15/03/2017

في معنى الوصف الديني


النقاش حول خط فاصل بين ما نعتبره موضوعا دينيا وما نعتبره خارج الدين ، يثير بالتاكيد بعض المخاوف. ثمة من ينظر لكل اشارة عن "خارج الدين" كدعوة مستترة الى العلمانية. ولذا فقد يفيدنا ان نتعرض باختصار لمعنى الوصف الديني للأشياء.
حين تصف شيئا بأنه إسلامي او ديني ، فانت تشير على الأغلب الى واحد من أربعة معان. أولها نسبة الموصوف الى الدين بشكل مباشر ، مثل وصف للصلاة بانها واجب ديني. المعنى الثاني يتعلق بالافعال المكرسة للدين دون غيره ، فهي متصلة بالدين بشكل غير مباشر ، مثل المؤسسات الدعوية ومدارس العلم الشرعي. أما المعنى الثالث فيشير فقط الى التزام الموصوف بالمعايير الدينية ، ويتعلق عادة بالافعال التي لا تتصل مباشرة او مداورة بالدين ، لكنها تلتزم بقواعده ، مثل وصف قوانين الدولة بانها اسلامية ، ووصف التعاملات المالية الخالية من الفائدة المشروطة بالمعاملات الاسلامية. ويشير المعنى الرابع الى الاشياء أو الافعال القائمة ضمن المجال الديني ، او المنتمية ثقافيا او موضوعيا الى جماعة المسلمين ، لكن من دون علاقة عضوية او وظيفية بالدين. مثل وصفنا لبعض انماط العمارة بانها اسلامية ، ومثلها المجتمع الاسلامي والتاريخ الاسلامي.. الخ. فهذه المعاني تنسب الموصوف الى البشر والفضاء الاجتماعي وليس المنظومة النظرية للدين. 
تمثال ابن رشد في قرطبة - اسبانيا
الفارق بين المعاني الأربعة يكمن في طبيعة الوصف وما يترتب عليه من قيمة. واضح ان المعنى الأول يشير الى قيمة ذاتية لاتصاله عضويا بالدين. بينما يحمل الثاني والثالث قيمة مدعاة من قبل اصحابه ، ولذا فهو مشروط بمدى تحقيق تلك الافعال للأغراض المضافة الى المعنى الاول وليست جزء منه. اما المعنى الرابع فهو الأكثر شيوعا ، وهو – كما سلف – مجرد وصف اجرائي لا يحمل قيمة محددة.
واضح عندي قول بعض القائلين بأن الدين شامل ، لانه يتدخل في كل شيء من خلال توجيهه لسلوك البشر. وهذا يغطي كافة مناحي الحياة دون استثناء. لكن هذه مغالطة واضحة. فالسلوكيات الفاضلة مثلا ، لا تعد أفعالا دينية ولا تتطلب معرفة بالدين ولا نية التقرب الى الله. لأن الاخلاقيات تنتمي لمنظومة القيم العليا السابقة للدين ، والتي أجمع عليها عقلاء البشر في كل الازمنة والأمصار. وقد أطلق عليها الاصوليون المسلمون اسم "المستقلات العقلية" الذي يشير الى مصدرها البشري.
ليس من العسير ان تجد انواعا من الصفات والسلوكيات الفاضلة عند الملحدين الذين لا يؤمنون بأي دين. صفات مثل الصدق في المعاملة والاخلاص في العمل والتضحية بالمال والجهد لاعانة الضعفاء. ومثله طلب العلم والانفاق عليه وعمارة الارض وصيانة البيئة الكونية. فهذه كلها من الفضائل التي يأمر بها العقل منفردا. ويؤيدها الدين من باب تكميل مكارم الاخلاق ، لا من باب تأسيسها.
المؤكد ان الدعوة الى تمييز "داخل الدين" عن "خارج الدين" لا تخلو من لمسة علمانية. لكن غرضها ليس اقصاء الدين عن الحياة ، بل تصحيح العلاقة بين الشرع والعقل ، او الحكمة والشريعة ، بحسب تعبير الفيلسوف ابن رشد. تصحيح هذه العلاقة ضروري لتعزيز فاعلية الدين في مجاله ، وتخفيف ما أثقله من كلف الافعال التي تقع خارجا عنه ، لا سيما كلف النزاعات الأهلية وتأزمات الهوية. وهو ضروري لتحرير عقل المسلم من قلق الهوية والحدود ، الذي نعتقد انه ساهم في ابعاد المسلمين عن ثورة العلم والتكنولوجيا التي صنعت حضارة هذا العصر.
الشرق الاوسط 15 مارس 2017

08/03/2017

داخل الدين.. خارج الدين


معظم نقاشات الاصلاح الديني تنصرف الى جانبين: تطوير الاجتهاد والاعتدال في الأحكام. ثمة بعد مهمل ، لكني أراه أكثر أهمية وضرورة ، يتمثل في الفرز بين ما هو موضوع ديني ، وما يمكن ان نسميه خارج الدين ، اي القضايا التي تركها الشارع للعرف وعقول الناس.

جادلت في مقال الاسبوع الماضي بان التشدد في الاحكام قد يكون عرضا لعلة أخرى ، هي الجمود الايديولوجي. وأظن ان هذا بدوره ناتج عن تحول الخطاب الديني من وعاء للفكرة الدينية الى هدف بحد ذاته. ونقصد بالخطاب مجموع أدوات العلاقة بين الدعاة الى الدين وبين الجمهور ، سواء كانت معارف مكتوبة أو مؤسسات أو أنماط علاقة أو نظم عمل او تقاليد أو فولكلور.
أقول ان البعد الثالث مقدم على تطوير الاجتهاد والاعتدال في الأحكام. لأن وظيفة هذين هي خدمة الغرض النهائي للخطاب ، أي المحافظة على مكانة الدين في الحياة الفردية والعامة. فالواضح اليوم ان شريحة معتبرة من العاملين في المجال الديني ، تركز على تأكيد مكانة الخطاب نفسه ، اي تأكيد مكانة المعارف المرتبطة به والاشخاص الذين يمثلونه والمؤسسات التي قامت في إطاره وحتى الأعراف والتقاليد والعلاقات التي نشأت كناتج جانبي في ظله.
لتوضيح الفكرة سوف اقارنها بالفرق بين الاغراض والوسائل مثل ان يهتم الناس بالمسجد اكثر من اهتمامهم بالصلاة. ومثل اهتمامهم بتلاوة القرآن وحفظه أكثر من معانيه وتعاليمه. ومنه ايضا اهتماهم بتفادي الارباح الربوية في البنوك ، دون اهتمام مواز بالغرض الذي حرم الربا من أجله.
حين أقرأ الآراء التي ينشرها بعض الدعاة المعاصرين ، كتبرير لمواقفهم من قضايا سياسية او جدالات اجتماعية ، أرى فيها اهتماما بمكانة "الجماعة" او التيار ، يفوق اهتمامهم بالأغراض الكبرى للدين وقيمه العليا.
ناقشت في وقت سابق صديقا من الدعاة المعروفين حول ما يكتبه عن الصراع بين الاخوان المسلمين والحكومة المصرية ، ولا سيما استهانته بوحدة المجتمع المصري والسلم الاهلي فيه ، واعتباره كل مخالف للاخوان منافقا او مغفلا ومطية للأجانب. فأجابني ببساطة ان "صراع الحق والباطل لا يحتمل المواقف الرمادية: اما ان تكون مع الحق او مع الباطل ، مع الاخوان او الحكومة".
سواء كنا مع احد الطرفين او ضدهما ، فان اعتبار احدهما معيارا للحق والباطل ، يعني بالضبط نقل صراع سياسي من مستواه العرفي الى مستوى المقدس الديني. تدار الصراعات السياسية بناء على تقديرات عقلية ، تتغير تبعا لمصالح أطراف الصراع. وقد يلتزم هؤلاء بالمعايير الاخلاقية أو يغفلونها. لكن اعتبارها موضوعا دينيا ، يترتب عليه عقاب وثواب أخروي ، ينطوي على مخاطرة الابتداع في الدين. والابتداع كما نعلم هو ان تدخل في الدين ما ليس منه.
لا شك ان اقحام هذا النوع من صراعات المصالح في المجال الديني ، ينطوي على تكلف كبير. سواء عبرنا عنه باعتدال او بخشونة ، وسواء اتبعنا في التوصل اليه منهج اجتهاد تقليدي أو حديث. جوهر المشكلة هو إلباس العرفي ثوب المقدس ، وليس طريقة التعبير عنه.
اقوى المبررات التي تطرح في مقابل هذه الرؤية ، هو قولهم ان الدين منهج يتسع لقضايا الحياة كلها دون استثناء. وهو قول مرسل لا يستند الى دليل ديني يتحمل ثقله. لكنه شائع جدا بين المسلمين الى حد اعتباره من المسلمات.
ومن هنا فان المهمة الاكثر إلحاحا في مسار الاصلاح الديني ، هي مراجعة العلاقة بين الدين وقضايا الحياة ، لرسم الخط الفاصل بين موضوعات الدين وما هو خارج الدين.
الشرق الاوسط 8 مارس 2017

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...