26/12/2024

من تقليد الى تقليد ، عقل معماري وعقل هدام

 قلت قبل أسبوعين أن "العقل العملي" يهتم في المقام الأول بتمهيد العلاقة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي. وضربت مثالا باختيار نوع الملابس واللغة وطريقة الكلام ، وبقية العادات التي تجعل الفرد شبيها بمن بالآخرين في محيطه. وبهذا المعنى فالعقل لا يبدع شيئا ، بل يعيد انتاج الثقافة الموروثة ، وما يستند اليها من أعراف وعادات وطرائق عيش.

لا بأس هنا باستدراك أظنه ضروريا كي لا يظن قاريء ان عقلا كهذا لا نفع فيه: فالجانب الأعظم من حياة الانسان ، مؤلف من تفاعلات مادية او فكرية مع الناس والطبيعة. وهو في كلا الحالين محتاج الى تقبل الاخرين لشخصه وتصرفاته. وفي هذه العملية يلعب العقل العملي دورا مؤثرا ، فهو يصمم الطرق المناسبة للتعامل مع الغير على نحو يحقق الهدف المنشود. ان افتقار الانسان للعقل العملي ، يماثل تماما افتقار المسافر لوسيلة السفر التي تحمله الى مقصده. بهذا المعنى فان العقل العملي هو أداة العيش ، وهو ضرورة للعيش ، ولولاه ربما بات الانسان غريبا منفردا ، او دائم الهروب مثل حيوان متوحش.

أما وقد وصلنا الى هذه النقطة ، فقد حان الوقت لبيان ان هذا المعنى على وجه التحديد ، هو الذي يوجب على الانسان ان يكون متواضعا ، اذا خالفه الآخرون في فكرة أو رأي أو مذهب. الأفكار التي نحملها أنا وأنت وغيرنا من الناس ، تنتمي في الأعم الأغلب الى توافقات اجتماعية ، أخذنا بها لأننا نعيش في وسط جماعة ، فلم نبتكرها بأنفسنا ولا وضعناها على طاولة المقارنة مع الأنماط البديلة ، كي نختار ما هو أفضل. بل حتى لو اخترنا ما نظنه أفضل ، فما هو الميزان الذي نرجع اليه في تحديد القيم التي نلقيها على هذا الجانب او ذاك ، قبل ان نقارن بينهما... اليس هو ذات الميزان الذي تشكل في ذهني وذهنك تحت تأثير المحيط الاجتماعي؟.

منذ نعومة أظفاره ، يتشرب الفرد الثقافة السائدة والأعراف والعادات المستقرة ، والاخلاقيات المعيارية التي تتبناها الجماعة ، فيتشكل على ضوئها عقله وذاكرته ، أي الطريقة التي يفكر بها ويعيش ، والمعايير التي يرجع اليها في الحكم على الأشياء. وحتى حين ينتقل الفرد الى جماعة جديدة ، كأن يتحول من دين الى آخر ، او من مذهب الى آخر ، أو يهاجر من بلد إلى آخر ، فانه يعيد تشكيل ذهنه وذاكرته ، أي منظومته العقلية ، على ضوء الثقافة السائدة في بيئته الاجتماعية الجديدة ، أي انه – بعبارة أخرى – ينتقل من تقليد الى تقليد. هذا حالي وحالك وحال الأغلبية الساحقة من سكان هذا الكوكب.

أقول الأغلبية الساحقة وليس الجميع. لأن هذا الكوكب يحوي أيضا أقلية صغيرة من السكان ، يمثلون "العقل المنشيء" بحسب تعبير اندريه لالاند ، او العقل النظري بحسب التعريف الموروث من فلاسفة اليونان. واضح من اسمه انه عقل لا يلتزم بالتوافقات الاجتماعية ، بل ربما كان شغله هو نقض الأساس الفلسفي /المنطقي الذي تقوم عليه تلك التوافقات وما يتعلق بها من معايير وقواعد.

لا يتسع المجال لتفصيل القول عن العقل في هذا الدور. لكن يهمني الإشارة الى فارق هام بين تعريف لالاند وتعريفات من سبقه. فهؤلاء قرروا ان العقل "نظري" بمعنى انه منشغل بمعادلات ذهنية ، لا يترتب عليها أي عمل ولا ترتبط بقضايا الواقع ، ربطا مباشرا. اما لالاند فقال انه "منشيء" بمعنى انه يخلق الأفكار الجديدة من عدم ، او انه ينطلق من فكرة قائمة ، فيتجاوزها الى مسافات وراءها لم تكن موجودة قبلئذ ، أي انه يخلق المسافات والمساحات ويملأها بالسكان ، أي الأفكار.

على أي حال فان تلك الأفكار النظرية ، هي التي تشكل الأساس للتطبيقات وعلوم الواقع ، مثل الرياضيات التي على ارضها بني الكمبيوتر وتطبيقاته وحسابات السفر والاحصاء وامثالها. واظن ان الفكرة قد اتضحت بما يغني عن مزيد البيان.

الخميس - 24 جمادى الآخرة 1446 هـ - 26 ديسمبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5095226

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

تعقيب على استاذنا البليهي

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

عقل الصبيان

 

 

 

 

 

 

 

19/12/2024

دعوة للخروج من قطار الكارثة

أود في هذه السطور التأكيد على الرؤية التي تبنتها مجموعة الاتصال العربي حول سوريا ، في اجتماعها بمدينة العقبة ، جنوب الأردن ، يوم الجمعة الماضي. الرؤية حظيت بدعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا ، فضلا عن الأمم المتحدة. وهي تشدد على إعادة بناء الدولة السورية ، بما يجعلها أوسع تمثيلا للمجتمع الوطني ، وجعل السلام خيارا وحيدا في العلاقة بين أطياف المجتمع.

يهمني جدا دعوة النخب العربية ولا سيما الاشقاء السوريين ، لدعم تلك الرؤية ، والاسهام في إعادة توجيه القطار السياسي نحو السلام واستئناف الحياة الطبيعية ، بعد عقد ونصف من التنازع الذي خلف دمارا هائلا في هذا البلد الجميل.

الداعي لهذا هو ما اسمعه من دعوات للانتقام ، أو تقاسم الكعكة ، او محاسبة المنتصرين ، او البحث عمن يتحمل المسؤولية عما جرى في السنوات الماضية. اعلم ان بعض هذه الدعوات منبعث من حمية صادقة ، لكني اعلم ايضا ان اكثرها هوس بالملاحم والصراعات ، والحماسة للفتن بمبرر وغير مبرر.

طيلة عقد ونصف تورطت سوريا في قطار الحرب الاهلية ، فترك 17 بالمائة من سكانها بيوتهم قسرا ، وانخرط مليون شخص في الحرب والنشاطات المتصلة بالحرب. وتعطلت جميع المدن الصناعية وسرقت معدات المصانع ، حتى القديمة منها. كما توقفت الاستثمارات الجديدة في مختلف القطاعات ، الصناعية والزراعية والخدمية. ونتيجة لهذا كله ، انخفض مستوى المعيشة ، فأمسى نصف السكان تقريبا في حالة فقر مدقع ، بدخل شهري يصل بالكاد الى 50 دولارا.

غرضي من هذا الكلام ليس بيان حجم الكارثة ، بل اقناع المترددين بأن اختيار السلام بعد عقد من التنازع ، ليس أمرا هينا ولا كلاما يلقى على عواهنه.

في زمن الحرب ، تتحول الحرب الى مصدر عيش لشريحة كبيرة من الناس ، وتمتليء النفوس بالحماسة والرغبة في الانتقام. كما توفر الفرصة للطامحين للزعامة كي يظهروا كفاءتهم في الحشد والتعبئة. وثمة – إضافة الى هذا – حكومات وجماعات ، تستفيد من الحرب اقتصاديا او سياسيا.

هذه العناصر التي تتبلور في ظرف الحرب ، لا تتحول بين عشية وضحاها الى مكونات سلام. لا يتخلى الناس عن مصادر عيشهم دون تمهيد مناسب. ولا تبرأ النفوس من أوهام الغلبة والرغبة في الانتقام ، دون قيام ظرف جديد ، يجعل الظرف السابق مستحيلا او غير مفيد ، بحيث يضطر المقاتلون والمستثمرون في الحرب للبحث عن مصادر عيش بديلة. الحقيقة ان علينا المساعدة في توفير مصادر العيش البديلة هذه ، ومساعدة المقاتلين وغيرهم على استثمارها. كذلك الامر بالنسبة للزعماء والمستفيدين من الحرب ، والجهات والدول التي كانت صاحبة مصلحة. كل هذه الأطراف يجب ان تحصل على بدائل مكافئة ، او على الأقل قريبة مما كانت تحصل عليه في الماضي ، كي لا تجد ان مصلحتها محصورة في إعاقة قطار السلام.

 فيما يخص النظام الجديد الذي لم تتضح صورته ، أرى ان المسألة الأكثر أهمية في هذه اللحظة ، هي تشجيع القوة السياسية المسيطرة على صيانة جهاز الدولة ، حتى لو كان فاسدا او ضعيف الفاعلية. تجارب الحروب والنزاعات الاهلية ، تخبرنا ان تفكيك الحكومة يجعل إعادة البناء مستحيلة ، كما يجعل الارتياب المتبادل حاكما على العلاقة بين أطياف المجتمع الوطني. لابد في ظرف كالذي تعيشه سوريا من "اللفياثان" بحسب منطق توماس هوبز ، أي القوة الرادعة للجميع والحاكمة فوق الجميع ، ولو كانت غاشمة. هذا ضرورة لسوريا ولدول الجوار أيضا. فاذا استقرت الأمور ، بات ممكنا فتح الباب لنقاش حر حول النظام الأكثر ضمانا للعدالة ، والأدق تمثيلا لمصالح كافة المواطنين.

اختم بدعوة الدول العربية جميعا الى الوقوف ماديا ومعنويا مع سوريا ، ودعم اقتصادها بشكل فوري ، كي ينخرط السوريون في مسيرة بناء بيوتهم ومزارعهم واعمالهم ، وبالتالي يوقفون امدادات الوقود التي كانت تغذي ماكنة الحرب.

الشرق الأوسط الخميس - 18 جمادى الآخرة 1446 هـ - 19 ديسمبر 2024

https://aawsat.com/node/5093110

مقالات ذات علاقة

 اجتياح الحدود

بدايات تحول في الازمة السورية
التعايش أو التقارب.. طريق واحد
درس الكارثة: نظام عربي للاستحابة العاجلة
سوريا بين خيار دايتون والحرب الاهلية
سوريا في مشهد جديد
سوريا قد تكون بوابة الحرب الباردة
عرب اوكرانيا وعرب روسيا
مصير المقاتلين الامميين
الواعظ السياسي

سوريا ليست معركتنا

 شراكة التراب وجدل المذاهب

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

كن طائفيا او كن ما شئت .. لكن لا تضحي بوطنك

وجهات "الخطر" وقهر العامة

 

 
  

12/12/2024

العقل العملي

 وفقا لشروحات اندريه لالاند ، التي تطرقنا لبعضها في الأسبوع الماضي ، فان "العقل المُنشأ" بضم الميم ، هو خلاصة الحكمة والتجربة الاجتماعية ، وهذا ما يسميه الناس عقلا. لفهم الفكرة ، تأمل في مغزى إشارات الناس حين يقولون "فلان عاقل" او يتحدثون عن "كلام عاقل" او "تصرف عقلاني" وأمثالها.

مغزى هذا الكلام ان الناس يشيرون الى رضاهم عن الشخص او فعله او قوله. لكن متى يرضى الناس عن شخص .. اليس حين يفعل شيئا يجاري فعلهم او يقول مثل كلامهم ، في محتواه او شكله ، او حين يلبس مثل لبسهم او يأكل مثل أكلهم.. الخ.

لتعرف الفرق .. افترض ان شخصا لبس بنطلون جينز ممزق ، كالذي يشيع لبسه بين الشباب اليوم ، وذهب لمقابلة وزير او مدير كبير ، فهل تتخيل ان الأشخاص المسؤولين عن إدخاله وترتيب مقابلته ، سيسمحون له بالدخول؟. لماذا لا يعتبرون الامر طبيعيا ، ويقولون ان اللباس لا يدل على صاحبه؟. الجواب ببساطة انهم سيعتبرونه غير عقلاني ، لأنه لا يلتزم بأعرافهم ، أي لا يشبههم. بل يبدو شاذا وغريبا. وربما يقولون انه "غير لائق". لماذا يا ترى اعتبروه غير لائق ، غير لائق بمن يلبسه او بهم ، او بالثقافة التي ينتمون اليها؟.

حسنا.. ماذا عنك؟.

لو كنت مدعوا للقاء شخصية رفيعة ، بل حتى لمقابلة وظيفية ، هل ستلبس الجينز الممزق ، ام ستختار اللباس المتعارف في البلد... ما الذي يدعوك لهذا الاختيار وليس ذاك؟.

مسايرة الجماعة هي ابرز وظائف "العقل العملي". والعقل العملي ابرز تجسيدات "العقل المُنشأ". وفقا لرؤية اندريه لالاند ، فان الجانب الأعظم من عمل العقل ، مكرس لترسيخ علاقة الفرد بالمحيط الاجتماعي ، وذلك باستلهام الثقافة والتجربة الاجتماعية ، وتحويلها الى قواعد سلوكية يتبعها الفرد بشكل عفوي. وعلى هذا الأساس يتحول الفرد الى "عضو" مندمج في البيئة الاجتماعية. ومن الامثلة على هذا الأشخاص الذين يهاجرون الى بلد اجنبي ، فيجتهدون في تعلم لغته ، وتقليد لهجة سكانه ، حتى يصبحوا مثلهم تماما ، لأن الانسان – بطبعه – لا يحب ان يفرز عن الجماعة ، او يعامل كشخص مختلف او غريب.

لعل الشرح السابق يجيب أيضا على السؤال المتداول: لماذا يلتزم قومنا بالطابور ونظام المرور ونظافة الحدائق ، حين يسافرون الى البلدان الأجنبية ، ولا يفعلون مثل ذلك حين يكونون في بلدهم. تتعلق المسألة بفهم توقعات الآخرين ، وتقديم الانسان نفسه لهم على نحو يتماشى مع تلك التوقعات.

لعلنا نلاحظ هذا المسار بوضوح في حالة المهاجرين الى مجتمعات أجنبية. لكنه يحصل – وان لم تلاحظه – في مجتمعك الخاص أيضا. أنا وأنت نعمل دون كلل لاقناع المجتمع المحيط بنا ، بأننا مؤهلون لعضويته ، كما نتجنب كل فعل يؤدي الى انفصالنا عنه او استبعادنا منه.

كرس اندريه لالاند معظم نقاشه عن "العقل المُنشأ" لتأكيد ان وظيفته المحورية ليست صناعة الأفكار الجديدة ، بل التواصل مع المحيط الاجتماعي بما فيه من بشر وأفكار وتوقعات. ينجز العقل هذه المهمة باستلهام الثقافة السائدة ، ثم إعادة انتاجها على نحو يتقبله المحيط كدليل على كفاءة صاحبه. تبدأ هذه الممارسة في وقت مبكر نسبيا ، لكنها تتصاعد عند نهايات مرحلة المراهقة وبداية الرجولة ، ولا سيما في سن العمل.

تفاعلات العقل في هذه المرحلة ، تسهم في انشاء ما نسميه "العرف العام" او "عرف العقلاء". ويشير مفهوم "العرف" الى المتوسط العام لمواقف الجمهور ، تجاه كل قضية من القضايا التي تبرز على مسرح الحياة اليومية. ولمن لا يعرف أهمية العرف ، فهو الوسيلة التي تفسر وفقها تطبيقات القانون العام واحكام الشريعة. ولتفسيراته – في غالب الأحيان – قوة القانون. وقد اتخذ في الثقافة الغربية أساسا لتحديد ما يعتبر حقا او باطلا.

هذا ببساطة هو "العقل المُنشأ" بضم الميم ، وهو يطابق – في رأيي – "العقل العملي" وفق التسمية القديمة.

الشرق الأوسط الخميس - 11 جمادى الآخرة 1446 هـ - 12 ديسمبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5090798

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

تعقيب على استاذنا البليهي

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

عقل الصبيان

05/12/2024

عقل الصبيان

 

في هذه الكتابة شيء من العسر. وأرجو من الأصدقاء الأعزاء الذين تفضلوا بقراءتها ، ان يتحملوا قليلا ، وأعدهم بأنها ستحل إشكالية مهمة جدا ، وكثيرة التكرار في النقاشات المتعلقة بالعقلاني واللاعقلاني في المعتقدات والأفكار ، ولا سيما في مدى التزام الفرد بما هو سائد في المحيط الاجتماعي من قناعات وآراء.

وكما وعدت في مقالة الأسبوع الماضي ، فاني سأتعرض لرؤية الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند المتعلقة بوظيفة العقل. لكني سأطرقها من زاوية مختلفة نوعا ما.

أخذا بعين الاعتبار مختلف الآراء التي عالجت وظائف العقل ومكانته في التفكير والتشريع ، والتي عرضها مفكرون قدامى او معاصرون ، استطيع تحديد ثلاث وظائف محورية للعقل ، يظهر دور كل منها في مرحلة عمرية محددة ، بدرجة اكبر من الاخرى. وأعني بهذا مرحلة الصبا المبكر ، ومرحلة الاندماج الاجتماعي (بداية سن العمل) ثم مرحلة الاستقلال الذهني.

سنبدأ بمرحلة الشباب المبكر ، حين يكون الانسان متلقيا ومستهلكا لما يراه او يسمعه في المجتمع المحيط به. دعنا نفترض انه صبي في الثانية عشرة من العمر ، وقد أخبره استاذه بأن الضوء والظلام ربما يجتمعان في وقت واحد ، أو ربما يكون الشخص موجودا وغائبا في نفس المكان ، او انه ثمة من هو صغير وكبير في ذات اللحظة. فهل تظن ان الصبي سيتقبل الفكرة ويصدق مقالة استاذه؟.

ان أردت التحقق من المسألة ، فقلها لصبي في هذ العمر ، واختبر رد فعله. لقد جربتها بنفسي مع عدة اشخاص في هذا العمر او دونه ، فضحك بعضهم ظنا انني أسرد عليهم نكتة او لغزا. آخرون سكتوا واجمين بين مصدق ومكذب. المهم اني لم اجد من يصدق إمكانية اجتماع المتناقضات ، مكانيا او زمانيا أو موضوعيا. فمن الذي اخبر أولئك الصبيان باستحالة اجتماع النقيضين ، وكيف اكتشفوا ان ما نذكره هو فعلا نقائض وليس مجرد عناصر منفصلة عن بعضها.

تعرف الفلاسفة على هذه القصة منذ قديم الزمان. وفي العصور الحديثة ، كانت محط اهتمام العديد من الفلاسفة البارزين ، لا سيما مع بروز النزعة التجريبية ، التي تنفي أي علم او معرفة عقلية قبل التجربة. ايمانويل كانط مثلا ، قال مجادلا التجريبيين: حين تجري تجربة ، ستحتاج لمعرفة مسبقة بالعناصر الداخلة فيها ومعايير قياس سلامة الناتج ، فمن أين جاءت تلك المعرفة ، هل هي نتاج لتجربة سابقة؟. لكن تلك التجربة تحتاج أيضا الى معرفة سابقة ، وهكذا سوف ندور وندور في حلقة مفرغة بلا بداية. وسيظهر في نهاية المطاف ، انه لا محيص من القبول بفرضية ان العقل مجهز– قبل أي تجربة – ببعض أدوات التعقل الضرورية للقيام بأشياء عديدة ، ومنها الدخول في تجارب. هذه الأدوات هي ما نعرفه باسم العقل الفطري او العقل المحض او المعارف القبلية. وهي تتمظهر في صورة حدس او تخيل أو تأملات منطقية ، لا يعرف الانسان ، سيما في مراحل عمرية مبكرة ، مصدرها او ضوابطها ، لكنه يجدها في نفسه فيستعملها ويثق في دلالاتها. ومع مرور الزمن تنضج هذه الأدوات وتتحول الى ما نسميه بالعقل العملي ، وهو مرحلة اعلى من عمل العقل ، يبرز دورها خصوصا مع تقدم الصبي الى مرحلة الشباب ، ولاسيما حين يحتاج لتقديم نفسه الى بقية اعضاء المجتمع. وهذا ما سنتحدث عنه في الأسبوع القادم ان شاء الله.

زبدة القول ان العقل في مرحلة الصبا ليس عقلا منتجا للافكار ، لكنه قادر على فهم الأشياء ، وتمييز ما هو ممتنع عقلا عما هو ممكن ، نظير ما ذكرناه عن المتناقضات.  هذه القابلية تسمح لنا بالقول ان الانسان لا يولد جاهلا ، بمعنى ان الجهل ليس هو الأصل في الانسان ، كما يظهر من كلام استاذنا إبراهيم البليهي.

مقالات ذات صلة:

الانشغال بالعلم والانشغال بالجن

تعقيب على استاذنا البليهي

لماذا يرفضون دور العقل؟

اليد الخفية التي تدير العالم

اصلاح العقل الجمعي

مشكلة الثقافة الدولتية

الثقافة كصنعة حكومية

العقل المساير والعقل المتمرد

 

الشرق الأوسط الخميس - 04 جمادى الآخرة 1446 هـ - 5 ديسمبر 2024 م

https://aawsat.com/node/5088397

المسافة بين الرؤيا والسياسة

قبل أسبوع من لقائه العاصف مع الرئيس الاوكراني (28-فبراير-2025) قال الرئيس الأمريكي انه يسعى للتوافق مع نظيره الروسي بوتين ، على طريقة لانه...