16/11/2016

كسب الارض وكسب القلوب


بعد شهر من بدء عمليات الموصل ، استعاد الجيش العراقي جميع البلدات التابعة للمحافظة ، إضافة الى عدة أحياء داخل المدينة ، خلافا لتقديرات امريكية سابقة بان العملية ستأخذ نصف عام أو أكثر. هذه المفارقة تخبرنا ان سكان الموصل لم ينهضوا لنصرة داعش ، بل تركوهم وخليفتهم وحيدين في الميدان.
المؤكد ان النخبة السياسية سعيدة بما تحقق. فهو يؤكد ان المدينة تكره داعش ومشروعه ، رغم انها لم تكن - قبل ذلك - محبة لحكومة بغداد. عامة العراقيين أيضا تفاءلوا بان الحروب المتنقلة في بلدهم تطوي الآن صفحتها الأخيرة. لكني أخشى ان ينخدع السياسيون بوهج الانتصار ، فيغفلوا عن واحد من أبرز دلالاته ، اعني به تخلي الموصليين عن داعش. على صناع القرار في العاصمة ان يشعروا – بدل ذلك - بالقلق ، وان يتأملوا مليا في الاسباب التي أدت إليه وامكانية تكراره.

هذا الحدث لم يأت بلا سابقة. ففي يوليو 2003 هاجمت قوة امريكية منزلا في شمال الموصل يختبيء فيه عدي وقصي ابنا صدام حسين. وحين سيطر المهاجمون على المنزل ، وجدوا ثلاث جثث فحسب ، تعود للرجلين وابن قصي الشاب. لم ينهض رجل واحد من أهل الموصل لنصرتهم ، بمن فيهم اصحاب البيت نفسه وجيرانهم ، فضلا عن بقية أهل المدينة التي ينتسب اليها معظم القيادات الوسطى في الجيش العراقي.
تكرر الأمر ثانية في منتصف 2014 حين اجتاح تنظيم داعش مدينة الموصل واحتلها في بضع ساعات. لم ينهض احد من سكان المدينة لمواجهة داعش ، مثلما لم يتحركوا هذه الأيام لدعمها. هذه الأمثلة التي تكررت بتفاصيل متشابهة تقريبا ، وخلال مدى زمني قصير نسبيا ، تستوجب التساؤل عن سر الموقف السلبي لسكان المدينة ، تجاه أي قوة تمثل الدولة او تدعي انها دولة.
ليس لدي تفسير قطعي لهذا الموقف. لكني استذكر رأي باحثة بريطانية كتبت يوما عن مفهوم " الحقوق الطبيعية" واهتمت خصوصا برد فعل الناس ، حين يحرمون من حقهم الفطري في اختيار طريقة عيشهم وصياغة مستقبلهم. تقول السيدة مارغريت ماكدونالد ان ظرفا كهذا سيدفع معظم الناس لتناسي الواجب الاجتماعي على الاغلب "المواطن المحروم من حقوقه الأساسية سيسأل نفسه يوما: لماذا يجب علي التضحية من اجل المجتمع او الوطن ، طالما لم احظ فيه بفرصة للعيش الكريم او حرية الاختيار؟".
ربما يستطيع الجيش تحرير الموصل بجهد اقل مما كان متوقعا. لكن هذا ليس نهاية المطاف. ان تحصين المدينة ، (والبلد ككل) من احتمالات شبيهة بما فعله داعش في 2014 رهن باقتناع المواطنين بانهم في ظل دولتهم ، وليسوا خاضعين لقوة احتلال او هيمنة تسيرهم رغما عنهم. لقد تفاءلت حين اجريت بحثا سريعا ، فوجدت ان معظم الضباط الذين يقودون عمليات الموصل ، ينتمون الى نفس المدينة. لكن هذا ليس كافيا لتوليد الايمان عند اهلها ، بانهم باتوا اصحاب القرار فيما يخص حياتهم ومستقبلهم.
يتوجب على الحكومة العراقية ان تجري مراجعة عميقة لنظام الادارة والتمويل ، والعلاقة بين المحافظة والمركز ، ودور المجتمع المحلي في القرار ، حتى يتخلص الموصليون (وبقية المواطنين ايضا) من الشعور بان حياتهم يصنعها ويصوغها اشخاص لا يعرفونهم او لا يثقون في نواياهم.
قد نعتبر النجاح الحالي فخرا لمن سعى فيه. لكن القائد لا ينشغل بالفرح ، بل بوضع السياسات الضرورية لمعالجة العوامل التي ادت الى تكرار الفشل في الماضي.
الشرق الاوسط 16 نوفمبر 2016 http://aawsat.com/node/785611



09/11/2016

بين الهند والموصل: اسرار الوحدة والخصام

للوهلة الأولى تبدو فكرة تقسيم محافظة نينوى (الموصل) حلا سحريا للتنازعات السياسية بين سكانها ، الذين ينتمون الى جماعات مذهبية واثنية مختلفة. كنت قد أشرت في الاسبوع الماضي الى هذا الاقتراح ، الذي تتبناه شريحة من الموصليين. ومبرر هؤلاء ان تمكين كل مجموعة عرقية او دينية من ادارة مدينتها ، سوف ينهي حالة الارتياب التي سممت العلاقة بين السكان. ولفت نظري ان قراء كثيرين وجدوا هذا الاقتراح حلا معقولا. تمثل "نينوى" نموذجا مصغرا للعراق المتنوع دينيا ومذهبيا واثنيا. هذا التنوع جعلها بؤرة للتجاذب السياسي بين قوى الداخل والخارج.

فكرة الفصل الاداري مطبقة في بلدان كثيرة. وقد تحولت في السنوات الخمس الماضية ، الى مطلب شعبي في العديد من المجتمعات العربية. لكن الاعتقاد بانها حلال المشكلات ، فيه تبسيط شديد لا يخفى على اللبيب.
من نافل القول انه لا يوجد مجتمع سياسي في العالم كله ، يتألف من نسيج احادي. بمعنى ان جميع سكانه ينتمون الى قومية واحدة ودين/مذهب واحد. وحتى لو حصل هذا يوما ما ، فان ابناء عائلة واحدة – فضلا عن بلد بأكمله - قد تختلف مصالحهم وتوجهاتهم الفكرية او السياسية ، فيذهب كل منهم في طريق. وفي حال كهذه فان وحدة الدم والانتماء ستكون مجرد رابطة ثانوية ، ضئيلة التأثير على الخيارات الحياتية للافراد. وهذا أمر مشهود في عالم اليوم.
من هنا فانه من غير المنطقي ، الاعتقاد بان مشكل الاختلاف والتنازع سينتهي ، اذا اعدنا تشكيل الجغرافيا السياسية على اساس وحدات عرقية او دينية متمايزة. ان وحدة الدين او المذهب او القبيلة او العرق او الجنس ، ليست اساسا كافيا لتوحيد المصالح السياسية والحياتية ، فضلا عن صيانتها على مدى زمني طويل.
لعل المقارنة بين البلدين الجارين ، الهند وباكستان ، تكشف هذه المفارقة في أجلى صورها. يعترف الدستور الهندي ب 21 لغة ، اضافة الى الانكليزية. وهناك عشرات اخرى من اللغات واللهجات المحلية. ويرجع الشعب الهندي الى اعراق عديدة. وثمة خمسة اديان رئيسية ، الا ان عدد الديانات والطوائف القائمة فعلا ، يزيد عن 300 دين ومذهب. لكن الوحدة الوطنية لجمهورية الهند لم تتعرض لتحد خطير منذ تاسيسها في 1947.
اما الباكستان التي تاسست في العام نفسه ، فهي تواجه منذئذ نزاعات داخلية متلاحقة. وقد انفصل نصفها الشرقي في 1971. يشكل المسلمون اغلبية ساحقة في باكستان ، والنظام فيها فيدرالي مقسم الى اربع ولايات ، تضم كل منها اغلبية من قومية واحدة.
قارن الان بين البلدين من حيث الاستقرار السياسي والاقتصادي والحراك العلمي والتقني. واسأل نفسك: ما الذي يجعل الهند ، المتعددة الاديان والاعراق واللغات ، مستقرة وناهضة ، بينما تغوص جارتها الاحادية الدين واللغة ، في مشاكل ونزاعات داخلية لا تنتهي؟.
الاختلاف الديني او المذهبي او العرقي ، يمكن ان يتسبب في تنازع داخلي. لكنا نعلم ان هذا ليس سبب انعدام الاستقرار في باكستان ، ولا هو سبب الحرب الاهلية في ليبيا. فضلا عن انه لم يتسبب في انهيار وحدة الهند ولا ماليزيا ولا سنغافورة ، ولا الولايات المتحدة الامريكية.
 سر الوحدة الوطنية لا يكمن في التماثل ، بل في طبيعة النظام السياسي: هل هو قائم على استفراد جماعة قومية او دينية بمقدرات البلد ، ام هو قائم على شراكة الجميع في جميع المكاسب والكلف. طبيعة النظام السياسي وفلسفته هو جوهر المسألة.
الشرق الاوسط 9 نوفمبر 2016  http://aawsat.com/node/780471


02/11/2016

مستقبل الموصل بعد داعش

تطهير الموصل من داعش قد يستغرق أياما او اسابيع. لكنها ستعود في نهاية المطاف الى أهلها. السؤال الذي يتداوله العراقيون اليوم يتناول مستقبل الموصل ، بعدهزيمة داعش المتوقعة.
كان رئيس اقليم كردستان مسعود البرزاني أول من أطلق صفارة الجدل ، حين قال ان حدود الاقليم هي النقطة التي ستصلها قوات البيشمركة المشاركة في عمليات الموصل. وهذا يعني تقريبا اطراف محافظة نينوى الشمالية والشرقية. لكن يبدو ان ما يسكت عنه أهل السياسة هو مرادهم وليس ما يقولونه. يريد البرزاني على الارجح المساومة بورقة الموصل على ضم ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها الى اقليم كردستان ، وهذه المناطق تضم المدن التي يسكنها خليط من الاكراد وغيرهم ، وأبرزها كركوك ، المدينة النفطية الرئيسية في الشمال ، فضلا عن اجزاء من محافظة ديالى الشرقية ، التي تعتبر هي الأخرى نصف كردية.

عدد من وجهاء الموصل ، ابرزهم محافظها السابق اثيل النجيفي اراد استباق الاحداث ، فحاول تشكيل ميليشيا محلية ، واستعان بتركيا التي ارسلت بالفعل 2000 جندي لتدريب ما قيل انه الاف من الضباط الذين سبق ان خدموا في الجيش العراقي. لكن النجيفي افلح في استقطاب 1200 عنصرا فحسب ، اطلق عليهم اسم حرس الموصل.

برر الرئيس التركي دخول قواته الى الاراضي العراقية بالحيلولة دون تغيير ديمغرافي للموصل بعد تحريرها. ونعرف انه يشير الى العراقيين التركمان الذين تريد تركيا وضعهم تحت حمايتها. لكن مشكلة التركمان ليست في الموصل ، فمعظم هؤلاء يقطنون في تلعفر وهي أقرب الى الحدود التركية من الموصل ، ومحافظة كركوك ، التي يطالب بها الاكراد.
كثير من ابناء النخبة الموصلية يدركون التعقيدات التي تحيط بمحافظتهم. يعلمون ان تحريرها من سيطرة داعش قد يكون بداية لجولة جديدة من الصراع بين القوى التي تتنازعها وتلك التي تتخذها ورقة في نزاعات أخرى. مجموعة من هؤلاء من أبرزهم المؤرخ المعروف سيار الجميل بادروا لطرح مشروع اعتبروه طريقا للافلات من التقاطعات الخطرة للقوى المحلية والاقليمية التي تتنازع المحافظة.
يقترح هذا المشروع تحويل محافظة نينوى الى اقليم فيدرالي ، يتألف مبدئيا من ست محافظات. وقد جرى اختيار حدود المحافظات بحسب اكثريتها السكانية. فسهل نينوى سيكون محافظة واحدة او اثنتين للمسيحيين والاقليات الدينية الاخرى ، وستكون كل من مدينة الموصل وجنوبها محافظتين للعرب ، وسنجار لليزيديين ، ومخمور للاكراد ، وتلعفر للتركمان ، مع امكانية فصل جزء من تلعفر ليكون محافظة او اثنتين واحدة لعشائر ربيعة العربية واخرى لعشائر زمار الكردية.
يعتقد الدكتور الجميل ان محافظة نينوى تتمتع بهوية خاصة متمايزة عن محيطها كله ، وان هذا يبرر فكرة الأقليم الذي لن ينفصل عن العراق ، لكنه سيشكل تجربة ثانية بعد اقليم كردستان ، سيما وان الدستور العراقي يتسع لتحول محافظة او اكثر الى اقليم ذي صلاحيات واسعة.
لكني اميل الى الظن ان القلق من التصارع  الاقليمي والمحلي على الموصل ، هو الدافع الرئيس لهذا المشروع. فهو يقول ببساطة لكل المتنازعين: بدل ان تتقاتلوا ، دعونا نتفق على التفارق من دون حرب. التطليق باحسان يعطي كل طرف ما يريده بالتوافق مع الاطراف الأخرى.
أظن ان معظم العراقيين العرب سيعارض الفكرة لانها تشير الى التقسيم البغيض في الثقافة العربية. لكن ثمة من يقول ان الامريكان يودون تطبيقها. وهي على اي حال احد الحلول المحتملة ، مع ان اقرارها يحتاج للكثير من النقاش.
الشرق الاوسط 2 نوفمبر 2016 http://aawsat.com/node/775026


26/10/2016

الايام الاخيرة في حياة "داعش"

اذا صدقت توقعات العراقيين المتفائلة ، فان مدينة الموصل ستعود الى أهلها قبل نهاية العام الجاري. ثمة من يعتقد ان الامريكيين يسعون لالحاق هزيمة مدوية بتنظيم داعش قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في الثامن من نوفمبر ، مما يعزز حظوظ المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وفقا لهذا الرأي ، ستجري المعركة الفاصلة خلال الاسبوعين القادمين. لكن معطيات الميدان لا تدعم هذا الاحتمال.
المؤكد وفقا لمجريات الاحداث منذ تطهير مدينة الرمادي في نهاية العام الماضي ، ان العراقيين استجمعوا اسباب القوة ، وهم مصممون على الخلاص من داعش. في ذلك اليوم كان التنظيم يسيطر على نصف مساحة العراق تقريبا ، وكانت قواته على بعد ثلاثين ميلا فحسب من العاصمة بغداد. اما اليوم فهو بعيد جدا ومحاصر في مدينة واحدة ، وعاجزا عن تهديد اي مدينة أخرى. نتحدث اذن عن اقتراب نهاية داعش كقوة مسيطرة على الارض ، مما يؤذن بمشهد سياسي جديد في العراق والمنطقة ككل.

منذ ظهوره في ابريل 2013 شكل داعش تحديا مرهقا للمجتمعات العربية ، بكافة مكوناتها وأطيافها وحكوماتها. أساليب عمله الخارجة تماما عن الاعراف السائدة ، مكنته من النفاذ الى قلوب وعقول الشرائح المهمشة والغاضبة مما يعتبر عجزا عن مواجهة التحديات التي تواجه المجتمع ، جراء التحولات الداخلية او نفوذ الخارج.
والحقيقة ان نجاحاته الأولى قد أغرت جمهورا أوسع بأن حلم الخلافة قد يكون أقرب الى التحقيق مما كانوا يظنون ، وأن الخلاص النهائي للعالم الاسلامي ، قد يأتي على أيدي هولاء الشباب الذين لا تقف دون ارادتهم سدود ولاحدود. هذا يفسر الدعم الشعبي الكبير الذي حظي به "داعش" بين منتصف 2013 حتى نهاية 2014 في محافظات وسط العراق وشرق سوريا. وهو يفسر أيضا انضمام الالاف من الشبان اليه في مختلف انحاء العالم الاسلامي ، بمن فيهم مناصرون وأعضاء في تنظيم القاعدة الذي ولد في رحمه داعش.
سر قوة داعش تكمن إذن في تفكيره وعمله "خارج الصندوق" الذي يمثله العرف الاجتماعي والديني والسياسي السائد في المنطقة. والواضح انه تبنى هذا الاتجاه لانه لا يراهن ابدا على القوى والشرائح التي حددت اتجاهها سلفا ، بل ولا يهتم بها ولا يسعى لرضاها. حوادث مثل حرق الطيار الاردني معاذ الكساسبة حيا ، والابادة الجماعية للجنود في قاعدة سبايكر العراقية ، وسبي النساء الايزيديات في سنجار ، ومثل تفجير المساجد والاضرحة والآثار ، وتصوير كل هذه الحوادث وبثها على الانترنت ، مع التركيز على الجوانب الأكثر إرعابا ، هو بالتحديد الجانب الذي اهتم داعش بتسويق نفسه من خلاله ، اي كونه مختلفا عن اي قوة سياسية سبق ان عرفها الناس ، وانه لا يتحفظ ولا يتردد ولا يبالي ولا ينهزم.
هذه السمات التي منحت داعش قوة استثنائية ، هي ذاتها نقطة ضعفه الكبرى. فمثل هذا التنظيم قادر على اشعال الحلم وأخذه الى اقصى الحدود ، لكنه عاجز عن تحويله الى واقع قائم ومستمر على الأرض. فهو – مثل أي جماعة سياسية أخرى – محكوم بتوازنات القوى ومصادر القوة المادية على الأرض. وحين يخسر المبادرة والقدرة على فرض الواقع الذي يريده ، فانه يخسر ايضا مبررات وجوده ومشروعيته. ولهذا نستطيع القول ان هزيمة داعش في الموصل ستنعكس ليس في العراق فحسب ، بل في كل مجتمع نظر الى داعش كتحد أو مصدر للقلق.
الشرق الاوسط 26  اكتوبر  2016  http://aawsat.com/node/769386


19/10/2016

الغنوشي المثير للجدل


لطالما كانت آراء السيد راشد الغنوشي مثيرة للجدل. من يريده اكثر ليبرالية ينتقد اصراره على استعمال اللغة الدينية في عرض مواقفه السياسية ، ومن يتمنى بقاءه ضمن الحركة الاسلامية ينتقد توجهاته الحداثوية ، التي تبدو أقرب الى العلمانية منها الى المألوف الديني.
الاحد الماضي كان مناسبة للتذكير بواحد من هذه المواقف الجدلية ، حين قال على هامش اجتماع لقيادة حزب النهضة انه  ''لا يمكن أن نكفّر الدواعش.. لا يمكن أن نكفّر أحدا يقول لا اله الا الله" واضاف ان داعش هو صورة للاسلام الغاضب والخارج عن العقل .

  في ظروف اخرى ستبدو المسألة عادية. لكن هذه التصريحات لاتؤخذ كتوصيف نظري مجرد ، سيما بالنظر الى الانعكاسات الشديدة للازمة الليبية على الامن في تونس. في مارس الماضي احتل مقاتلو التنظيم مدينة بن قردان الجنوبية ، فيما قيل انه مقدمة لاعلان امارة اسلامية في تونس. لحسن الحظ فان سكان المدينة رفضوا وجود مقاتلي داعش بينهم ، مما سهل على الجيش تطهيرها في بضعة أيام.
لا احد اعتبر القضاء على مجموعة بن قردان نهاية لداعش التونسي. ثمة تقارير متطابقة تتحدث عن "آلاف" من الشباب التونسي في صفوف التنظيم ، في العراق وسوريا وليبيا ، الامر الذي يؤكد وجود بيئة اجتماعية مناسبة للتنظيم في هذا البلد.
ومن هنا فان وصفهم كمسلمين خاطئين او غاضبين فحسب ، سوف تصنفه الاطراف المنافسة كمحاولة احتواء لأعضاء الجماعة المتطرفة ، او كدعوة لاعتبارهم "طيفا" داخل التيار الديني ، وليس كخوارج على الجماعة أو اعداء للمجتمع المسلم.
هناك بالطبع تساؤل جدي حول ملاءمة هذا النوع من التوصيف لزعيم حركة ، سبق ان اعلنت (مايو 2016) بانها تحولت الى حزب سياسي حداثوي ، وتخلت عن مهماتها الدعوية والدينية البحتة ، رغم ان كثيرين يجدون صعوبة في فصل الغنوشي وحزبه عن تاريخهما الدعوي والديني. ايا كان الامر فان تصريحات من هذا النوع الذي ينتسب عادة الى المجال الديني البحت ، سوف تعيد الالتباس بين السياسي والديني ، وبين التراثي والحداثي ، الذي كان يراد حسمه في اعلان مايو المذكور.
لكن – من ناحية أخرى – يمكن اعتبار ذلك التصريح مفيدا في سياق اعادة توصيف المجال السياسي الاسلامي. نعلم ان الجرائم البشعة لتنظيم داعش حملت كافة الجماعات الاسلامية على التبرؤ منه ، كراهية لأفعاله او تحاشيا لتحمل تبعات نسبتها الى التيار الديني ككل. هذا كله مفهوم ، لكنه لا ينفع كثيرا في تحديد موقع التنظيم داخل المجال الديني او خارجه.
أقول ان تصريح الغنوشي قد يكون مفيدا لانه يعين ربما على تقبل فكرة ان المجال الديني ليس طيفا واحدا ، وانه ليس دار الحق والخير المطلق. بل هو – مثل كل مجال عقيدي او سياسي آخر – متنوع ومتعدد المشارب والاتجاهات ، فيه الاكثر اعتدالا والاشد تطرفا ، وفيه التقليدي المتشدد الى جوار المتحرر المعادي للتقاليد. المجال الديني هو مجتمع المسلمين ، بكل ما ينطوي عليه من محسنين وآثمين. وهو لهذا السبب ليس معيارا للحق ولا هو المثال الديني الكامل ، بل بشر مثل سائر البشر ، الذين يسعون للاحسان ما استطاعوا ، فيصيبه بعضهم ويضل آخرون. داعش وأمثالها من الجماعات المسلحة ليست تعبيرا عن حقيقة الدين ولا عن حقيقة المجتمع الديني ، بقدر ما هي تعبير عن هموم فريق في هذا المجتمع. قد نعتبرها نموذجا مجسدا للطيش والضلال. لكن لا احد يدعي ان غيرهم ملائكة في ثياب البشر.
الشرق الاوسط 19 اكتوبر 2016 http://aawsat.com/node/763846

12/10/2016

ياصديقي: أنت قلق وانا أيضا


اراحني جدا مقال الزميل د. علي سعد الموسى "لأخي الشيعي: تقابلية الانتماء والمرجعية" المنشور في الوطن يوم السبت الماضي. يعرف السعوديون د. الموسى كواحد من اكثر الاكاديميين انشغالا بالشأن العام. وهو رغم قربه من النخبة السياسية ، فقد اتسمت معظم مقالاته بشجاعة ملفتة في تناول هموم الناس وشكاواهم ، وهذا أمر يحسب له ويميزه.
ناقشت مقالة د. علي التعارض المحتمل بين ولاء المواطنين لوطنهم واتباعهم في أمورهم الدينية لفقيه خارج البلد. والسؤال موجه بشكل مباشر للشيعة السعوديين. هذه واحدة من القضايا العامة التي يجب طرحها ونقاشها امام الرأي العام بصراحة تامة ، ليس لاقناع المتلقين ، بل لعقلنة النقاش وتحديد مساراته. 
والحق ان مسألة الولاء للوطن ومبدأ المواطنة كأساس قانوني للعلاقة بين اهل البلد ، هي أكثر المسائل أهمية في حياة المجتمعات. وهي أجلى ما تكون في علاقة الاقليات مع الدولة من جهة ومع الاكثرية من جهة أخرى. وقد خصصت جانبا من كتابي "حدود الديمقراطية الدينية" لاستعراض مشكلة الاقليات في ايران واعتبرت علاجها معيارا لنجاح او فشل الرؤية الدينية للدولة الحديثة. كما خصصت جانبا هاما من كتابي الآخر "ان تكون شيعيا في السعودية" لدراسة العوامل الثقافية والمجتمعية التي تسهم في تسييس المسألة.
يطالب الزميل الموسى علماء الشيعة السعوديين ببيان موقف واضح من المسافة بين الولاء للوطن والعلاقة بالمرجع الديني. وهو يعتقد ان على الشيعة ان يطمئنوا مواطنيهم ، كي يحصلوا على ما يرونه حقا لهم. لأن قلق الاكثرية كان – حسب رأيه – سببا في حجب حقوق الأقلية.
كنت قد شرحت هذه العلاقة في مقالات ومقابلات عديدة. لكن الزميل الموسى يريد كلاما من رجل مثل آية الله الشيخ حسن الصفار. ويؤسفني اخباره ان الشيخ قد تحدث للتلفزيون السعودي حول  هذا الموضوع بالتحديد في مقابلة مفصلة ، ايام وزارة طيب الذكر اياد مدني. لكن التلفزيون لم يذع تلك المقابلة. ويبدو ان ما هو متاح لمثلي ليس متاحا لمثله. لكني اعرف تماما تمييزه الواضح بين العلاقة الدينية والانتماء للوطن ، وما يترتب على هذا وذاك. وهو – في هذا الجانب تحديدا – يتجاوز كل الخطوط التي نظنها تعيق رجل دين فيما يخص مفهوم الوطن ومبدأ المواطنة والانتماء والولاء.
على أي حال فاني اتفهم جدا قلق الزميل الموسى ، لأني قلق مثله تماما. نحن زملاء في القلم والقلق معا. لست قلقا لانتمائي الى ما يعتبر أقلية ، مثله قلقه لانتمائه الى مايعتبر أكثرية. انا قلق لان قرنا مضى على توحيد المملكة وما زلنا نفكر في وطننا بمنطق الاقلية والاكثرية ، لا بمنطق المواطنين الشركاء في العلة والعافية ، قلق لأن رجلا مثل الدكتور الموسى لا يرى في تعبير عامة الناس عن مشاعرهم محققا للاطمئنان ، وان هذا الاطمئنان لايحققه الا اعلان زعيم ديني عن رأيه. أنا قلق لأني أعلم ان هذا القلق لم يتحرك لأن مشكلة ما انفجرت في داخل البلد ، بل لأن بلادا اخرى حولنا تشهد صراعات طائفية. يذكرني هذا بقول قديم أطلقه القوميون العرب في السخرية من رفاقهم الشيوعيين "اذا امطرت السماء في موسكو فتح الرفاق مظلاتهم في بغداد". اني اتساءل دائما: هل كتب على الشعب السعودي ان يتصارع فيما بينه كلما ثار صراع سياسي في بلد آخر؟. هل نحن مسؤولون عن شعوب العالم وهل نحن مكلفون باصلاح العالم؟. اليس لدينا من المشاكل ما يكفينا ويشغلنا عن هموم الاخرين؟.
حسنا. انا – مثل الزميل الموسى – ادعو الشيخ الصفار وبقية علماء الشيعة الى توضيح موقفهم من التاثير المحتمل لارتباطهم بفقيه خارج البلد ، على انتمائهم لوطنهم وولائهم له. لكن ماذا بعد التوضيح.. هل سيكون كافيا لزرع الاطمئنان ، ام يحتاج الامر الى تجديد سنوي او شهري مثل بطاقة الاقامة مثلا او تأمين السيارة او بطاقة شحن التلفون؟.
أقول هذا لان الشيخ الصفار وعلماء آخرين تحدثوا في هذا مرارا ، وقالوا ما يريده الزميل الموسى بالتحديد. لكن لعله لم يطلع على تلك الاحاديث او ربما نسيها ، او لعله يعتقد ان بطاقة الشحن تحتاج الى تجديد. أقول هذا أيضا لان اشخاصا اخرين يطالب باقرارات أخرى كلما حدث حادث داخل البلد أو خارجها. بل ان بعضهم يقول بما يشبه الصراحة: كرر اقوالنا والا فانت ضدنا. ولا اعتقد ان الزميل الموسى يفكر على هذا النحو. لكن السؤال يبقى مشرعا: ماذا بعد اعلان الموقف المطلوب..هل سننتهي من من تكرار المطالبة باعادة الشحن ،ام نحدد موعدا للتجديد ، كل شهر مثلا او في بداية العام الهجري؟.
الشرق الاوسط 12 اكتوبر 2016  http://aawsat.com/node/758571





05/10/2016

نهاية مبدأ السيادة الوطنية


 قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي أصدره الكونغرس الامريكي الاسبوع المنصرم ، يمكن النظر اليه من زوايا عديدة ، سياسية وقانونية. الا ان اهميته تكمن في تشريعه لواحد من أبرز التحولات في النظام الدولي ، الا وهو الغاء ، أو على الاقل تهميش مبدأ السيادة الوطنية للدول.
يمثل هذا المبدأ ركنا أساسيا لنظام العلاقات الدولية. وهو يستهدف بشكل مباشر الحيلولة دون حل النزاعات بالقوة ، من خلال ضمان المجتمع الدولي لحدود كل عضو من أعضائه وسيادة حكومته على اراضيها. هذا يعني بصورة محددة التزام الدول الاعضاء باحترام ما تقتضيه سيادة كل منها على أرضها ، بما فيها مثلا الامتناع عن القيام بالاجراءات الامنية والقضائية التي تنطوي على مزاحمة للدولة التي يقيمون على ارضها.

توافق العالم على هذا المبدأ ومجموعة المواثيق والاتفاقيات التي يتألف منها القانون الدولي ، يعبر بجلاء عن نضج البشرية وعقلانيتها ، وقدرتها على حل مشكلاتها عن طريق الحوار بدل الحرب.
وفقا للقانون الدولي فان القضاء المحلي في اي دولة لا يستطيع محاكمة الدول الاخرى ، سواء في الاعمال التي تقوم بها اجهزتها الرسمية او يقوم بها مواطنوها من دون تكليف رسمي. لان ولاية القضاء الوطني محدودة بالحدود الاقليمية للدولة. وهذا هو سر الضجة التي اثارها اصدار القانون المعروف بجاستا. فهو يمدد ولاية القضاء الامريكي الى كل مكان في العالم ، ويمكنه من الزام الحكومات الاجنبية بتحمل مسؤولية الاعمال التي يقوم بها اي من مواطنيها ، بغض النظر عن كونه مفوضا من جانبها او متمردا عليها.
معلوم ان الولايات المتحدة والكثير من دول العالم الاخرى تقوم دائما بتجاوز سيادة الدول ، بما فيها ابرز حلفائها. ولعل القراء يتذكرون النقد العلني الذي وجهته مستشارة المانيا الاتحادية الى واشنطن منتصف العام الماضي  بعدما انكشف تجسس المخابرات الامريكية على هاتفها. وقد كشف النقاب يومها عن تورط الامريكيين في التجسس على رؤساء فرنسا ووزرائها وزعماء دول اخرى ، بمن فيهم رئيسة البرازيل السابقة ، التي الغت رحلة مقررة الى واشنطن في  2013 بعد انكشاف التجسس الامريكي على مكتبها.  
اقول ان الولايات المتحدة اعتادت خرق سيادة الدول الاجنبية ، وهذا امر معروف في الماضي والحاضر. لكن ما يجعل قانون "جاستا" استثنائيا هو انه أعتبر هذا الخرق "حقا قانونيا" ليس فقط للحكومة الامريكية ، بل وحتى للمواطنين العاديين. وهذا يعني – من جهة – ان اي مواطن امريكي يستطيع الادعاء على الدول الاجنبية. كما يشكل سابقة قانونية وسياسية ، يمكن للدول الاخرى ان تحتذيها بتشريع قوانين مماثلة ، تسمح بالادعاء على الولايات المتحدة او غيرها. الامر الذي يغير كليا جوهر نظام العلاقات الدولية ، الذي كان متعارفا حتى اليوم.
هناك بالطبع اجراءات انتقامية يمكن للدول المتضررة اتخاذها لمواجهة القانون الامريكي. لكن الاستقرار والسلام العالمي يتطلب اجراءات اكثر جذرية. ومن بينها في رايي دعوة الامم المتحدة ودول العالم جميعا لاعادة تاكيد مبدأ السيادة الوطنية وحق كل دولة في رفض اي اجراء انفرادي يؤدي لتجاوز المبدأ من جانب الدول الاخرى. كما قد يتطلب الامر مراجعة المواثيق الدولية المنظمة للعلاقات بين الدول ، لملء الثغرات والنواقص التي استدعت قيام واشنطن او غيرها باجراءات من جانب واحد. لقد تغير العالم في العقود الثلاثة الاخيرة على نحو يستدعي تطوير القانون الدولي الذي يرجع في معظمه الى منتصف القرن العشرين. واظن ان الدول الصغرى هي الاكثر حاجة الى هذه المراجعة.
الشرق الاوسط 5 اكتوبر 2016    http://aawsat.com/node/753351

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...