؟.

سوف اتفاءل اذا سمعت ان اللجنة التي شكلتها الحكومة السورية للتحقيق في حوادث القتل التي جرت في الشمال الغربي ، تضم فعلا فريقا مستقلا غير منحاز ، او على الأقل ممثلين لمختلف الأطراف ، واعتمدت المعايير الدولية في التحقيق ، ثم نشرت في وقت قريب شهادات الذين استمعت اليهم ، وحددت المسؤولية عن الأفعال الشنيعة التي جرت منذ سقوط النظام السابق.

اصلاح البنية الاجتماعية المتأزمة يستدعي معالجة التأزم المزمن في الهوية عند الأكثرية والأقلية معا. وهذا لا يتم اذا اكتفينا باعلانات سياسية او حتى دستورية ، بل يحتاج أيضا لمبادرات سريعة عملية ، تعزز الاطمئنان وترسل رسائل لجميع من يهمه الأمر ، بان لدى الحكومة عزم أكيد على احتضان الجميع والتعامل معهم كمواطنين ، يحاسبون على فعلهم وليس على انتمائهم.

الشرق الأوسط الخميس - 14 رَمضان 1446 هـ - 13 مارس 2025 م https://aawsat.com/node/5121368

مقالات ذات علاقة

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون

انهيار الاجماع القديم

بدايات تحول في الازمة السورية
التعايش أو التقارب.. طريق واحد
درس الكارثة: نظام عربي للاستحابة العاجلة
سوريا بين خيار دايتون والحرب الاهلية
سوريا في مشهد جديد
سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

سوريا ليست معركتنا

 شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

صورتان عن الانسان والقانون

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

عرب اوكرانيا وعرب روسيا

الغول

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

القانون للصالحين من عباد الله

مجتمع العبيد

مجتمع العقلاء

مصير المقاتلين الامميين

من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

الواعظ السياسي

وجهات "الخطر" وقهر العامة

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

 

 

10/10/2024

هويات متزاحمة


ليس معتادا أن يتنازل الناس عن هوياتهم الفرعية ، مهما كانت قليلة الاهمية عند الآخرين. بعد الحرب العالمية الثانية ، تبنى الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الشرقي ، استراتيجية موسعة لتفكيك الهويات الدينية والقومية والاقليمية ، واستبدالها بما أسموه "هوية سوفييتية واحدة". بعد اربعة عقود فحسب ، رأينا كيف تحولت تلك الهويات المقهورة ، الى عوامل هدم للهوية الكبرى. هذه التجربة المريرة تكررت في دول اخرى ، وثبت عيانا ان القهر الايديولوجي او القومي والديني ، لايفلح أبدا في تفكيك الهويات الصغرى او  قتل ثقافتها.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحتضن نسخة من القرآن الكريم، في مسجد النبي عيسى - غروزني، الشيشان

معرفتنا بهذه النتيجة ، لا تكفي لحل المشكل الواقعي ، اي الارتياب القائم بين المجموعات الاثنية المختلفة ، وهو ارتياب يتحول الى قلق مزمن ، وخوف عند كل طرف من نوايا الآخر.  

لهذا السبب ، نحتاج لفهم ظاهرة التنوع والتعدد في الهوية ، سواء كان تنوعا عموديا كالاختلاف الديني والعرقي والجندري ، أو كان أفقيا كالاختلاف الطبقي والثقافي والسياسي ، الخ. كما نحتاج لوضع الظاهرة في إطارها الصحيح ، كي نشخص المشكلات بدقة ، بدل ان نغرق في انفعالات اللحظة.

تلافيا للتعقيد الذي يلازم هذه المسائل ، سأخصص هذه الكتابة لايضاح ان  التنوع قد يتحول الى تضاد وتنافر بين الهويات ، لكنه في غالب الحالات مجرد تزاحم ، سببه مادي او ثقافي ، وقد يكون مؤقتا. هذه نقطة مهمة لأن كثيرا من الناس يغفلون الفارق الكبير بين الاثنين. سوف اعرض في مقالات قادمة جوانب اخرى ، إذا وفق الله.

هنا ثلاثة امثلة واقعية على التضاد والتنافر بين الهويات. المثال الاول سياسي من ايرلندا الشمالية ، كان يتحدث للتلفزيون قائلا: انا ايرلندي ولست بريطانيا. فقال له المذيع: انت عضو في البرلمان البريطاني وتحمل جواز السفر البريطاني ، فيرد ذاك مرة اخرى "انا ايرلندي". وقد سمعت تكرارا لهذه القصة بنفس التفاصيل تقريبا من أديب كردي – تركي ، أكد خلال حديثه مرة بعد أخرى انه كردي وليس تركيا. وسمعت شبيها لهذا من شخص مصري ، يقول انا اتحدث اللغة العربية لكني لست عربيا ، ولا اريد الانتساب الى العروبة. فالواضح ان هؤلاء الاشخاص ينظرون للهوية الأوسع كضد لهويتهم الخاصة ، وان الزامهم بالاولى يؤدي بالضرورة الى الغاء الهوية الاخرى. الايرلندي لا يرى بريطانيا وطنا له ، ولو حمل جوازها ، وكذلك الكردي في تركيا.

وفقا لابحاث أجريتها في سنوات ماضية ، فان الشعور بالتنافر والتضاد محدود جدا ، ومحصور بين فئات صغيرة متطرفة. وهذا يشمل حتى المجتمعات التي تتعرض لقهر شديد ، ولعل اقرب مثال على هذا هو العلاقة الحالية بين الروس والمسلمين ، من سكان الجمهوريات التابعة للاتحاد الروسي او الجمهوريات التي كانت متحدة معه ثم استقلت. فرغم التاريخ الطويل للصراع ، الا ان الميل السائد حاليا ينحو للتسالم والتعايش وتناسي ذلك التاريخ. بل نجد هذا حتى في الدول التي شهدت صراعات أهلية كحال الشيشان ورواند ونيجريا وايرلندا وسيريلانكا ، على سبيل المثال.

تبدأ المشكلات حين يسعى أحد الاطراف للاستئثار بما هو مشترك بين المواطنين. واوضحها الفرص المتاحة في المجال العام ، كفرص الاثراء والوظائف والتعبير الحر عن الذات. ونعلم ان هذا حصل للاكراد في تركيا ، حين حظرت طيلة 40 عاما استعمال اللغة الكردية في المدارس والمؤسسات الرسمية والصحافة والاجتماعات العامة. وحصل شيء قريب من هذا في العراق وسوريا وايران ، الأمر الذي أدى لتفاقم التنافر بين الهويتين الوطنية والقومية ، وتبرير الحديث عن كردستان كوطن قومي.

بعبارة اخرى ، فان الوضع الطبيعي لعلاقة الناس مع بعضهم هو التعايش والتسالم. وهو وضع سيبقى قائما لأمد طويل ، طالما لم يتعرض اي طرف لعدوان يتصل خصوصا بمكونات الهوية. ولهذا فان أبرز عوامل ترسيخ الوحدة الوطنية ، هو تبني الحكومات لسياسة عليا تحول دون امتهان الهويات الصغرى او محاولة تفكيكها ، أيا كان المبرر.

الخميس - 07 ربيع الثاني 1446 هـ - 10 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5069567

مقالات ذات صلة

الارضية النظرية لمفهوم المواطنة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي
الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول أزمة الهوية

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

حول نظام حماية الوحدة الوطنية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

"عيش الحسين"

قانون حماية الوحدة الوطنية

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

 كيف تشكلت الهوية الوطنية

كيف تولد الجماعة

مسيرة الهويات القاتلة

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

الهوية المتأزمة

الوحدة الوطنية والسلم الاهلي هو الغاية

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنةتفصيح للاشكاليات

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

03/10/2024

المواطن "الممتاز" والمواطن "العادي"

سألتني السيدة ميره ، وهي مثقفة من دولة الامارات الشقيقة ، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني ، ام نحتاج أيضا للرابطة الشعورية ، اي الشعور بالتضامن والتكافل والانتماء الواحد ، كي تكون مواطنة صحية وبناءة؟.

لقد واجهت مثل هذا السؤال في واقع الحياة. كما سمعته موجها لأشخاص اعرفهم ، من مواطنين يقولون: كيف تكون مواطنا مثلنا ، وانت تنكر كثيرا مما نؤمن به. وسمعت شخصا كان مشهورا في زمن سابق ، يقول في حديث تلفزيوني: لو التقيت ب "فلان" لتفلت في وجهه. ثم شرح قائلا: اننا لا ننتمي لذات المكان والمرجع. واعلم ان كثيرين قد شاهدوا تلك المقابلة التي أثارت جدلا واسعا في وقتها. والحمد لله ان تلك الصفحة قد طويت ، وارتاحت بلادنا من اثقالها.

يشير سؤال السيدة ميرة الى رغبة في الارتقاء بمفهوم المواطنة الى مستوى الهوية الكاملة ، بمعنى تحقيق التماثل التام بين المواطنين ، في القناعات السياسية والدينية والعاطفية والثقافية. ولا أظن هذا ممكنا في الواقع. ولو قلنا انه ممكن ، فهو عسير المنال جدا. ولذا لا أرى داعيا للسعي اليه أو المطالبة به ، خشية تكليف الناس ما لايطيقون.

على اني سأطالع الموضوع من زاوية أخرى ، تركز على معنى الهوية والمواطنة ومضمونها الثقافي. وسبب اهتمامي بهذه المسألة ، هو ما أراه من خلط بين الهويات المختلفة ، ولا سيما تحميلها على الهوية الوطنية وخلطها بالاعراف الدينية/المذهبية ، من دون داع.

في الوضع الطبيعي يحمل الانسان هويات متعددة ، بدءا من انتمائه العرقي/القومي الى العائلي والقبلي والاقليمي ، وصولا لهويته المهنية والطبقية وميوله السياسية ، ودينه ومذهبه ولغته ، والتاريخ الثقافي لبيئته الاجتماعية ، الى الوطن الذي يحمل جنسيته. كل من هذه الانتماءات العديدة يمثل خيطا يشده الى مكان ويؤثر في ثقافته وتصوره للعالم ، اي في تشكيل ذهنيته. وبهذا المعنى فان هوية الانسان توليف معقد ومتداخل من هويات متنوعة. وكلما تزايدت ، كانت شخصية صاحبها اعمق تفكيرا وأوسع أفقا.

أزعم انه لا يوجد شخص واحد ، أحادي الهوية ، في العالم كله ، بمعنى ان ذهنيته تشكلت في اطار هوية واحدة ، او انتماء واحد فقط. ان شخصا كهذا ينبغي ان يكون منعزلا عن العالم كله طوال حياته. وهذا – في ظني – مستحيل بحسب ما نعرف عن عالم اليوم.

حسنا. دعنا نتخيل صورة الهويات التي نحملها على شكل دوائر متداخلة. بعضها يقع في الوسط وبعضها في الاطراف ، وبعضها فوق بعض ، وهكذا. افضل الحالات هي حالة التفاعل والتلاقي بين تلك الهويات ، اي حين يكون الانسان قادرا على التعبير عن نفسه وثقافته ودينه وانتمائه العائلي والقبلي والسياسي في اطار القانون الوطني. هنا يلتقي الجميع على ارض واحدة ، وتمثل الهوية الوطنية دائرة واسعة جامعة ، او مظلة حامية لكافة الانتماءات والهويات الاخرى.

في حالة كهذه لا يكون المجتمع الوطني حشدا هائلا من الأفراد المستقلين ، بل مئات من الدوائر التي لكل منها لون وعلامة ، لكن جميعها يقع في داخل الدائرة الكبرى ، اي الهوية الوطنية. هذا ما نسميه "التنوع في اطار الوحدة". وهو ارقى التعبيرات عن فكرة الوطن في هذا العصر.

ربما توجد حكومة فائقة القوة ، تسعى لتذويب كافة الهويات ، عدا واحدة. وهو أمر لا يمكن تحقيقه الا بالقوة الغاشمة. ونعرف من السجلات التاريخية ان بعض الطغاة قد فكر في هذا او حاول فعله.  ونعلم ان تلك المشروعات فشلت في اول خطواتها ، لانها ضد المنطق وضد المسار الطبيعي للحياة. خلاصة القول ان المواطنة الكاملة متحققة فعلا لكل من يحمل جنسية البلد ، مهما اختلف مع بقية المواطنين. هذا كاف تماما. فان حاولنا فيما يزيد ، فقد نتحول من بناء الوطن الى هدمه. التنوع إثراء للوطن ، والوطن لكل أهله ، مهما اختلفت مصادرهم أو مشاربهم وغاياتهم.  

الشرق الاوسط الخميس - 30 ربيع الأول 1446 هـ - 3 أكتوبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5067178

09/03/2022

في العلاقة الاشكالية بين الدين بالدولة

 

الحوار المطول الذي اجرته مجلة "اتلانتيك" الامريكية مع صاحب السمو الملكي ولي العهد حفظه الله ، طرق العديد من القضايا التي طالما أثارت الجدل في الصحافة الدولية وفي المجتمع. وتضمن مسائل من قبيل العلاقة بين الدين والدولة ، الحريات الفردية ، النموذج التنموي ، العلاقة مع الولايات المتحدة .. الخ. تعدد الموضوعات يتيح الفرصة لأشخاص من مشارب مختلفة ، كي يجدوا ما يجذب اهتمامهم.

بالنسبة لي فان الحوار في مجمله مهم ومفيد. لكن الموضوع الذي يثير اهتمامي أكثر من غيره ، هو ذلك المتصل بالتعددية الدينية والخطاب الديني الرسمي.

دعني أوضح أولا اني ادعو الى فصل تام بين الدولة والمؤسسة الدينية. هناك بطبيعة الحال هيئات حكومية ذات صلة بالدين ، ضمنية او صريحة ، نظير القضاء والاوقاف ورعاية الحرمين الشريفين والمساجد. دور الدولة في هذا المجال ، ينبغي ان يقتصر على الدعم والتنظيم فحسب. اما بالنسبة للقضاء ، فاني ارى ان يتحول تدريجيا الى قضاء مدني. وهذا يشمل حتى المجالات التي تتعلق بها مسائل وأحكام فقهية ، نظير الاحوال الشخصية والأوقاف ، فان الاحكام الشرعية المتصلة بها ، ينبغي ان توضع في قانون مكتوب ، كما هو الحال في غالب الدول الاسلامية ، بما فيها تلك التي تضم مذاهب متعددة كالعراق وايران والبحرين وغيرها.

فيما يخص التعددية الدينية ، فان تجربة العالم المعاصر ، توضح بجلاء ان الاحادية الثقافية والدينية قد باتت جزء من الماضي. الدول المتقدمة جميعا ، تتبنى النظام التعددي ، الذي يسمح لكافة الاديان والمذاهب والثقافات بالوجود والازدهار ، ويسمح لأتباعها بالتعبير عن قناعاتهم الخاصة في العلن ، في اطار القانون وتحت حمايته. وقد انعكس هذا على المؤسسات الدينية في تلك البلاد ، فأمست اكثر قناعة بالحوار والتفاهم ونبذ الميول الصدامية.

ان تيار الاصلاح الديني لا يملك فرصة النجاح ، الا اذا تبنى القيم الأساسية للحداثة ، وأبرزها احترام الحريات الفردية لاسيما حرية الاعتقاد والعبادة ، واحترام العلم الحديث ، وتقبل النقد الذاتي والنقد العلمي ، بل واعتباره منهجا لازما لتطوير المقومات النظرية والمواقف. وفي اعتقادي ان هذه الاعمدة الثلاثة (احترام الحريات الفردية ، احترام العلم ، وتقبل النقد) لا يمكن ان تنهض طالما واصلت المؤسسة الدينية استخدام سلطة الدولة.

لا تحتاج الدولة الى "خطاب ديني رسمي" ولا تحتاج الى "مؤسسة دينية رسمية". ان الخطاب الديني الرسمي يستدعي – بالضرورة - تبني اجتهاد محدد واقصاء الاجتهادات الموازية. اقصاء الاجتهادات الاخرى يجعل الدولة في الجانب المقابل لبعض مواطنيها. وهذا خلاف لمبدأ حاكمية القانون.

الأصل ان يكون القانون عاما ، ينطبق على الجميع بنفس القدر وبنفس المعايير. فهل تطبق احكام دينك على من لا يؤمن به ولا يقبله؟ وهل يصح له ان يفرض عليك ما لا تقبله ولا تؤمن به؟. انت ترى دينك صحيحا ، وهو يرى دينه أصح.. فهل نسمح له بالزامك ، ام نسمح لك بالزامه؟

ان جوهر مبدأ المواطنة هو المساواة امام القانون. وهذا يقتضي ان تكون الدولة للجميع ، مع الجميع وبهم ، باعتبارها الجهة التي تطبق القانون. وهذا يستدعي تحييد الدين ، والحيلولة دون تحوله الى حاجز بين الدولة والمجتمع او جزء منه.

كان مجتمعنا على الدوام متعددا متنوعا. وكان على الدوام ثريا بهذا التنوع ، في تجربته الحياتية وفي تاريخه وثقافته. لقد انزلقنا – فترة من الزمن – الى الاحادية ، وقد حان الوقت للتحرر من اعبائها ، كي نعيش حياة تعكس قناعاتنا ، وليس – بالضرورة – قناعات الاجداد.

الشرق الاوسط الأربعاء - 6 شعبان 1443 هـ - 09 مارس 2022 مـ رقم العدد [15807]

https://aawsat.com/node/3519636/

مقالات ذات صلة

الإخوان .. خطاب بديل

أن تزداد إيماناً وتزداد تخلفاً

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حول الفصل بين الدين والعلم

حول تطوير الفهم الديني للعالم

خاتمي وفكرة توطين الديمقراطية

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الاول

 الـدين والمعـرفة الدينـية

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التاصيل

العلمانية بين فريقين

العلمانية على الطريق

في تعريف الإسلامية

مثال على طبيعة التداخل بين الدين والعلم

نقد التجربة الدينية

هل تتلاءم الثقافة الإسلامية مع الديموقراطية؟

11/08/2021

الارضية النظرية لمفهوم المواطنة

 

في نقاشه لمقال الاسبوع الماضي ، شدد الاستاذ مجاهد عبد المتعالي على ضرورة تنسيج مفهومي الوطن والمواطنة في الثقافة المحلية (وتبعا الذهن العام) باعتبارهما تمهيدا ضروريا لبناء الاجماع الوطني والهوية الجامعة (الوطن 7 اغسطس 2021). أما الداعي لهذا فهو كونهما غريبين على الثقافة العربية ، فقد نقلناهما من الاطار المعرفي الغربي ، مع العديد من المفاهيم التي نتداولها في حياتنا اليومية ، كمفهوم الدولة والنظام السياسي الحديث ، وكذا المفاهيم الخاصة بالادارة والتجارة والاتصال والتقنية ، وغيرها.

عملية التنسيج المذكورة لن تكون سهلة على الاطلاق ، الا اذا استطعنا ازاحة منظومة ثقافية واسعة نسبيا ، واستبدلناها بمنظومة حديثة.

بيان ذلك: ان  "المواطنة" مفهوم يصف علاقة قانونية ذات طبيعة خاصة ، تجمع الفرد الى الدولة في جانب ، وتجمعه الى بقية سكان البلاد ، في جانب آخر. يتولد عن هذه العلاقة وضعية قانونية للفرد ، يتميز بها عن سائر الاشخاص الذين لايحملون جنسية البلد.

لم تعرف المجتمعات العربية فكرة المواطنة ، الا بعد انشاء دوائر الاحوال المدنية وصدور القوانين الخاصة بالجنسية ، اي بعد تحول الدولة من "سلطة شخصية" للحاكم ، الى نظام بيروقراطي يظهر فيه القانون كمسار مستقل عن شخص الحاكم. وقد وصف احد علماء السياسة المعاصرين هذا التحول قائلا "كان الحاكم يدير البلاد من ديوانه ، فأمسى يديرها بواسطة الديوان".

انتقال العالم العربي من الحكم الشخصي الى الادارة المؤسسية ، لم يرافقه تحول ثقافي يؤطر المرحلة  الجديدة ، ويرسخ مفاهيمها في نفوس الناس. ولهذا فان علاقة المواطنين ببعضهم ، وعلاقتهم بالدولة ، بقيت تدور في اطار المفاهيم القديمة.

سوف اعرض هنا ثلاثة مفاهيم تشكل – في رايي – الارضية القيمة لفكرة المواطنة. ولدت هذه المفاهيم في الاطار المعرفي الغربي ، ولم يكن لها وجود في ثقافتنا الا بمضمون ضعيف او سلبي. هذه المفاهيم هي:

أ‌)       الانسان الخير.

ب‌)   الفرد المحب لمصلحته الشخصية (شبه الأناني).

ت‌)   الفرد العقلاني.

نقصد بالمفهوم الاول ان الانسان الطبيعي ، لو توفر له خياران: عمل طيب او عمل رديء ، فانه على الأغلب سيختار العمل الطيب والاصلح ، لأن فطرته الاولية ميالة للخير والاحسان. ونقصد بالمفهوم الثاني ان الفرد مجبول على حب نفسه ومصلحته الشخصية ، وتفضيلها على مصالح الآخرين. فلو وجد امامه مصلحتان ، احداهما تخصه وحده والاخرى تخص غيره ، فانه على الاغلب سيختار الاولى.

هذه المفاهيم الثلاثة ، هي الارضية التي بنيت عليها فكرة المواطنة. ان المجتمع يتألف في معظمه من بشر أخيار يريدون التعاون فيما بينهم كي يجعلوا حياتهم افضل واكرم. لكن كلا منهم يريد خدمة نفسه اولا. هذا ليس من المعايب ، بل هو الوضع الطبيعي للانسان. ان اهتمام الانسان بمصلحته الخاصة ، لايعني ابدا رغبته في تخريب مصالح الاخرين. كما ان وجود مصالح متعددة لايعني قيام حالة تناقض وتصارع بينها. لكن تزاحم المصالح وتعارضها امر محتمل على اي حال. وهنا يأتي المفهوم الثالث ، اي العقلانية التي تعني ببساطة قابلية البشر لاحتساب عواقب خياراتهم وافعالهم. ويظهر تاريخ البشرية ان الناس عموما ، مالوا لتنظيم علاقاتهم الجمعية على نحو يضمن تحقيق اكبر قدر ممكن من المصالح الخاصة ، حتى لو  كان الثمن احيانا هو التنازل عن بعض المصالح الصغرى من اجل مصلحة اكبر.

اعود الى رؤية الصديق مجاهد عبد المتعالي ، فأقول ان ترسيخ فكرة المواطنة ، ينبغي أن يبدأ في اعتقادي بتنسيج هذه المفاهيم الثلاثة في ثقافتنا المحلية ، لانها الارضية التي لا بد من تمهيدها كي نقيم فوقها مفهوم المواطنة والقيم الناظمة لعلاقات المواطنين مع بعضهم البعض.

 الشرق الاوسط الأربعاء - 2 محرم 1443 هـ - 11 أغسطس 2021 مـ رقم العدد [15597]

https://aawsat.com/home/article/3125686

 

20/01/2021

في ان "الامة" مخلوق حديث

 أميل للظن بان كافة المجتمعات العربية ، قد شهدت في نصف القرن الأخير ، جدلا حول المسافة بين الدولة القومية (او القطرية كما يصفها القوميون العرب) وبين الامة العربية (او الإسلامية كما يرى الحركيون الإسلاميون). 

ويحب الإسلاميون الاستدلال بآيات القرآن التي تخبرنا أن "المسلمين أمة" وانهم خير الأمم. كما يؤكد القوميون العرب (ومعهم بعض رجال الدين التقليديين) على خصوصية العرب ضمن الأمة الإسلامية ، وان الله فضلهم على سائر الأقوام. ويستشهدون أحيانابروايات تنسب للنبي (ص) في تأكيد هذا المعنى.

ولايخفى ان مفهوم "الأمة" الذي نتداوله اليوم ، غير الذي عرفته الازمان السابقة. حين تذكر عبارة "الأمة العربية" يستذكر الانسان صورة الخريطة التي تبدأ بالعراق شرقا حتى موريتانيا في اقصى الغرب. وحين تذكر عبارة "الامة الإسلامية" فسوف تستذكر عبارة المرحوم مالك بن نبي "من طنجة الى جاكرتا". أي ان المعنى المتولد من كلمة "امة" هو جمع ضخم من البشر ، الذين يربطهم عامل مشترك ، كاللغة او الثقافة أو الدين او التاريخ الواحد.

وما هو مهم في هذا المعنى هو ان عوامل الاشتراك تلك ، تولد الزامات من نوع ما ، على كل فرد تجاه الآخرين. أي ان اشتراك الناس في عرق واحد او لغة واحدة (العرب مثلا) ينشيء بذاته قيمة جديدة ، تترتب عليها حقوق او واجبات. فمن ذلك مثلا قول الإسلاميين بأن ولاء الفرد لأمة الإسلام ، مقدم على ولائه لبلده ، وقول القوميين العرب بان كل عربي عليه واجب السعي للوحدة العربية ، او بعض تمثلاتها او تمهيداتها. بمعنى ان اكتشاف الفرد للعامل المشترك بينه وبين الاخرين ، يكشف في الوقت عينه عن واجبات او حقوق ، لم تكن قائمة قبل هذا الكشف.

 لكن تلك المعاني لم تكن معروفة في زمن النص. ولو تأملت في آيات القرآن ، لما رأيت أي دلالة على التطابق بين لفظة الامة وبين القيم المدعاة. وحتى النصوص التي تدعو للتكافل والتراحم ، من قبيل الحديث المشهور " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد.." فالقدر المتيقن من معناها ، متحقق في الإشارة للمجتمع الصغير المحيط بالإنسان ، مثل جيرانه واهل قريته ، وليس أناسا يبعدون عنه الاف الأميال. أما لفظ الأمة الوارد في القرآن ، فهو ينصرف الى تصنيفات عديدة ، لايجمع بينها غير اشارتها الى الجمع (قليلا او كثيرا) وليس ثمة إشارة الى رابط ثقافي او ديني او غيره. بل لقد عبر القرآن عن الحيوان بلفظ "أمم أمثالكم" مما يستبعد ضرورة الرابط الثقافي.

لقد "اكتشفنا" أمة الإسلام يوم قرأنا الجغرافيا ، واكتشفنا "امة العرب" بعد اختراع الراديو والطباعة. لقد ساعدت الطباعة التجارية -كما راى بنديكت اندرسون- في اكتشاف عناصر الاشتراك بين الشعوب ، ومن ثم تقريبها الى درجة التوحد. وبذلك تخلقت "أمة واحدة" هنا ، وامة أخرى هناك. انسان العصور الحديثة هو الذي خلق الامة: الامة العربية والأمة الإسلامية ، وكافة الأمم الأخرى.

اعود للتذكير مرة أخرى باننا نتحدث عن هذا الاطار البشري الكبير جدا ، الذي يفترض "الدعاة الامميون" ان مجرد وجوده ، ووجود عناصر التماثل بين أعضائه ، ينشيء قيما جديدة ، وتتولد على ضوئها او بسببها واجبات وحقوق جديدة.  اذكر بهذا كي أقول ان هذه الفرضية تنطوي على تكلف لا ضرورة له. التماثل في الدين او الثقافة او السمات او العرق ، يشير الى حالة ثقافية ، وربما يولد موضوعا للوصف والتفكير ، لكنه لا يصلح – بذاته – كأساس لتوليد الزامات على أعضائه او على غيرهم.

الشرق الأوسط الأربعاء - 7 جمادى الآخرة 1442 هـ - 20 يناير 2021 مـ رقم العدد [15394]

https://aawsat.com/node/2752431/

مقالات ذات صلة

ان تنتمي الى قوم بعينهم

بين الهند والموصل: اسرار الوحدة والخصام

التنوع في اطار الوحدة

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دعوة لمراجعة مفهوم الامة/القومية/الوطنية

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة الترابكتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص

المساواة والعدالة ديفيد ميلر

من اراء الفيلسوف ديفيد ميلر

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنةمقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنةتفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

لماذا ينبغي ان نطمئن الى تطور الذكاء الصناعي؟

  اطلعت هذه الأيام على مقالة للاديبة العراقية المعروفة لطفية الدليمي ، تقترح خطا مختلفا للنقاش الدائر حول الذكاء الصناعي ، وما ينطوي عليه ...