صديقي محمد الحرز ، الشاعر والكاتب المعروف ، متشكك في محتوى الجدالات
التي تدور حول تصنيف الحداثي والتقليدي. فهو يقول صراحة انه لا ينبغي
اتخاذ التصنيف السائد في اوربا معيارا للتمييز بين اهل الحداثة ومعارضيها. ويقول ايضا
انه ليس من السهل ان يتبنى شخص ما الحداثة صراحة وعلنا ، لان مجتمعنا لا زال
مرتابا في هذا التوجه ومن يتبناه. في نهاية المطاف فان الحرز لا يقدم فكرة ، بل
يحكي هما ، أظن ان كثيرا من الكتاب وأهل الرأي ، قد عاناه او عبر عنه في وقت من
الأوقات.محمد الحرز
وقريبا من هذا المعنى تحدث الاكاديمي المعروف د. حسن النعمي ،
عن النسق الثقافي العام في العالم العربي ، الذي يميل لانكار هيمنة العقل ، خلافا
للحال في أوربا ، التي تقدس العقل وتجعله محور المعرفة ومصدرها الوحيد. الحداثة
تدور حول العقل وكونه مهيمنا على العالم. وهذا معيار رئيس للتمايز بين الثقافة الاوروبية
المعاصرة ونظيرتها العربية ، التي تستمد معظم طاقتها من التجربة التاريخية ، وترجح
النقل على العقل أو نتاجه الصرف.
الامر العجيب في جدل الحداثة والتقاليد ، في منطقة
الخليج بأسرها ، ان اكثر المتحدثين عنه هم الأدباء ، واكثر المعارضين لهم هم
المشايخ. أقول انه عجيب ، لأن منظومة القيم والمعايير التي تعتبر جوهر الحداثة ،
منتشرة في كل جوانب حياة المجتمع ، بينما يركز الأدباء على "الأشكال"
الادبية الحديثة ، أكثر من تركيزهم على القيم المعيارية للحداثة.
افترض ان العديد من الكتاب الحداثيين خصوصا ،
منتبهون الى هذه الاشكالية. فمجتمعنا يتحرك بثبات واصرار نحو الحداثة ، بقيمها
ومعاييرها وتمظهراتها الحياتية. لتوضيح هذه المسألة ، سأشير الى التحول الجاري في ثلاثة
قطاعات ، هي التعليم ، الصحة ، والتجارة. تغطي هذه القطاعات ما يقرب من ثلثي
الحراك الاجتماعي اليومي ، في بلدنا واي بلد آخر ، فهي تستقطب قوة العمل وحركة راس
المال وتوجه الانشغالات الذهنية للافراد. هذه القطاعات باتت اليوم بعيدة عن القيم
التقليدية ، اكثر تمثلا لقيم الحداثة ، وأشد رغبة فيها. ربما لا يرى كثير من الناس
في هذه القطاعات تجسيدا للحداثة الناضجة ، لكني واثق تماما انه لا يمكن تصنيفها في
الدائرة التقليدية ، ان أردنا التزام معطيات الواقع المشهود.
انظر مثلا الى المحاور الرئيسية التي تدور حولها
معيشة الناس ، هل تنتمي الى عصر الحداثة ام عصر التقاليد ، اليست البنوك هي قطب
الرحى في حركة راس المال؟. ثم انظر الى مواقف الناس حين يشعرون بالمرض ، هل يتوسلون
بالجن والسحر والاساطير ام يراجعون الطبيب. صحيح ان هناك من يلجأ للخيار الأول ،
لكن خذ احصائية وزارة الصحة عن عدد مراجعي المستشفيات والعيادات في عام واحد ،
ستجد ان جميع الناس تقريبا اختاروا السبل الحديثة في علاج انفسهم. والحال نفسه
بالنسبة للتعليم وكافة النشاطات المعيشية.
الذي أردت قوله ان الحداثة ليست قصرا على التعبيرات
الأدبية ، كي نقول انها موجودة او مفقودة في المجتمع السعودي ومجتمعات الخليج
عموما. الحداثة منهج حياة يعتمد العقل والعلم كمصدر وحيد للمعرفة ، ومعيار لتمييز
ما يصح وما لا يصح. وهذه قد تتجسد في مفاهيم يعبر عنها لفظيا ، او تتجلى في سبل
عيش يتبعها الناس ويلتزمون بها وبما يترتب عليها ، حتى لو لم يطلقوا عليها اسم
الحداثة أو اوصافها.
الحداثة بقطبيها ، العلم والعقل ، ليست نظاما محدد
الأطراف. بل هي مشروع بنهايات مفتوحة للتطور والتحول. وكلما بلغ مرحلة انكشفت أمامها
مسارات جديدة. لذا لا ينبغي اعتبار المستوى الفعلي لمجتمع معين (الغرب مثلا)
معيارا نهائيا تقارن به المجتمعات الأخرى. ما هو مهم في الحقيقة هو ما ذكره د. حسن
النعمي في حديث مسجل: محورية العقل وكون نتاجه معيارا وحيدا لما يقبل او يرفض. ولا
أرانا بعيدين عن هذا ، حتى لو قبلنا بعض التحفظات من هنا او هناك.
الشرق الاوسط الخميس - 19
مُحرَّم 1446 هـ - 25 يوليو 2024 م
https://aawsat.com/node/5043509/
مقالات ذات صلة
الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض
لكتاب الحداثة كحاجة دينية
الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق