09/05/2018

العيش في ثياب الماضين

|| اذا كان الفقيه المعاصر سيعتمد الاراء والاستدلالات التي تبناها قدامى الفقهاء ، فما الحاجة للاجتهاد في هذا الزمن؟. ||
الغالبية الساحقة من فقهاء المسلمين متفقون ، على ان الاجتهاد ضرورة لتمكين الشريعة من استيعاب التحديات المستجدة في كل زمن. نعرف طبعا ان محرك الاجتهاد هو الاسئلة التي لم تبرز على سطح المجتمع فيما سبق ، وكذلك الاسئلة التي ماعادت اجوبتها القديمة مقنعة او كافية.
مفهوم أيضا ان عملية الاجتهاد ، تتطلب مؤهلات علمية لا تتوفر لغير قلة من الباحثين المتعمقين في دراسة النص الديني من جهة وأدوات الاستنباط من جهة أخرى.  
مع نظم البيانات الجغرافية الحديثة هل نحتاج لوسائل اثبات الوقت والقبلة التي ورثناها من الفقه القديم؟ 
ربما يكون الامام ابو حنيفة الذي عاش في القرن الثامن الميلادي (ت 767م) اول فقيه مسلم يمارس الاجتهاد. وقد وضع جملة من القواعد المنهجية ، لا زالت معتمدة حتى الان. اشير أيضا للدور التأسيسي للامام الشافعي )ت. 820م) الذي يعتبر كتابه "الرسالة" أول عمل منهجي في هذا الحقل.
خلال الاثني عشر قرنا الماضية ، انتج الفقهاء آلاف البحوث المتينة في كل ما يتعلق بفروع الدين. استطيع القول – مع بعض التحفظ – ان جميع الآيات والاحاديث التي تستفاد منها أحكام شرعية ، قد درست مئات المرات ، على يد مئات الفقهاء خلال مسيرة الفقه الطويلة. ونظرا لكثافة وتنوع هذه الابحاث ، فان فقهاء اليوم لا يجدون بدا من البدء بمراجعتها حين تعرض لهم اي مسألة جديدة. الحقيقة ان ذلك التراث الضخم قد وفر على المعاصرين ، جانبا كبيرا من كلفة البحث في المسائل. ومن هنا فان آراء السابقين تشكل الجزء الاكبر من أي بحث يقدمه فقهاء اليوم.
هذا يستدعي بطبيعة الحال سؤالا ، يبدو غريبا بعض الشيء ، خلاصته: اذا كان الفقيه المعاصر سيعتمد الاراء والاستدلالات التي تبناها قدامى الفقهاء ، فما الحاجة الى الاجتهاد في هذا الزمن؟.
كنت قد وجهت هذا السؤال لأحد أساتذتي ، فأخبرني ان الرجوع للقدامى غرضه الاستعلام لا الالتزام بارائهم ، تماما كما يرجع أي باحث لكتب الآخرين ، كي يوسع أفقه ويتعرف على أبعاد للمسألة لم ترد في ذهنه قبلئذ.
هذا الجواب الذي يبدو معقولا نوعا ما ، لم يقنعني. لأني وجدت من أسأل عنهم ، متقيدين حرفيا ، ليس فقط باستدلالات السابقين وآرائهم ، بل – وهذا هو الأدهى – بتصورهم لموضوعات المسائل وتكييفها. ولأن الفقه بطبيعته شكلي ، يولي اهتماما كبيرا للأسماء ، فان معظم ما توافق السابقون على تعريفه ، قد انتقل بقضه وقضيضه الى دراسات الفقهاء المعاصرين.
أذكر للمناسبة ان أستاذا في الفقه قد عرض على بحار عجوز ، الطريقة التي ذكرها الفقهاء ، لتحديد أوقات الصلاة والقبلة في عرض البحر. فأجابه البحار ببساطة: لو ركبت سفينة لتركت كل هذا الكلام ، لأن كاتبه لا يعرف البحر ولم يجربه. ثم شرح طريقة البحارة في حساب الزمن والمسافات والاتجاهات ، وكانت مختلفة عما ذكر في الكتاب. وحسب علمي فان الباب المسمى "كتاب الوقت والقبلة" ما عاد يدرس الان ، لان اساتذة الفقه اقتنعوا اخيرا ان الاعتماد على الساعة والبوصلة ، أجدى وانفع مما توارثوه.
لازال سؤالي حائرا: هل يمكن لمن تشكلت ذهنيته من خلال دراسة التراث الفقهي ، هل يمكن له ان ينظر الى المسائل المستجدة ، من دون ان يتأثر بتصويرات السابقين وآرائهم ، وهل يستطيع التعبير عن الرأي الذي توصل اليه ، اذا كان مخالفا تماما لآراء السابقين في نفس المسألة ، او في مسألة تحمل نفس الأسم او الصورة؟.
الشرق الاوسط الأربعاء - 23 شعبان 1439 هـ - 09 مايو 2018 مـ رقم العدد [14407]
http://aawsat.com/node/1262266

02/05/2018

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

|| ادعو لصياغة نموذج جديد للفكرة الدينية مواكب لتحولات الحياة المعاصرة ، يتأسس على رؤية غير تقليدية لمكانة الانسان في العالم الجديد ، وموقع الدين في حياته ||
مع اقتراب شهر رمضان المبارك ، يتجدد الحديث عن الحاجة الى تجديد الخطاب الديني. وهو مطلب يتفق غالبية المسلمين على عمومه. لكن آراءهم تتباين في معنى التجديد ومجالاته وحدوده. فمعظم الناس يصرفه الى تجديد الفقه وتيسير الاحكام ، وترك الشاذ والعسير. ويدعو فريق منهم الى مراعاة ما استجد في حياة الناس ، وما جاء في سياق الحداثة من تحولات ، في مصادر العيش وأنماطه أو في العلاقة بين الناس.
مصطفى ملكيان
لكني أود دعوة القاريء الى معنى أبعد قليلا مما سبق. أعني به صياغة نموذج جديد للفكرة الدينية ، قادر على مواكبة تحولات الحياة في العصر الجديد ، الذي أهم سماته عولمة السوق والثقافة وسيولة القيم والهويات. نموذج كهذا ينبغي تأسيسه على رؤية غير تقليدية لمكانة الانسان في العالم الجديد ، وموقع الدين في حياته. وهو يستدعي بالضرورة تحررا من الانساق والاعراف الموروثة ، أي ما ورثناه وما تعارفنا عليه باعتباره صورة وحيدة للدين ، او تعبيرا وحيدا عن الايمان. 
 في رمضان الماضي قدم العلامة د. محمد شحرور رؤية عميقة في هذا الاتجاه ، خلاصتها ان العالم الديني هو العالم الذي تتجلى فيه عقلانية البشر. الدنيا العاقلة هي التطبيق القاعدي للدين. ومن هنا فهو يميز بين الرؤية الكونية التي تصل الانسان بالعالم ككل ، وما فيه من بشر وأشياء ، وبين التشريعات والاحكام التي تحمل سمات الجماعة والمكان.
وفي هذا السياق يلح شحرور على ان الواجبات والمحرمات الدينية محدودة العدد. أما العشرات من الاحكام الاخرى التي تنطوي على الزام او منع ، فهي جزء من نظام ثقافي او قانوني ، يضعه المجتمع في ظرف محدد ، بحسب حاجاته أو أعرافه. ومن هنا فهي ذات مضمون محلي ان صح التعبير ،  وليست قواعد عمل  كونية ، كنظيرتها المستقاة من القيم العليا الاساسية.
في سياق قريب اقترح د. مصطفى ملكيان التركيز على ركني العقلانية والمعنوية ، كعمودين متساندين لأي رؤية دينية جديدة. المعنوية عنده هي جوهر الدين ومحور تمايزه عن الايديولوجيات البشرية. انها جوهر كافة الاديان ، وربما تشكل نقطة التقاء بين أتباعها ، بل وحتى نقطة توافق مع اولئك الذين لا يتبعون أي دين.
أما العقلانية عنده فتعني في أحد وجوهها ، قابلية الدعاوى الدينية للاختبار في هذه الدنيا. الدين المفيد هو ذلك الذي يمكنه تقديم حلول لمشكلات البشر الدنيوية ، ولا يكتفي باحالة العلاج الى الاخرة. لو اخذت نوعين من العلوم ، احدهما يعرض حلولا يمكن لك اختبار ثمراتها الآن ، بينما يدعوك العلم الثاني لتطبيق مقولاته ، وانتظار نتائج اختبارها العملي في الاخرة ، فما الذي سيتخاره الانسان العاقل؟.
الواضح ان كلا الرجلين يشير الى ثلاثة أركان للتفكير الديني الجديد: أولها محورية العقل في التشريع وتقديمه على النقل. وثانيها التمييز بين القيم الكبرى المعيارية ، وبين التشريعات ذات الطبيعة المؤقتة او المحلية. وثالثها هو التركيز على آنية الحل الديني ، وضرورة كونه قابلا للاختبار في الحياة الدنيا.
ينطلق الرجلان من فرضية ان الله سبحانه انزل الدين من أجل الانسان. ولم يخلق الانسان من أجل الدين. وبهذا فان مفهوم الطاعة والعبادة والايمان والسلوك الى الله ، يتخذ معنى مغايرا لما عرفناه من خلال تراث الماضين.
قد تتفق مع شحرور وملكيان وقد تخالفهما. لكن تنظيرات الرجلين تفتح افاقا للتأمل في معنى التجديد ، يتجاوز ما تعارفنا عليه حتى الآن. 
الشرق الاوسط الأربعاء - 16 شعبان 1439 هـ - 02 مايو 2018 مـ رقم العدد [14400]
http://aawsat.com/node/1255201

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...