بعيدا عن التداول التعبوي للصحافة المحلية والتلفزيون ، الذي ينسب الحملة الارهابية التي تتعرض لها بلادنا الى "الغلو في الدين" ، فان النظر من زوايا اخرى ، قد يكشف ان الغلو ليس العلة التامة لهذه الحملة الاثيمة. نحن بحاجة الى تحليل العنف كظاهرة اجتماعية وليس الاكتفاء بتحديد المسؤولية.
التحليل هو الوسيلة الوحيدة لتحويل
الواقعة من لغز الى معادلة قابلة للفحص.
الخطوة الاولى لفهم الظاهرة الاجتماعية ، هي تفكيكها ودراسة صور التفاعل
بين اجزائها من جهة ، وبين كل منها والحراك الاجتماعي العام من جهة اخرى. مثل هذه
الدراسة هي التي تخبرنا عن جذور الظاهرة في بنية المجتمع الثقافية والعلائقية. وهي
التي تكشف ان كان الحدث مجرد دمل تفجر وانتهى امره ، او هو بداية لحراك اجتماعي
اوسع. واخيرا فهي السبيل الوحيد لمعرفة اليات استمرار او افول الظاهرة المدروسة.
يلعب الدين كما هو معروف دورا ثنائيا في
اضفاء القيمة على الفعل الانساني ، فهو يحتضن بعضها ويصنفها ضمن
"المعروف" ويرفض الاخرى التي تصنف منكرا. تنزيل القيمة النظرية على
الواقعة المحددة هو فعل الانسان. ولهذا تجد الناس يختلفون في تقييم عمل واحد ،
فبعضهم يراه معروفا ويراه اخرون منكرا. وتطرح فكرة الغلو في الدين نفس الاشكالية ،
فهي تقول – ضمنيا – ان ما رآه الارهابيون معروفا هو منكر في حقيقة الامر او في راي
الاكثرية الغالبة.
والسؤال الذي تثيره هذه الفرضية: ما هي
الاسباب التي تجعل هؤلاء او غيرهم ، يحملون القيمة النظرية على هذا المحمل دون
العكس ؟. بكلمة اخرى لماذا يميل بعض الناس في بعض الأوقات ، الى الاخذ بتفسيرات
ضيقة او متشددة او غريبة للنص الديني ، فينزلون القيمة المجردة على محمل خاص ،
بينما يميل معظم الناس الى تفسيرات اخرى؟.
الاجابة على هذا السؤال ليست موجودة في
القيمة الدينية ذاتها ، بل في عوامل اخرى دفعت الاشخاص المعنيين الى هذا السلوك
دون غيره. ذهنية الانسان الفرد هي بمثابة مطبخ ترد اليه انواع من المدخلات بعضها
يتلاشى حتى لا يكاد يظهر له اثر في الطبخة ، وبعضها يبقى محافظا على قوامه دون
تغيير ، بينما تختلط العناصر الاخرى وتتفاعل فيما بينها لتظهر على صورة جديدة
مختلفة عن كل واحد من مكوناتها الاولية.
الاجابة موجودة في البيئة الاجتماعية
التي يتعرف الانسان الفرد من خلالها على نفسه وموقعه من الغير ، اي هويته كفرد.
هذه البيئة ليست صنيعة التوجيه الثقافي بل هي محصلة التفاعل الدائم بين مجموعة
عوامل بعضها مرتبط بالثقافة وبعضها بعيد عنها. من بين تلك العوامل مثلا موقع
البلاد ضمن خطوط الصراع السياسي الاقليمي او الدولي ، ومن بينها مخرجات الحراك
الاقتصادي ، السلبية والايجابية.
لكن
اهم ما ينبغي دراسته في رايي هو طبيعة الظرف الاجتماعي-الثقافي العام الذي تعيشه
البلاد بعد ثلاثة عقود من بداية خطط التنمية. يولد النمو الاقتصادي الكثير من
المخرجات الاجتماعية من خلال تغييره لمنظومات القيم وتوازنات القوة السائدة في
المجتمع. المجتمع ليس مجموع الافراد بل نظام العلاقات السائد بين افراده والقيم
الناظمة للفعل الفردي والجمعي. لقد انهار نظام المجتمع القديم مع تقدم مشروع التنمية الاقتصادية ، فما
هي طبيعة النظام الجديد الذي يفترض ان يحل محله فيلبي حاجة الفرد الى الانتماء او
"الهوية"؟ هل نرى نظاما بالفعل ام حشودا من الناس تبحث عن نظام ؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق