24/12/2013

بدل الانشغال بالتفاصيل ، راهنوا على تغير النسق



كتبت في يونيو ان عودة الاصلاحيين الى الحكم فرصة لا ينبغي لايران التفريط فيها. واقول اليوم ان الاتفاق النووي المؤقت
بين ايران ومجموعة 5 + 1 هو فرصة للولايات المتحدة واوربا ، ينبغي ان لا تفوتها.
لم تخل السنوات الماضية من فرص مماثلة. حوالى العام 1999 تلقى الرئيس الامريكي الاسبق بيل كلينتون ، اشارات قوية 
عن رغبة الايرانيين في التفاوض. لكن ادارته قررت تشديد الضغوط على طهران ، طمعا في تنازلات اضافية.

لا شك ان الادارة الامريكية تراقب تململ الايرانيين من سياسات حكومتهم التي قادت الى تشديد العقوبات. لكني اخشى ان انشغال واشنطن بهذه التفاصيل ربما فوت عليها ملاحظة الصورة الكاملة ، التي تعكس بدرجة ادق محركات السياسة في ايران كما في غيرها. الصورة الكاملة لا تتجلى في الشارع ، بل في وسط النخبة التي تضم اضافة الى السياسيين ، بعض المثقفين البارزين ورجال الاعمال ، وشريحة محددة من رجال الدين النافذين.


ثمة جدل مزمن يدور في اوساط النخبة ، حول "موقع ايران على الخريطة الدولية". يجادل التيار البراغماتي – وفيه اصلاحيون ومحافظون - بان لدى ايران "فائض قوة" يسمح لها باتخاذ موقع بين الدول شبه الصناعية مثل الهند ومجموعة النمور الاسيوية. وهذا يتطلب علاقات دافئة مع الدول الصناعية ، سيما الاتحاد الاوروبي. ذلك ان الصعود الى الخط الاول يتوقف على التحول الكامل نحو اقتصاد صناعي ، ذي قاعدة انتاج واسعة ومتنوعة ، وهذا مستحيل تقريبا دون تمويل خارجي وأسواق عالية الاستيعاب.

في المقابل يجادل التقليديون – وبينهم ايضا محافظون وبعض قدامى اليسار – بان موقع ايران الطبيعي هو الشرق الاوسط ، وان عليها تركيز ثقلها المادي والسياسي ضمن هذه المنطقة. ذلك ان الغرب لن يسمح بنجاح الخيار الاول ، الا اذا تخلت ايران عن مباديء الثورة الاسلامية ، الامر الذي يعد خيانة لا تغتفر. ويجادل هؤلاء بان ايران قادرة على التطور المستقل ، وفرض نفسها وخياراتها دون تقديم تنازلات.
كلا من الخيارين يمثل نسقا سياسيا كاملا ، تدعمه ايديولوجيا وتجربة ومؤسسات وشرائح من النخبة والشارع. كان الرئيس السابق احمدي نجاد ممثلا للخيار الثاني ، بينما ينتمي الرئيس الحالي وحلفاؤه الى النسق الاول.

مقال الرئيس روحاني الذي ترجمته الاقتصادية (19 ديسمبر2013) يحاول ان يشرح للادارة الامريكية هذه الفكرة: بدلا من سياسة العقوبات ، راهنوا على تحول النسق السياسي. اذا كانت واشنطن وحلفاؤها مهتمين بعلاقات ودية مع ايران ، فهناك في ايران من يتبنى ذات التوجه. استمرار هذا المسار رهن بانعكاسه الايجابي على حياة الناس ومعيشتهم. يتوقع الناس عودة المصانع المعطلة الى العمل ، عودة القنوات المصرفية بين ايران والخارج ، احياء المشروعات الكبرى التي جمدتها العقوبات. كل خطوة من هذا النوع ستكون برهانا على جدوى هذا الخيار.

ليس متوقعا ان يقول سياسي ايراني للغربيين: ساعدونا من فضلكم. والمؤكد ان ايا من السياسيين الغربيين لن يقول للايرانيين: دعونا نحمل عنكم هذا العبء. يقول السياسيون كلاما كثيرا لا يقصدونه بالتحديد ، بقدر ما يقصدون الرسائل الضمنية ، التي تظهر فقط لمن تمعن في مجمل السياق وتحولاته ، ولم يشغل نفسه بالتفاصيل الصغيرة.

الاقتصادية 24 ديسمبر 2013

   

 

17/12/2013

الكراهية




في منتصف تسعينات القرن المنصرم ، يوم كانت الجزائر على وشك الانزلاق في حرب اهلية شاملة ، سئل الشيخ محفوظ نحناح ، رئيس حركة المجتمع الاسلامي الجزائرية عن الحل الذي يقترحه للنزاع الداخلي ، فأجاب ببساطة ان الحل هو الآية المباركة "كفوا ايديكم واقيموا الصلاة". من يحمل سلاحا فليلقه جانبا وليتجه الى الله بقلبه ، ايا كانت النتيجة.

يومذاك ، بدا هذا المنطق مغاليا في التبسيط. بل لقد وصفه احد الزعماء السياسيين بالسذاجة والفشل في استيعاب تعقيدات الوضع الجزائري. لكن الايام مرت ، وتوصل الجميع ، الحكومة والمعارضة ، الى ان المخرج الوحيد المتاح من الازمة المستفحلة ، هو الطريق الذي اقترحه نحناح. استعادت الجزائر سلمها الاهلي ، ثم استعادت الدولة من يد العسكريين ، ليس لان الجيش هزم المعارضة المسلحة او العكس ، بل لأن شرائح كثيرة في الطرفين قررت ان تضع السلاح ، حتى لو وصفت بانها جبانة او انهزامية.

كرر هذه الفكرة ديزموند توتو ، اسقف جنوب افريقيا ، الحائز على جائزة نوبل للسلام. سأله صحفي عن نصيحة يوجهها لمواطنيه ، سيما المناضلين وضحايا التمييز العنصري. فأخبره بان وصيته الوحيدة هي نسيان التاريخ.

في اوقات لاحقة سمعت الاسقف يتحدث ساخرا عن تجربة الاستعمار الاوربي في افريقيا. لكنه كان – في كل مرة – يؤكد ان هذا التاريخ مجرد رواية نعود اليها كي نتسلى او نسخر ، او ربما كي نأخذ درسا في قدرة الانسان على الانزلاق في الآثام. لكننا – يقول توتو - نريد ان نتحرر من هذا التاريخ ، بكل ما يحويه من الم وكراهية. نريد تركه وراء ظهورنا ، كي لا يشغلنا عن بناء مستقبل مختلف.

كلام الاسقف الحكيم مثل كلام المرحوم نحناح ، ينطلق من تفسير بسيط لعجز الناس عن التسالم والتحرر من الكراهية ، خلاصته: ان الانسان قد ينزلق في الغضب او التصنيف السلبي للآخرين ، لأي سبب. لكنه بمرور الوقت ، يصبح اسيرا لدوامة الكراهية والكراهية المضادة ، مثل مدمن المخدرات الذي يبدأ بدوافع بسيطة ، لكنه يعجز لاحقا عن الخروج من دوامتها.

لا سبيل للتحرر من دوامة الكراهية غير الارادة الفردية. وتحديدا ارادة التحرر من تاريخ الكراهية ، ومن الذاكرة المشحونة بقصص الكراهية ، ومن ناشري الكراهية وتجارها ودكاكينها. لم يعد الامر خيارا او رفاهية. الدماء والدمار والدموع التي تقتحم عيوننا وآذاننا كل ساعة ، على امتداد العالم العربي والاسلامي ، نذير بان مستقبلنا قد يذهب وقودا لنيران حروب تؤججها كراهيات انفلتت من رفوف التاريخ واستوطنت نفوسنا وحياتنا. لن ينتصر احد في معركة الكراهية. ولو تغلب يوما فسوف يحمل على كتفيه جبالا من الخسائر والاثم والالم ، تجعل الهزيمة اكثر شرفا واحسن حالا.

الاقتصادية 17 ديسمبر 2013

مقالات ذات علاقة

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

خديعة الثقافة وحفلات الموت

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

اتجاهات في تحليل التطرف

ابعد من تماثيل بوذا

ثقافة الكراهية

تجريم الكراهية

تجارة الخوف

في انتظار الفتنة

العامل السعودي

غلو .. ام بحث عن هوية

نحتاج إلى قانون يحمي السلم الأهلي وحقوق المواطن

10/12/2013

حول مجلس التعاون وموقع المملكة


اشعر ان كثيرا من الناس ، وربما بعض السياسيين ، قد صدموا بتصريحات يوسف بن علوي وزير الخارجية العماني التي تتلخص في ان مجلس التعاون لا يخلو من خلافات بين الدول الاعضاء ، وان فكرة تطوير المجلس الى اتحاد كونفدرالي ، التي طرحت قبل بضع سنوات ، لم تعد قائمة ، لان بعض الاعضاء – ومنهم سلطنة عمان – ليسوا راغبين فيها.

الصدمة التي تظهر في طيات الصحف مرجعها في ظني  قلة المتابعة لاعمال المجلس. ثمة قائمة طويلة من الاتفاقات التي اقرت على مستوى القمة او في على المستوى الوزاري ، ولم تنفذ او انها تعطلت في منتصف الطريق. وقد كتب عنها الكثير في اوقات متفرقة. على مستوى السياسة الخارجية فان تباين الاولويات بين دول المجلس لا يخفى على احد. وهو ظاهر بأجلى صوره في الموقف من الازمات الاقليمية.

ما يهمني في حقيقة الامر هو موقف المملكة التي يبدو انها تولي اهتماما بالغا لمجلس التعاون والعلاقات مع اعضائه. واجد انها اعطت هذا الموضوع اكثر من حقه وصرفت وقتا وجهدا في غير طائل. في نهاية المطاف فان الحجم البشري والاقتصادي والسياسي للمملكة لا يقاس ابدا بمجموع الدول الاعضاء الاخرى ، فضلا عن احادها. ولعل القراء يعرفون – كمثال على الحجم الاقتصادي - ان استهلاك الكهرباء في المنطقة الشرقية بمفردها يعادل او يتجاوز استهلاك الكهرباء في مجموع دول المجلس الاخرى. بعبارة اخرى فان العلاقة الخاصة مع دول المجلس لا تضيف شيئا عظيما الى اقتصاد المملكة  او سياستها الدولية.

لا ادعو هنا الى الخروج من المجلس. اعلم ان هذا ليس قرارا عقلانيا في مثل هذا الوقت . لكني ارى ان  مستوى العلاقات المجلسية قد بلغ غايته ، ولا يبدو ثمة امكانية لتجاوز المستوى الراهن. ليس منطقيا – والحال هذه – ان نتطلع لما هو افضل من الحال التي عبر عنها بصراحة الوزير العماني.

البديل الانسب في ظني هو الاتجاه الى تحالفات مع الدول التي تشكل اضافة جديدة ، على المستوى السياسي او الاقتصادي. اذا كنا نفكر في الاستراتيجيا ، فالعمق الاستراتيجي لبلد مثل المملكة هو اليمن والسودان ومصر والعراق ، وليس البحرين وقطر والامارات. واذا كنا نبحث عن اسواق للصناعة الناشئة في بلدنا ، فان السوق الحقيقية موجودة في بلدان الكثافة السكانية ، والبلدان التي تمر بمرحلة اعادة اعمار ، فضلا عن الاسواق الصاعدة مثل شبه القارة الهندية وشرق آسيا. واذا فكرنا في اللاعبين الاقليمين فأمامنا تركيا وايران ومصر.

ان المزيد من الانشغال بمجلس التعاون لن يأتي بمنافع اضافية على اي مستوى. بل ربما يؤدي الى تقزيم الدور الاقليمي والدولي الذي يمكن للمملكة ان تلعبه ، وفاء بتطلعاتها او ضمانا لامنها القومي. واحسب ان على المملكة ان تفكر في محيط اوسع ودور اكبر ، دور يتناسب مع حجمها ومكانتها وحاجاتها الاستراتيجية.

الاقتصادية 10 ديسمبر 2013

مقالات ذات علاقة

المؤتمر الاهلي الموازي لقمة الكويت الخليجية

التجديد السياسي في الخليج : الفرص والصعوبات

بانوراما الخليج: نظرة على السطح السياسي عند بداية ...


استراتيجية بديلة للعمل الخارجي

03/12/2013

ليبرالية الباشوات


مضى الان ربع قرن على ذلك الجدل الساخن الذي واجهني يوم انتقدت مبالغة المعارضة العراقية في تصوير الادوار التي يلعبها الرئيس السابق صدام حسين. جرى هذا الجدل في مؤتمر حاشد ، شارك فيه معظم الجماعات السياسية العراقية التي نعرفها اليوم. قلت في كلمتي ان المعارضين ينسبون كل مشكلة في واقعهم الى رئيس النظام. واخشى انه تحول الى "فايروس ثقافي" يتحكم في عقول المتحدثين ورؤيتهم لانفسهم والعالم. كان صدام حسين قويا وسيئا ، لكنه لم يكن بالتاكيد قادرا على فعل ما ينسبونه اليه. قلت للحضور اني اخشى ان يتحول "صدام" الى مجرد تبرير للفشل والاستكانة والانتظار السلبي ، ولذا فمن الافضل لمعارضيه ان يمسحوه من اذهانهم ، قبل ان يمسي موجها لسلوكهم بدل ان يكون هدفا لكفاحهم. لم يقبل احد بذلك الكلام ، ولعل بعضهم نظر الي بازدراء ، واظنه معذورا في هذا.
د. علي الدين هلال
تذكرت هذه القصة مساء السبت الماضي ، بينما كنت اشارك في مؤتمر علمي حول "مستقبل الاسلام السياسي في العالم العربي". تحدث د. سعد الدين ابراهيم ، وهو مفكر وسياسي معروف ، عن رؤيته لتجربة الاخوان المسلمين في مصر.  وعقب عليه د. علي الدين هلال ، وهو مفكر مثله. وجدت في حديث الرجلين ، كما في عدد اخر من المشاركات ، نفس المنحى الذي استطيع وصفه الان بـ "فيروس الاخوان".  اصفه بهذا تشبيها بفايروس الكمبيوتر الذي يتحكم في افعال الجهاز وردود فعله ، حتى ينسى كل شغل اخر عداه.
تعرفت على الاخوان منذ زمن طويل ، كما تعرفت على الكثير من الجماعات السياسية والدينية الاخرى. واستطيع الادعاء دون تحفظ ، ان اي جماعة مهما بلغت قوتها ودورها ، لا تستطيع ان تملك القوة والانسجام والانضباط والتاثير الذي وصفه السادة المتحدثون. لكن هذا ليس جوهر الموضوع.
جوهر المسألة ان التصوير المبالغ فيه لدور الاخوان قد يتسبب في ، او يؤدي الى ، قناعة ذاتية بان احدا لم يخطيء سواهم ، وان معالجة الازمة المستفحلة في مصر ، لا تتطلب غير حذف الاخوان من المشهد السياسي. هذه القناعة تقود اتوماتيكيا لتسويغ الاستبداد والغاء المنافسين ، ثم تناسي المشكلات الواقعية التي تواجه البلد ونخبتها السياسية.
اني مقتنع تماما بان الاخوان ارتكبوا اخطاء كارثية خلال العامين الماضيين. لكني اردد قول السيد المسيح "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر". فشل النخبة السياسية لا يمكن تبريره باخطاء الاخوان. واخشى حقا ان يؤدي هذا الفايروس الى استسلام الشارع المصري لما وصفته حفيدة المرحوم لطفي السيد بليبرالية الباشوات ، اي القبول بتوافق قوى محددة على اقتسام السلطة فيما بينها واقصاء الاخرين. ونعلم ان قسمة كهذه ستحول الدولة الى غنيمة بدل ان تكون وكيلا عن الشعب وممثلا لارادته.
الاقتصادية http://www.aleqt.com/2013/12/03/article_804649.html

02/12/2013

حق حرية التعبير وإرهاصات الفلسفة المتخيلة: د.توفيق السيف وصالح الديواني


n       منذ منتصف تسعينات القرن الماضي بدأ المجتمع السعودي يستعيد توازنه الثقافي.
n       أشك في إمكانية وجود خطاب ثقافي أو فلسفي في ظل خطاب ديني مهيمن.
n        المضمون النهضوي حاضر في الثقافة السعودية لكنه ليس تراكماً نهضوياً
n       الهوية من أهم القضايا التي تواجه المجتمعات العربية وبينها مجتمعنا
د.توفيق السيف

n       قضايا الفكر لا يمكن المجازفة بها بل تحتاج لجهد أكبر المفردة الدينية دائمة الحضور بين ثنايا الكلمات المتداولة
n       الإبداع الفردي في أصله مقترن بالحرية.
n        الفكرة الإبداعية غائبة ومغيبة بسبب التحولات السياسية.
n        المجتمع العربي يعيش أزمة الهوية بسبب حالة الجمود
صالح الديواني 
نايف كريري: جازان
نلتقي عبر سجالات (المجلة العربية) هذا الشهر مع ضيفين اشتهرا بكتاباتهما في مجالات الفكر والثقافة، ضيفنا الأول الدكتور توفيق السيف الذي استبعد من خلال هذا السجال أن يصبح المجتمع السعودي منافساً للمجتمعات المتقدمة في إنتاج العلم، طالما –حسب رأيه- بقيت الفلسفة غائبة عن المدارس والجامعات والصحافة. والضيف الآخر الكاتب الأسبوعي بجريدة الوطن الأستاذ صالح الديواني الذي يرى أن الخطاب الديني سيكون حاضراً ببهاء أكثر متى استطاع التخلص من عجرفة متبنية ديباجة إرثه القديمة. فإلى تفاصيل فقرات هذا السجال:

فلسفة مشاكسة

الفلسفة كتيار ناشئ في السعودية كيف يمكن أن يكون في المستقبل، وكيف يمكن أن يتلافى ما وقعت فيه التيارات الأخرى من أخطاء أو هفوات على الساحة؟
د.توفيق السيف: الاهتمام بالدراسات الفلسفية جديد في بلدنا، وهو قصر على شريحة صغيرة من النخبة. يقال إن الفلسفة هي أم العلوم، لأنها الأساس في التفكير العلمي. والتفكير العلمي هو التمهيد الضروري لإنتاج العلم.
من العسير أن يصبح المجتمع منتجاً للعلم ما لم يتبلور فيه العقل النقدي والتفكير العلمي، وتبعاً له فإني أستبعد أن يصبح المجتمع السعودي منافساً للمجتمعات المتقدمة في إنتاج العلم، طالما بقيت الفلسفة غائبة عن المدارس والجامعات والصحافة.

الفلسفة ليست تياراً سياسياً أو اجتماعياً بل هي منهج تفكير وبحث، ولأنها منتج بشري فهي تخضع لنفس قوانين التغيير والتحول التي تخضع لها بقية منتجات البشر. بمعنى آخر فإنه لا يصح أن نتوقع الكمال في أي علم. النقصان والخطأ والقصور جزء من طبيعة العلم؛ ولأن جميع أهل العلم يعرفون هذه الحقيقة، فإنهم لا يتوقفون عن نقد الآراء والنظريات العلمية، بل ينظرون إلى النقد كسبيل لا غنى عنه لتطور العلم وارتقائه.
فيما يخص بلدنا فإننا بحاجة إلى الفلسفة كي يتحول مجتمعنا إلى بيئة منتجة للعلم، وكي نرتقي بحواراتنا واختلافاتنا، أي نحول اختلافنا في الفكرة والرأي والعقيدة والتوجه، إلى عامل إغناء لحياتنا، وهذا يخالف الرؤية التقليدية التي تعتبر الاختلاف سبباً للشقاق والتنازع.
صالح الديواني: لا يوجد في الأصل تيار فلسفة ناشئ في المملكة، وإذا كنت تقصد تلك المحاولات المتمردة هنا وهناك من قبل البعض، فهي من وجهة نظري مجرد محاولات صغيرة (مشاكسة) تتلمس عبر يومياتها كسر المألوف من خلال تدوين ملاحظاتها ليوم ما قادم. وحتى أكمل الإجابة يجب أن يكون هناك موجود لأتحدث عنه، إلا أنه في الواقع ليس إلا إرهاصات مُتخيلة لا أكثر وإن منحها البعض مرتبة الوجود كحقيقة.

الاهتمام السياسي

يعيش المجتمع وبخاصة في العقد الأخير عدداً من التغيرات على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فما أثر هذا الحراك المجتمعي في تشكيل الفكر السعودي، وما النتائج المؤملة من هذا الحراك للوصول إلى تشكل فكري ناضج؟
د.توفيق السيف: أميل إلى الربط بين الظرف الثقافي في المملكة، وخطط التنمية الاقتصادية التي بدأت في 1971 حيث شهد المجتمع السعودي في السنوات العشر الاولى (1971-1980) ما أظنه قطيعة حادة عن تاريخه الثقافي السابق. وخلال العقد التالي بدأ في تشكيل ما يمكن وصفه بثقافة جديدة، كانت –بسبب القطيعة السابقة– مختلطة، بين الغرق المتعمد في التراث، وكان هذا واحداً من تجليات (صدمة الحداثة)، وبين الإغراق في استيراد الثقافة الأجنبية، وهو ثمرة للشعور بالفراغ والفقر الفكري. لكن في المرحلة الثالثة، سيما منتصف تسعينات القرن الماضي، أشعر أن المجتمع السعودي يستعيد توازنه الثقافي. وشهدنا خلال العقدين الماضيين أعمالاً فكرية مثيرة للاهتمام.
مجتمعنا ليس بعيداً عن بلوغ مرحلة النضج الثقافي. لكن هذا سيبقى رهناً بمساحة الحرية المتاحة للإنتاج الفكري والثقافي. حرية الاعتقاد والتعبير مازالت -للأسف– موضع جدل في بلادنا. نحن بحاجة إلى إقرار جمعي بحرية الاعتقاد والتفكير والتعبير باعتبارها حقوقاً فردية مصونة بالقانون. إذا تحقق هذا، فسوف نكتشف سريعاً أن مجتمعنا ينطوي على طاقات فكرية عظيمة، تنتظر الفرصة المناسبة كي تكشف عن وجهها.
صالح الديواني: أنا متفائل بالمستقبل البعيد على الرغم من قوة المغريات التي تحاول كل جهة طرحها للفوز بالشريحة الأكبر والاستحواذ عليها، لكن تلك المغريات خطيرة بخطورة استخدامها كأدوات، وهذا ما يجعلها خارج الوعي والاستيعاب مؤقتاً، وقد ينقلب عليها وعلى مستخدميها لاحقاً بالاتجاه السلبي، ومن الواضح أن ذلك الحراك محل اهتمام سياسي بالدرجة الأولى، فقضايا الفكر وأطروحاته لا يمكن المجازفة بها هكذا، ذلك لأنها مؤثرة لفترات طويلة، وتحتاج جهداً أكبر لإحلال بدائل أخرى غيرها.

طرف المعادلة

إلى أي مدى يمكن أن يتقاطع الخطاب الديني مع الخطاب الثقافي، وحتى مع الفلسفي الظاهر حديثاً في الفكر السعودي؟ وما السبب في كون الخطاب الديني دائماً في أحد أطراف المعادلة في الحوارات الفكرية؟
د.توفيق السيف: من الصعب القول بوجود (خطاب ثقافي) أو (خطاب فلسفي). يطلق وصف (الخطاب - Discourse) على منظومة منهجية تتضمن نظرية ومعايير نقدية ودائرة مصالح. هذه الفكرة تقترب من وصف النسق والنموذج الذي اقترحه الفيلسوف الأمريكي توماس كون.
نعلم أن هناك خطاباً دينياً في بلدنا، وهو معروف ومحدد بنظريته ومعاييره ورجالاته ومؤسساته ودوائر مصالحه الخاصة. لكني أشك في إمكانية وجود خطاب ثقافي أو فلسفي. ربما نتحدث عن رؤى اجتماعية أو سياسية تجمع شريحة كبيرة أو صغيرة من المثقفين، لكن هذا لا ينطبق عليه وصف الخطاب المتعارف في علم الاجتماع.
فيما يخص كون الخطاب الديني طرفاً رئيسياً في معظم الحوارات الجارية في المملكة، فسببه هو هيمنة الجانب الديني على الثقافة العامة، إضافة إلى أن دور الدين في الحياة العامة، وقيمة المنتج الثقافي/ الاجتماعي الذي تقدمه المؤسسة الدينية، يمثلان موضع جدل رئيسي في المجتمع المحلي.
صالح الديواني: انظر.. بالإمكان أن يكون الخطاب الديني حاضراً ببهاء أكثر متى استطاع التخلص من عجرفة متبنية لديباجة إرثه القديمة، ولغة التعالي الإقصائية التي يقدمونه من خلالها، إذ عليهم أن يقدروا أهمية الزمن ومتغيراته، والواقع ومتطلباته، وإلا فإنهم سيكونون مضطرين لمواجهة جماهيرية غير مسبوقة، وهو ما رأيناه يحدث في مجتمعات إسلامية عديدة، وتواجده الدائم كأحد أطراف المعادلة، لا يعود لقوته الفكرية أو الفلسفية أو الإقناعية، بل لأن المجتمع في أصله ذو صبغة دينية، فالمفردة الدينية دائمة الحضور بين ثنايا كلماته المتداولة (السلام عليكم، ما شاء الله تبارك الله، بالله عليك يا فلان، حفظك الله يا صديقي... إلخ)، وهذا الحضور في الواقع هو ما يكسب الخطاب الديني تفوقه على غيره فقط. ولكنه قطعاً بحاجة ماسة إلى تطوير لغته، لأنه اليوم أمام جيل متعدد الثقافات والاطلاع.

النهضة والعولمة

هل غاب الخطاب النهضوي عن قاموس كثير من الخطابات المختلفة والمتعددة في الفكر السعودي؟
د.توفيق السيف: أجد أن المضمون النهضوي حاضر في الثقافة السعودية في مستويات عديدة. لكنه غير متوائم، ولهذا فإنه لا يؤدي إلى تراكم الفكر النهضوي. عدم التراكم سببه –في ظني– هو افتقارنا إلى نقاشات علنية حول (النهضة) باعتبارها قضية عامة، فيها جوانب علمية واجتماعية وسياسية... إلخ. إذا نظرنا إلى تجربة المجتمعات الأخرى، في الشرق والغرب، فسنرى أن جدلية (النهضة) بدأت بنقد المألوف، سواء الذي ورثناه أو الذي صنعناه في عصرنا. تنطلق فكرة النهضة من احتجاج على الواقع القائم، ثم تمرد عليه، ثم نقاش في بدائله. بسبب غياب الضمان القانوني لحرية التعبير، فإن نقاشات كهذه لا تزال محدودة ومنخفضة المستوى.
صالح الديواني: كل ما نراه اليوم مطروحاً من الصيغ المختلفة للخطابات (النهضوية) -وأتحفظ على تسميتها- على الساحات العربية بعمومه، هو في الواقع نتاج العولمة وحساباتها، سواء أكانت تلك الحسابات سياسية أم اقتصادية، وتخضع أيديولوجياً لثقافة المسيرين واللاعبين الأساسيين، ويكفي أن تلقي نظرة على التحولات السياسية في المنطقة لتدرك أن الفكرة الإبداعية غائبة أو لنقل مغيبة.

كسر الجمود

هل يعيش المجتمع أزمة الهوية؟
د.توفيق السيف: أظن أن أكثر المجتمعات العربية تعيش أزمة هوية، سببها الرئيس هو التحول الذي شهده العالم من عصر الدولة الأحادية الهوية إلى عصر الدولة المتعددة الثقافات. الفشل في الإدراك المبكر لهذه المشكلة كان واحداً من أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي وتغير الخارطة السياسية في شرق أوروبا ووسط آسيا. ونعلم أن الفشل في استيعاب متطلباتها كان سبباً في انفصال جنوب السودان.
مشكلة الهوية متعددة الأبعاد. تغير مفهوم الوطن والدولة على مستوى العالم، أدى إلى تغيير مسارات الثقافة، وتبعاً له مضمون التفاعل الثقافي بين المجتمعات. نحن نتأثر –شئنا أم أبينا– بالمنتج الثقافي الغربي، لأننا نستعمل التقنية الغربية في حياتنا اليومية. نحن نستمع إلى الأخبار ونشاهد برامج التلفزيون ونستمد جانباً مهماً من معارفنا من الإنترنت. كما أن أبناءنا يدرسون في الجامعات الغربية، أو يتعاملون مع مصادر العلم المنتج في الغرب. وهذه كلها تصنع –الجزء الأكبر منها– في إطار معرفي متناسب مع مفهوم التعدد الثقافي والدولة المتعددة الثقافات التي أشرت إليها.
خلافاً لهذا فإننا نتوهم أن معرفتنا للتراث وإيماننا به يوفر هوية صلبة، تغنينا عن أي هوية أخرى. أقول إننا نتوهم، لأننا في واقع الأمر، نحمل هويات متعددة، أي أننا نعيش في مجتمع متنوع ثقافياً / متعدد الهوية. وكثير منا يدرك هذه الحقيقة.
صالح الديواني: نعم يعيش المجتمع العربي أزمة الهوية، لأنه ليس مشاركاً حقيقياً في كيان المتغيرات العالمية، وبقاؤه على الهامش لقرون طويلة أضر به كثيراً بكل أسف، وعليه السعي حثيثاً لكسر حالة الجمود التي تصبغه، والانخراط في تشكيل البنية الثقافية العالمية بوعي أكثر ليوجد له موطئ قدم يتناسب مع تاريخه الطويل، وإلا فإنه سيجد نفسه على قارعة المنجز الإنساني.

د.توفيق السيف
مفكر وباحث ديني وسياسي ومؤلف سعودي مهتم بقضايا التنمية السياسية. ولد في القطيف عام 1959م. يحمل شهادة دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة وست مينيستر في بريطانيا. له عدد من الكتب والمؤلفات، من أهمها: هوامش نقدية على واقعنا الثقافي، ونظرية السلطة في الفقه الشيعي وغيرها.
صالح الديواني
كاتب وباحث سعودي، من مواليد 1388هـ بمدينة جازان، يحمل درجة الدبلوم في صناعة الإعلامي والمذيع الناجح، ودبلوم في إدارة الأعمال، ودبلوم إدارة التسويق والمبيعات. متخصص في مجال الحواسيب والبرمجيات وصناعة البرامج الخدمية. حاصل على شهادة في قوانين حقوق الإنسان والشرعية الدولية. كتب عموداً ثابتاً في صحيفة المدينة لعدة أعوام، ويكتب حالياً مقالاً أسبوعياً في صفحات الرأي بصحيفة الوطن السعودية.

نايف كريري: جازان
المجلة العربية الإثنين 02/12/2013  
http://www.arabicmagazine.com/arabic/ArticleDetails.aspx?Id=3190

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...