في كتابه الشهير "الاورغانون الجديد" قرر فرانسيس بيكون ان
"أصنام السوق" هي أسوأ العقبات التي تعيق التفكير السليم. و"اصنام السوق" كما
ذكرت في المقال السابق هي الكلام المتداول بين الناس ، وتعبيراتهم عن فهمهم
للطبيعة والعالم واللغة التي يستعملونها في وصف وتفسير المجردات.
وقد رأى بيكون ان "اللغة" ليست مجرد أداة للتفاهم والتواصل بين الناس ، بل هي "محدد" للأفكار المتداولة. فالكلمات ليست محايدة ، بل مشحونة بالمعاني والعواطف التي تشير لنقاط توافق بين الملقي والمتلقي. ولهذا يرتاح الناس لبعض ما يلقى عليهم ، سواء كان مكتوبا او لفظيا او حتى مصورا بالقدر الذي يوحي تماما بالفكرة ، ويتفاعلون معه ، او على العكس يتلقونه بانزعاج ويرفضونه.
اني اقدر تماما المبررات التي حملت الفيلسوف الشهير على اعتبار "اصنام
السوق" اكثر أهمية. لكن حين أنظر الى تجربة فعلية في المجتمعات الشرقية ،
فاني أجد ان جانبا هاما من الكلام المتداول والأعراف السائدة في عصرنا ، هي امتداد
للكلام وانماط التفكير التي سادت في قرون ماضية. بعبارة أخرى فان الجانب الأهم من
تداولاتنا الثقافية الراهنة ، هي تكرار لتداولات قديمة أو إعادة انتاج لأبرز عناصرها
في صيغ واطارات جديدة. وبناء على هذا التحليل ، فان الأصنام الأكثر تأثيرا في
المجتمعات الشرقية على وجه الخصوص هي "أصنام المسرح" ، التي تشير لتأثير
الأسلاف.
لقد كنت أمر اليوم على كتابات سابقة ، فذكرتني إحداها بقصة
"المهابهاراتا" وهي أعظم الملاحم الشعرية التي عرفها تاريخ العالم. لقد شاهدت
بعض حلقات المسلسل التلفزيوني المبني على هذه القصة. لكني لم اطلع على نصها
المكتوب. تتألف هذه الملحمة المكتوبة بالسنسكريتية ، لغة الهند القديمة ، من 100 ألف بيت شعر ، إضافة لقطع نثرية تروي حوادث وحكما
ونصائح ، فضلا عن تعاليم العقيدة الهندوسية. ويبلغ حجمها الإجمالي نحو 1.8 مليون
كلمة.
للمهابهاراتا تأثير عميق على ثقافة الجمهور في الهند ، نظرا لمزجها الفريد
بين العقائد الدينية والمقولات الفلسفية ، وبين قصص ابطال التاريخ الحقيقيين
والاسطوريين ، الأمر الذي حولها من أسطورة الى ما يشبه نصا مقدسا ، او - على الأقل
- شيئا من ظلال النصوص المقدسة.
لقد تساءلت مرارا: ما الذي يجعل الناس ، لا سيما المتعلمين منهم ، يستأنسون
بقراءة هذه الملحمة ، ويرتاحون للاستماع اليها ، او مشاهدة التمثيل المتخيل عن
حوادثها؟.. هل يجدون انفسهم في طياتها ، ام يتمنون ان يكونوا بين رجالاتها ، ام
يودون استعادة مجرياتها في زمنهم الحاضر؟.
كان ذهني مشغولا بهذه الأسئلة حين مررت بتغريدة للأستاذ يوسف أبا الخيل دون
فيها ملاحظة صادمة ، يقول فيها ان السنة والشيعة المعاصرين ، لازالوا منخرطين في
خصومات اسلافهم ، رغم انه لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، وان ضرورات حياتهم المعاصرة
توجب ان يركزوا على تنمية مجتمعاتهم ، بدل الانشغال بما جرى في الماضي.
بعدما توقفت عند هذه الملاحظة ، وجدت أن سؤالي السابق عن علاقة الجمهور
الهندي بقصص "المهابهاراتا" يتطابق تماما مع واقعنا كمسلمين. فنحن أيضا منغمسون
في تاريخنا ، في انتصاراته وهزائمه ، في جمالاته ومكائده ، في أساطيره ورواياته ،
حتى ليخيل للإنسان انه يشارك في تمثيل تلك المسرحية الطويلة ، بل لعله يرى فيها
ذاته الحقيقية ، مع انها منفصلة تماما عن واقعه ومتطلبات حياته.
اليس هذي هو الصورة الكاملة لتأثير "أصنام المسرح" التي تحدث عنها
فرانسيس بيكون؟. السنا نعيد تمثيل تاريخ اسلافنا ، بما فيه من أفكار وحكم وأساطير
وأخبار وأشخاص ، بدل ان نصنع واقعا جديدا ينتمي الينا والى حاجاتنا وتطلعاتنا؟.
الشرق الأوسط الأربعاء - 26 شهر رمضان 1443 هـ - 27 أبريل
2022 مـ رقم العدد
[15856]
https://aawsat.com/home/article/3614251/
مقالات ذات علاقة
أصنام الحياة
الخيار الحرج بين الهوية والتقدم
العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق