تدوينات مقترحة

20/04/2022

أصنام الحياة

"صنم المسرح" هو العنوان الذي أطلقه الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) على الآراء والتقاليد والعناصر الثقافية الأخرى ، التي نرثها عن أسلافنا ، وتسهم في تشكيل الجانب الأبرز من ذهنيتنا ، اي خلفية سلوكنا وتفكيرنا في الحياة والأشياء.  

كلنا نتأثر بتراث الأسلاف ، فهو الوسط الطبيعي لحياتنا المبكرة. وهو الذي يربطنا بالأشخاص الآخرين في محيطنا العائلي ، منذ لحظة ولادتنا. وحين نشب عن الطوق ، ونبدأ في التعرف على العالم خارج إطار العائلة ، عندها نتعرض لمصادر تأثير أخرى ، أطلق عليها بيكون اسم "صنم السوق".

فرانسيس بيكون

"صنم السوق" هو ما نسميه اليوم الرأي العام  أو الثقافة العامة ، اي الانطباعات الاجمالية التي يحملها غالبية الناس ، وطريقة تعبيرهم عن مواقفهم تجاه ما يحبون وما يكرهون ، ومنها أيضا نظرتهم للآخرين: الزعماء والشخصيات المشهورة ومصادر التأثير الثقافي ، وكذا نظرتهم للحوادث والنزاعات والقضايا المثيرة للاهتمام.

"صنم المسرح" و "صنم السوق" اثنان من أربعة أصنام ، اتخذها الفيلسوف نموذجا تحليليا لفهم حركة العقل البشري ، والطريقة التي يتبعها في تفكيك الاشياء وانتاج المعاني التي تعيد ربطها بحركة الحياة. كان بيكون يسعى للاجابة على سؤال في غاية الجدية ، نلخصه على الوجه التالي:

-         حين نفكر في موضوع ، هل تعمل عقولنا بصورة مستقلة ، فتنظر للاشياء نظرة محايدة. ام أنها – على العكس - تعمل كمرآة تكثف ما يوجد في البيئة الاجتماعية ، وتقرأ الخط الجامع فيما بينها ، ثم تعيد انتاجه على شكل قاعدة أو فكرة؟.

حاول بيكون والعديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين جاؤوا من بعده ، وضع خط يميز ما هو نتاج حقيقي للعقل ، اي ما نسميه التفكر ، عما هو مجرد تكرار لما يعرفه الناس وما اعتادوا عليه. حاول هؤلاء المفكرون ايضاح ان العقل لا يعمل في فراغ ، بل هو عرضة للتأثر بعوامل مختلفة ، بعضها نابع من داخل الانسان (مثل حاجاته الشخصية وهمومه وميوله ونتائج التجارب التي خاضها بنفسه) وبعضها الآخر هو انعكاس للمعارف والمواقف والهموم الدائرة في المجتمع ، والتي توجب على اعضائه ان يتبنوا منها موقفا منسجما مع التيار الاجتماعي الاوسع.

بعبارة اخرى فان عقل الانسان – من حيث المبدأ – ابن بيئته. لكن هذا الاساس لا يبقى على الدوام. بقدر ما ينفتح الانسان على أجواء مختلفة ويلتقي مع اشخاص جدد ، ويقرأ أفكارا غير مألوفة ، فان عقله سيبدأ باكتشاف ذاته المستقلة عن تأثيرات المحيط وتراث الاسلاف. في هذه المرحلة يتخذ العقل دور المحقق الذي يسائل ما استقر في تلافيف الذاكرة ، ويجادل ما يتوجه اليه من الخارج ، قبل ان يقبله أو يرفضه.

هذه هي مرحلة الانعتاق والتحرر الداخلي ، التي ينبغي لكل انسان ان يجاهد كي يبلغها. وهي مرحلة لا تخلو من عسر ، بل كفاح مرير للتحرر من هيمنة القناعات التي ترسخت في ذهن الانسان وتحولت الى بديهيات لا يفكر فيها الانسان ولا يسائلها ، واشياء ارتبطت بها مصالحه وعلاقاته ونظام معيشته ، فليس من السهل ان يتنكر لها او يخاتلها. هذه هي الاصنام التي اسماها بيكون "اصنام المسرح" و "اصنام السوق".  

من المهم ان نفهم جيدا هذا السياق ، لأننا سوف نواجه – اليوم او غدا – تلك الاسئلة العسيرة. نحن بحاجة لتوجيه الأسئلة الصحيحة الى انفسنا قبل الغير ، الاسئلة الضرورية لتنوير انفسنا وعقولنا ، سواء اقتنع الآخرون بها ام لا.

الشرق الأوسط الأربعاء - 19 شهر رمضان 1443 هـ - 20 أبريل 2022 مـ رقم العدد [15849]

https://aawsat.com/node/3601166


مقالات ذات علاقة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

الـدين والمعـرفة الدينـية

الصنم الخامس

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

كيف تولد الجماعة

نسبية المعرفة الدينية

الهوية المتأزمة

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق