11/03/2010

تحولات التيار الديني - 2 نهايات المعارك


تحولات التيار الديني - 2
نهايات المعارك 


 قبل ثلاث سنوات اتخذ وزير العمل السعودي قرارا يمنع الرجال من العمل في بيع الملابس النسائية الداخلية . وكان غرض القرار هو توفير فرص عمل جديدة للنساء اللاتي يزيد معدل البطالة بينهن عن ضعف مثيله بين الذكور. لكن حملة مضادة تبناها تجار وناشطون في التيار الديني التقليدي افشلت البرنامج وعطلته. كانت هذه اخر المعارك الكبرى بين التيار الديني ومعارضيه. وقد نجح فيها لانه استطاع استثمار الجدل الدائر حول توجهات وزير العمل الدكتور غازي القصيبي ودوره.


لكن هذا الانتصار كان مكلفا جدا. فقد ادى الى تشديد عزلة التيار وتوسيع الجدل حول دوره السياسي واساليبه في التعبير عن مواقفه.


كما طال الجدل سلامة الاجتهادات الدينية التي يتبناها. ومنذ اوائل 2007 اصبحت "هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر" هدفا ثابتا لحملات صحفية تتبعت نشاطاتها وسلوكيات اعضائها وتصريحات مسؤوليها . وفي سابقة هي الاولى من نوعها اقيمت دعاوى قضائية ضد الهيئة على خلفية اتهامات باقتحام منزل وقتل صاحبه في  المدينة المنورة . كما اتهمت الهيئة في دعاوى اخرى بمطاردة اشخاص والتسبب في اضرار مادية وبدنية .



 وتعتبر  "الهيئة" حصنا منيعا للتيار الديني التقليدي واحد اهم مواقع نفوذه في المجتمع السعودي. ورغم ان القضاء قد برأ الهيئة في جميع تلك الدعاوى. الا ان صورتها كجهة دينية تعرضت لجرح عميق. وترتب على تلك الحوادث تغيير طاقمها الاداري وفرض قيود جديدة على عملها . من بين تلك القيود خصوصا نشير الى منعها من الاستعانة بمتطوعين في اعمالها . وفي الماضي كانت مجموعات المتطوعين الشباب هي الاكثر نشاطا وتشددا بين العاملين في صفوف "الهيئة". وكان هذا العمل يستخدم من جانب بعض الشيوخ كنوع من التدريب الحركي للشباب والدعاة الجدد. 

تمدد نقد الصحافة من نشاطات هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الى فتاوى رجال الدين المؤيدين لها . وقدم هؤلاء ما يمكن اعتباره فرصة ذهبية لناقديهم ، واعني بها تلك الفتاوى التي تثير السخط واحيانا السخرية ويصعب تبريرها او الدفاع عنها. في 2008 نشرت فتوى للشيخ اللحيدان الذي يعتبر الرجل الثاني في سلم المراتب الدينية ، تهاجم القنوات الفضائية وتنص على تكفيرهم وجواز قتلهم . كما نشر بيان للشيخ نفسه ينتقد فتح كليات علمية في جامعة الامام محمد بن سعود الدينية ويقول ان البلاد لا تحتاج الى اطباء ومهندسين بقدر حاجتها الى دعاة وعلماء دين . وبعدها بايام قليلة نشر كلام للشيخ المنجد هاجم فيه البرامج التلفزيونية الاجنبية وقال ان "ميكي ماوس" يستحق القتل. وجرى تصوير هذا الكلام في الصحافة كما لو كان فتوى بقتل ميكي ماوس. هذه الفتاوى والاراء اصبحت مادة اثيرة للاعلام المحلي. ونتيجة لذلك فقد اصبحت كفاءة رجال الدين وسلامة ارائهم موضع جدل في المجالس العامة والخاصة. ولم يسبق للمملكة ان شهدت خلال تاريخها الماضي جدلا بهذا الحجم حول المؤسسة الدينية ورجالها. بل كان ينظر اليهم في العادة كشركاء في النظام السياسي واصحاب نفوذ في الوسط الاجتماعي يستعصي على الجدل والمساءلة.

اثمر هذا الجدل عن كبح التطلعات السياسية للعديد من الحركيين ورجال الدين التقليديين. حتى سنوات قليلة كان هؤلاء يعتبرون انفسهم "شركاء طبيعيين" في السلطة السياسية. بل واستعمل بعضهم تعبيرات محددة تشير الى ان نظام البلاد مدين لجهودهم ودعمهم . اما في الوقت الحاضر فان اولئك يتجنبون الاشارة الى هذا الموضوع بعدما اصبح التصوير العام للتيار الديني ينحو الى اعتباره عبئا ثقيلا على النظام السياسي والبلاد ككل. لم يعد التيار الديني السلفي فعالا او صاحب مبادرة في السياسة كما كان في بداية العقد المنصرم ، ولم يعد شديدا وموحدا في الصراع ضد المنافسين كما كان حتى منتصف العقد الجاري. يبدو هذا التيار في الوقت الراهن مفككا ومختلفا حول نفسه وصورته وطريقة عمله واستهدافاته المباشرة والمستقبلية.

هذا الظرف الذي يبدو ملائما لاعداء التيار الديني ، ينطوي على فرص جديدة لهذا التيار ، لكنه ينطوي ايضا على تحديات ومخاطر. في الجانب الايجابي ، يبدو الظرف مناسبا جدا لمراجعة المتبنيات القديمة وتصحيح العلاقة المأزومة مع القوى الاجتماعية غير السلفية. لكنه في الجانب السلبي ينطوي على احتمال توسع حالات الاحباط ، مما يقود الى انشقاقات جديدة في داخل التيار، بعضها متشدد ايديولوجيا وبعضها انتهازي . وربما تواجه البلاد مخاطر ظهور نسخ شبيهة لحزب التحرير في حدها الادنى او "القاعدة" في حدها الاعلى. 



نشر في الايام  Thursday 11th March 2010 - NO 7640  http://alayam2.epkss.com/Issue/7640/PDF/Page20.pdf



08/03/2010

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

 

من بين الكتب التي أثارت انتباهي في معرض الرياض لهذه السنة (2010)، كتاب «العدالة كإنصاف» للفيلسوف الأمريكي جون رولز. هذا الكتاب الذي ترجمه د. حيدر حاج إسماعيل هو الصيغة الأخيرة من هذا العمل المهم والمثير للجدل، والذي واصل مؤلفه تعديله على ضوء النقاشات والنقد طيلة العقود الثلاثة التي تلت صدور طبعته الأولى في 1971.

 يقدم رولز في هذا الكتاب نظرية جديدة في فلسفة الدولة والتنظيم الاجتماعي/ السياسي، تبتعد شيئا ما عن الرؤية الليبرالية الكلاسيكية رغم أنها تنطلق من نفس المنطلقات، لا سيما الحرية الفردية في حدها الأعلى ومبدأ العقد الاجتماعي كأساس للنظام السياسي / الاجتماعي.

قدم رولز حلا لإشكالية المغالاة في الفردانية، والتي تعتبر أحد العيوب الرئيسية في الليبرالية، لا سيما بسبب تركيزها على الجانب الغرائزي في الفرد، وتمحور فكرة السعادة والنجاح ــ وبالتالي العوامل المؤثرة على قرار الفرد ــ حول التملك والاستحواذ. انطلق رولز من رؤية متفائلة للطبيعة الإنسانية.

المثال الذي يشكل خلفية لرؤيته هو مثال الإنسان الراشد الذي يتمتع بقوى ذهنية ونفسية تسمح له بانتخاب الخيار الأقرب للعدالة فيما لو عاش تحت نظام تعاون اجتماعي يقوم على الإنصاف ويضمن لاعضائه الحرية والمساواة. أهلية الإنسان للاختيار الصحيح قائمة على تمتعه بعنصرين معنويين يحملهما معه منذ الولادة:

 أولهما هو إحساسه بقيمة العدالة، أي قابليته لإدراكها وتمييزها وفهمها وتطبيقها والعمل بموجبها ولأجلها..

 والثانية هي إحساسه بمنفعته الخاصة، أي قدرته على استيعاب تطبيقاتها وتشكيلها ومراجعتها وتنظيم حياته على نحو عقلاني يمكنه من نيلها. بفضل هذين العنصرين يستطيع الفرد أن يفهم ذاته كما يفهم الآخرين باعتباره وإياهم أحرارا يتحملون مسؤولية أفعالهم. وبهذا فهما يمثلان الأرضية التي يقوم عليها استقلال الفرد وأهليته للتعاقد مع الغير والمشاركة في تشكيل النظام الاجتماعي الذي يعيش في إطاره.

جون رولز  (1921-2002)
احتذى منهج رولز عشرات من الباحثين، وتشكل على ضوء أفكاره تيار في الفلسفة السياسية يتوسع بالتدريج، ويقدم بديلا جديا عن التصور الاشتراكي للعدالة الاجتماعية الذي يسمح بتأجيل أو تحجيم حرية الفرد من أجل منافع أخرى مادية أو غير مادية. بينما قرر رولز أن تمتع الجميع بشكل فعلي بالقدرة على ممارسة حقوقهم وحرياتهم المقررة في القانون هو جزء من مفهوم العدالة ومعيارا لتوفر العدالة في نظام اجتماعي معين.

والحق أن توظيف مصطلح «عادل» أو «ظالم» في وصف مجموع النظام الاجتماعي وبنيته القانونية والاقتصادية والمؤسسية هو واحد من أبرز تجليات الفهم الجديد، خلافا للمفهوم السابق الذي كان يطلق الوصف على أفعال الأفراد أو الدولة فقط. رأى رولز أن جميع عناصر وأجزاء النظام يجب أن تقيم وفقا لمعيار مشترك كي نستطيع وصفها ــ كمجموع ــ بالعدالة أو الظلم. نظرا للتأثير الديناميكي لكل مسار من مسارات النظام الاجتماعي على حياة أعضائه، فإن تقرير ما هي حقوق المواطنين وواجباتهم في جانب معين، الاقتصاد مثلا، يجب أن يسبقه تعريف لانعكاس النظام الاقتصادي وتطبيقاته على حياة الأفراد الذين يعملون في إطاره أو تتأثر حياتهم بمفاعيله، ولا سيما في تمكينهم أو إعاقتهم من ممارسة حقوقهم الأولية وحرياتهم.

من بين التطبيقات العديدة لمفهوم الحرية، صنف رولز عددا منها كحريات أساسية، وتشمل الحقوق الخاصة بالضمير مثل حرية الديانة والتفكير والتعبير والتنظيم، كما تشمل الحقوق الضرورية لصيانة الكرامة الشخصية مثل حرية الحركة والعمل واختيار المهنة والملكية الشخصية، إضافة إلى شريحة من الحقوق المرتبطة بالمشاركة في الشان العام. هذه الحريات أساسية لأنها أكثر أهمية وأعلى قيمة من غيرها من المنافع الاجتماعية أو الحريات الأخرى، وهي عنده تشكل معيارا لحدود سلطة المجتمع..

طبقا لرولز فإن توفر منظومة الحريات الأساسية ضروري لتبلور هوية الإنسان المستقل، الكفء، القابل لتحمل المسؤولية عن عمله، والمشارك في الحياة العامة. ومن هذا المنطلق فإن نظرية العدالة التي اقترحها رولز تعطي للحريات الأساسية أولوية على كافة المنافع الاجتماعية الأخرى. فلا تصح التضحية بها من أجل سعادة المجتمع أو زيادة الثروة الوطنية أو مساعدة الفرد على بلوغ الكمال الذاتي، أو غير ذلك من المنافع.

عكاظ 8 مارس 2010

06/03/2010

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي


صورة ذات صلة
  يمثل كتاب د. نادر كاظم "استعمالات الذاكرة في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ" محاولة جادة لفهم اشكالية الهوية في مجتمع الخليج. كثير من النقاشات التي عالجت المسألة الديمغرافية والتطور السياسي واشكاليات التحديث والعلاقة مع الغرب ترتبط جوهريا بمشكلة الهوية . لكن معظم ما كتب خلال السنوات الاخيرة تحاشى مقاربة جوهر المسألة . وحتى تلك التي تعرضت لها فقد ركزت على تنبيه القراء والباحثين الى اهمية الموضوع وحيويته والضرورة الفعلية لطرحه في نقاشات علمية ونقاشات عامة . هذا النوع من المعالجة يدور حكما حول حواشي الموضوع وتمثلاته اكثر مما يطرق جوهره. واظن ان الحساسية السياسية والاجتماعية هي التي حالت دون طرقه بصورة معمقة وعلى نطاق واسع . على اي حال فان منطقة الخليج وكثير من الدول العربية الاخرى تعاني من هذه المشكلة التي لاحظ د. محمد الرميحي منذ زمن طويل انها تميل الى التفاقم مع انتشار التعليم ، خلافا للفرضية التقليدية القائلة بان التعليم العام سيؤدي الى تفكيكها ، ولا سيما من خلال تسويد هوية جمعية ترسي مفاهيم مشتركة ، او ما يمكن وصفه باجماع وطني.
النقاشات العلمية في علاقة الهوية بالسياسة ليست قديمة . فابرزها يرجع الى النصف الثاني من القرن المنصرم . وبرزت خصوصا بعد ما وصف بانفجار الهوية الذي ادى الى تفكيك الاتحاد السوفيتي السابق. ثمة اتجاهان رئيسيان في مناقشة الموضوع ، يعالج الاول مسألة الهوية في اطار مدرس
ة التحليل النفسي التي اسسها سيغموند فرويد ، ويركز على العلاقة التفاعلية بين النمو الجسدي والتطور النفسي. بينما يعالجها الثاني في اطار سوسيولوجي يتناول انتقال الثقافة والقيم الاجتماعية الى الفرد من خلال التربية والمعايشة. كلا الاتجاهين يهتم بدور المجتمع ومؤسسة الدولة في تشكيل هوية الفرد ، من خلال الفعل العكسي ، او الاعتراف بالرغبة الفردية كما في الاتجاه الاول ، او من خلال التشكيل الاولي لشخصية الطفل – المراهق عبر الادوات الثقافية ، كما في الاتجاه الثاني.
هوية الفرد هي جزء من تكوينه النفسي والذهني . وهي الاداة التي تمكن الانسان من تعريف نفسه والتواصل مع محيطه. انها نظير للبروتوكول الذي يستعمله الكمبيوتر كي يتعرف على اجزائه وما يتصل به من اجهزة . ولهذا يستحيل الغاؤها او نقضها ، مثلما يستحيل الغاء روح الانسان وعقله . الغاء الهوية او انكارها لن يزيلها من روح الانسان بل سيدفع بها الى الاختفاء في اعماقه . وفي وقت لاحق سوف يؤدي هذا التطور الى ما يعرف بالاغتراب ، اي انفصال الفرد روحيا عن محيطه ، وانتقاله من الحياة الاعتيادية التي يتناغم فيها الخاص مع العام ، الى حياة مزدوجة ، حيث يتعايش مع الناس على النحو المطلوب منه ، بينما يعيش حياته الخاصة على نحو متناقض تماما مع الاول ، بل ورافض او معاد له في معظم الاحيان.
نتيجة بحث الصور عن نادر كاظم
الهوية الشخصية هي الوصف الذي يرثه الفرد من الجماعة الصغيرة التي ولد فيها ، والتي قد تكون قبيلة او طائفة او عرقا او قومية او قرية او عائلة او طبقة اجتماعية. وحين يشب الطفل يبدأ في استيعاب هويات اخرى ، ابرزها الهوية الوطنية ، كما يطور هوية فردية غير شخصية ترتبط بالمهنة او الهواية ، وفي مرحلة لاحقة يطور هوية اخرى يمكن وصفها بالاجتماعية وتتعلق خصوصا بالمكانة التي يحتلها في المجتمع او الوصف الذي يقدمه مع اسمه .
لكل فرد -اذن- هويات متعددة ، موروث ومكتسبة . يشير بعضها الى شخص الفرد ، ويشير الاخر الى نشاطه الحياتي ، بينما يشير الثالث الى طبيعة العلاقة التي تربطه مع المحيط العام ، الاوسع من حدود العائلة . يمكن لهذه الهويات ان تتداخل وتتعاضد ، ويمكن لها ان تتعارض . في حالات خاصة يخترع الفرد تعارضا بين هوياته. لاحظنا مثلا افرادا يتحدثون عن تعارض بين هويتهم الدينية وهويتهم الوطنية او القبلية . وقد يقررون – بناء عليه – التنكر لاحداها او تخفيض مرتبتها ، بحيث لا تعود مرجعا لتنظيم العلاقة بينه وبين الغير الذي يشاركه الهوية ذاتها .
لكن المجتمع او مؤسسة الدولة هي المنتج لاكثر حالات التعارض بين الهويات الفردية . في تجربة الاتحاد السوفيتي السابق مثلا ، جرى اجبار المواطنين على التنكر لهوياتهم القومية والدينية والالتزام بالهوية السوفيتية في التعبير عن الذات . وفي تركيا الاتاتوركية اطلقت الدولة على الاقلية الكردية اسم "اتراك الجبل" ومنع التعليم باللغة الكردية او استخدامها للحديث في المحافل العامة او دوائر الدولة . وفي كلا المثالين ، وجدنا ان النتيجة هي تحول الهوية القومية الى عنصر تضاد مع الهوية الوطنية ومبرر للانشقاق. ولهذا يركز الاكاديميون اليوم على دور الهوية في تحديد ديناميات الحراك الاجتماعي والسياسي. مسألة الهوية لا تعالج بالوعظ الاخلاقي ، بل تحتاج في الدرجة الاولى الى فهم معمق للتنوع القائم في كل قطر وكيفية تاثيره على السياسة ، ثم التعامل معه بمنظور الاستيعاب والتنظيم وليس الانكار او الارتياب.
مقالات ذات علاقة 
الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟

01/03/2010

طريق اليمن وطريق سريلانكا



الخميس الماضي (25-2-2010) كنت استمع لرسالة علي سالم البيض النائب السابق للرئيس اليمني بينما تتراءى لي صورة برافاكاران ، زعيم نمور التاميل الذي قتل قبل ذلك بيومين مع عشرات من رجاله . تحدث البيض من مدينة جنوب النمسا ، بينما تمدد جسد برافاكاران في لباسه العسكري قرب كوخ في جفنا شمال سريلانكا
تخلى البيض عن مقعد رئاسة الجمهورية كي يشارك في توحيد ما كان يعرف باليمن الجنوبي وشقيقه الشمالي في العام 1990. وحدة بلد مفكك حققت حلما لجميع العرب. لكن سرعان ما انفرط العقد . عجز الشركاء عن مواصلة الحديث حول نقاط الاختلاف انتهى الى حرب صغيرة ثم خروج قادة الجنوب جميعا من المعادلة.
في العام 2000 اصدر الاستاذ رياض الريس كتابا بعنوان "قضايا خاسرة" ، عرض فيه عددا من القضايا المثيرة للاسى في عالمنا الاسلامي وحوله . القاسم المشترك بين تلك القضايا جميعا هو كون اقلية ما طرفا فيها .  قد نعرف الاقلية من خلال وصفها المادي ، اي كونها اقل عددا ، وقد نعرفها من خلال وصفها السياسي. ثمة اكثريات تعامل كاقلية ، وثمة اقليات لا تشعر بذلك على الاطلاق .
حين قرأت كتاب الريس ، تذكرت انطباعاتي عن زيارتي الاخيرة لصنعاء عاصمة الوحدة في 1992 . وجدت الناس فرحين بالوحدة فرحة البسطاء حين يحققون حلما . لكن مشاعر النخبة كانت تنضح بالقلق وربما الارتياب. في مجلس الشيخ عبد الله الاحمر الزعيم القبلي والسياسي البارز ، وجدت رجل دين يتحدث عن الوحدة باعتبارها انتصارا على الشيوعيين الحاكمين في الجنوب . رد عليه صحافي شاب بان الوحدة لم تكن معركة بين الشيوعية والاسلام ، ولا بين الجنوب والشمال ، بل عقدا جمع شمل طائفتين من شعب واحد فرقته الاقدار والسياسة . ظننت لوهلة ان الحاضرين سوف يميلون جميعا مع الصحافي الشاب ، لكن الجميع بقي صامتا قبل ان يذهب الحديث في اتجاه اخر بعيد . صدمني اعراض الحاضرين عن مناقشة الموضوع ، سيما في تلك الفترة المبكرة ، حين كان خبز الوحدة لا يزال ساخنا
مساء اليوم التالي التقيت بالمرحوم جار الله عمر ، وهو سياسي مفكر ومناضل قديم ، ينتمي اجتماعيا الى الشمال وسياسيا الى الجنوب. وسألته عن انطباعه الشخصي عن مسار التوحيد ، فوجدته هو الاخر قلقا . قال ان قادة في صنعاء ينظرون الى الشراكة مع الجنوب كعبء لا كفرصة. اراد الجنوبيون شراكة كاملة في القرار السياسي المتعلق باليمن شماله وجنوبه ، بينما فكر قادة الشمال في نظام رئاسي تتمركز فيه السلطة والقرار عند شخص واحد يختار مساعديه من بين معارفه ورجاله الموثوقين. وزاد الطين بلة موقف التيار الديني الذي وجد في الوحدة فرصة لتصفية التيار الماركسي الذي كان حاكما في الجنوب ثلاثة عقود ، فوجهوا جانبا من جهدهم لاضعاف زعماء الجنوب والتشكيك في نواياهم او كفاءتهم ، وتخريب العلاقة بينهم وبين شركائهم في حكومة صنعاء.
بعد عقد ونصف من الوحدة اجد الهوة تتسع بين اهل الجنوب واشقائهم في الشمال ، ويتزايد شعور الجنوبيين بانهم اصبحوا فعلا اقلية في بلد اختاروا المشاركة في صناعته وترسيخ وحدته. ليس اقلية بالمعنى المادي – رغم انه يصدق بشكل او باخر - ، بل اقلية بالمعنى الاعتباري والسياسي ، اي محرومين من حقهم الطبيعي والقانوني في المشاركة المتساوية في القرار ومصادر القوة.
الرسالة التي وجهها علي سالم البيض من منفاه في جنوب النمسا لا تشبه تماما الرسالة التي نقرأها في جسد برافاكاران الممدد في شمال سريلانكا ، رغم ان كلا الرسالتين مليئة بذات القدر من الاسى والحسرة . طبقا للمعطيات السياسية القائمة فان اليمن لا يسير في طريق سريلانكا . لكن الازمنة خداعة ، فهي حبلى بما لا يرى ولا يتوقع .
هل ينتظر اليمنيون شركة مقاولات تمهد طريقا يشبه طريق سريلانكا ، ام يعيدون النظر في مفهوم الانتصار الذي افتخروا بانجازه. تحتاج الوحدة السياسية الى كثير من العمل كي تصبح وحدة ثقافية وشعورية . استعراض القوة العسكرية يوحي بالغلبة اكثر مما يوحي بالمحبة. البيت السعيد يحتاج الى عقد يوحد الارواح وليس الى اعلان بالانتصار في حرب حقيقية او متوهمة.
1 مارس 2010

25/02/2010

تحولات التيار الديني -1 : تصدعات وقلق المؤامرة


في العام المنصرم (2009) خسر الشيخ سعد الشثري كرسيه في هيئة كبار العلماء بعدما دخل في جدل حول ما قيل عن السماح بالاختلاط في جامعة الملك عبد الله للعلوم ، التي ينظر اليها كنموذج لمستقبل التعليم العالي في المملكة . وتعرضت تصريحات الشثري لنقد واسع النطاق في الصحافة بينما حصلت على تاييد في منتديات الانترنت التي يسيطر عليها السلفيون الشباب. تكرر الامر نفسه قبل بضعة اسابيع مع الشيخ محمد العريفي بعدما القى خطبة تضمنت كلاما غير لائق في حق اية الله السيستاني والشيعة السعوديين.
خلافا لما هو متوقع فان معظم المشايخ وزعماء التيار السلفي اختاروا السكوت ونأوا بانفسهم عن الجدل في كلا الحادثتين. ولم يكن مثل هذا الموقف معتادا في الماضي. يكشف هذا الموقف عن تصدع جديد في صفوف التيار الديني السعودي ، كان دافعه في هذه المرة سياسيا مثل جميع التصدعات السابقة.

ومنذ اواخر العام 2003 بدأت الصحافة المحلية في نقد فتاوى العلماء ونشاطات المؤسسة الدينية بعدما كان هذا من المحظورات . وفي هذه الايام نشاهد مثل هذا النقد بشكل شبه يومي. وثمة كتاب اصبحوا معروفين بمعاركهم المتكررة مع الهيئات الدينية ورجالها. ولا يقتصر النقد على الكتاب المعروفين باتجاهاتهم الليبرالية ، فهناك ايضا مثقفون من داخل التيار الديني ، وهناك رجال دين بارزون يكتبون باستمرار في هذا الاتجاه. وخلال العام الجاري برز اسم الشيخ احمد بن باز ، نجل المفتي السابق كناقد رئيسي للافكار والممارسات المتعارفة في الوسط الديني. وانتقل الجدل الى الاعلام الديني نفسه ، ولا سيما على القناة التلفزيونية "دليل" التي يشرف عليها الشيخ سلمان العودة ، حيث قدمت برنامج نقاش اسبوعي غالبا ما اثار الجدل.

في الوقت الراهن يمكن تمييز اتجاهات متعددة واحيانا متصارعة في داخل التيار الديني السلفي . ولم يعد الامر مقتصرا على التنافس الطبيعي بين كبار الشيوخ ، بل انتقل الى الشارع وتمظهر في مواقف متعارضة تجاه المسائل السياسية والدينية المثيرة لاهتمام عامة الناس.

يعتقد بعض المراقبين ان انشغال التيار الديني بالسياسة هو العامل الرئيس وراء ما اصابه من تصدع . شهد العام 1991 ثاني انشقاق رئيسي في التيار السلفي حين عبر جيل الشباب فيه عن رؤية سياسية تتعارض – من حيث الشكل والاسلوب – مع المنهج الذي اعتاده رجال الدين التقليديون الذين تتشكل منهم المؤسسة الدينية الرسمية . وتعرض رموز الانشقاق لعنت شديد . لكن فكرة التمايز بين الجيل الجديد وشيوخه استمرت في الاختمار والتبلور حتى تحولت في نهاية عقد التسعينات الى مشروع جديد مختلف الى حد كبير عما كان معروفا في الوسط الديني السعودي. لم يجرؤ احد في بداية التسعينات على التشكيك في سلطة كبار العلماء ومرجعيتهم في الامور الدينية وغير الدينية. لكن الكثير منهم يتعرض الان لنقد صريح ، يتجه لارائهم احيانا ولاشخاصهم في معظم الاحيان.

يفسر السلفيون التقليديون هذا النقد باعتباره مظهرا لمؤامرة او جزءا من مؤامرة ، تستهدف في نهاية المطاف اضعاف مقاومة المجتمع لما يوصف بالغزو الثقافي الاجنبي ، وتفكيك العوائق التي تعطل تغريب البلاد. ليس ثمة شك بان هناك من ينظر الى التيار السلفي باعتباره معيقا للحداثة التي يحتاجها المجتمع السعودي. وليس ثمة شك ان التحديث يؤدي فعليا الى تهميش العديد من القيم واساليب العيش التقليدية لصالح قيم جديدة – غربية في معظمها – . لكن من المبالغة اعتبار هذا التحول مؤامرة على التيار الديني او نسبة التصدع الذي يتعرض له الى مؤامرة . التحديث ينطوي بالضرورة على تحول في الافكار والمواقف والمواقع الاجتماعية والقيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية . وهذا يقود بالطبع الى تمايز المصالح وتعارضها . فاذا اتخذ التيار الديني موقفا مضادا لمسيرة التحديث فسوف يكون جزءا من الصراع بين القوى الداعمة للحداثة وتلك المدافعة عن التقاليد. بهذا المعنى فان الموقف السلبي من التيار الديني يفسر كتمظهر للجدل حول الحداثة والتحديث وليس كمؤامرة عليه.

انشغال التيار الديني بالسياسة ادى الى ظهور دوائر مصالح فرعية ، متنافسة نوعا ما، في داخله، تشبه – من بعض الوجوه على الاقل – التنافس الذي كان قائما في الماضي بين كبار الشيوخ على النفوذ الاجتماعي . واظن ان تعارض المصالح قد ساهم في تسليط الضوء على العيوب ونقاط الضعف الرئيسية في الخطاب الديني التقليدي . ثمة بين السلفيين الشباب من يسعى للتخلص من الطابع الخشن والمتشدد الذي ميز هذا التيار في السنوات الماضية . وهم يطرحون رؤيتهم من خلال الدعوة لما يسمى بفقه التيسير او فقه المقاصد .
من زاوية سوسيولوجية بحتة ، يمكن اعتبار مثل هذا التطور تجسيدا لتاثير السياسة في الافكار ، او مثالا على انعكاس التغيير في نظم المعيشة والاقتصاد على التفكير الديني ونمط التدين. وهذا ما سوف نعود اليه في مقال آخر. 



الايام 25 فبراير 2010  http://alayam2.epkss.com/Issue/7626/PDF/Page23.pdf

22/02/2010

بعد عقدين على صدوره ، نظام المناطق يحتاج الى مراجعة


 بعد عقدين تقريبا على صدور نظام المناطق ، تبدو الحاجة ملحة لمراجعة مدى نجاحه في تحقيق الغاية الرئيسية التي صدر من اجلها ، واعني بها التحول الى نظام الادارة اللامركزية ولا سيما في مجال الخدمات العامة والتنمية .
في المملكة مثل جميع الاقطار العربية الاخرى ساد الميل فيما مضى الى ادارة مركزية لجميع اعمال الحكومة ، من تعيين صغار الموظفين حتى وضع الميزانيات والخطط العمرانية في كل قرية ومدينة. صدور نظام المناطق في 1992 كان بمثابة تاكيد على الحاجة الى تجاوز ذلك النمط الاداري ، وهو اتجاه اخذت به جميع دول العالم المتقدم واثبت نجاحه في حل مشكلات الادارة والتوزيع المتوازن للموارد الوطنية فضلا عن تعزيز هيبة الدولة وكفاءة القانون.

قراءة الصيغة التي صدر بها النظام تشي بنوع من الحذر والتجريبية ، ويبدو هذا امرا طبيعيا عندما تقرر ادخال تغييرات رئيسية على فلسفة عمل يتاثر بها ملايين الناس وتتحرك وفقها مليارات الريالات كل عام. لكن بعد ثمانية عشر عاما من صدور النظام ، يمكن القول ان لدينا ما يكفي من التجربة والقدرة على اكتشاف نقاط القوة ونقاط الضعف في ذلك النظام وفي تطبيقاته.
المبرر الرئيس للنظام المركزي هو ضبط العمل الاداري والانفاق وربطهما بالخطط المقررة سلفا ، وصولا الى تضييق نطاق التصرف الشخصي في الموارد العامة ، وفرض النسقية او سيادة القانون في جميع ارجاء البلاد على نحو واحد.  على اي حال فان فاعلية النظام المركزي وفائدته مرحلية ، سيما في ظروف النمو الاقتصادي السريع كما هو الحال في المملكة.

اتساع الرقعة الجغرافية والتنوع الاجتماعي والبيئي الكبير يجعل الادارة عن بعد اقل كفاءة مما يتمنى المخططون. صحيح ان تطور انظمة المواصلات والاتصالات ربما قللت من تاثير التباعد الجغرافي ، لكنها لا تعالج ابدا تاثيرات التباين البيئي والاجتماعي ، وهما عنصران مؤثران بشدة في العمل الفعلي لاي ادارة عامة.

في المقابل فان نظام الادارة اللامركزية يستهدف جعل الخطط والمشروعات متناغمة مع حاجات البيئة الجغرافية والاجتماعية المحلية . ويظهر ذلك على وجه الخصوص في جانبين متكاملين :

الاول : في كل منطقة ثمة شريحة من الموارد وفرص الانماء تختلف عن المناطق الاخرى . كما انها تعاني من مشكلات او هموم تتمايز بدرجة او باخرى عن غيرها. بل انه حتى في الموارد والفرص المتشابهة فان مستويات المعيشة والنمو ، اي القابلية المحلية لاستثمار الموارد والفرص تتباين بين منطقة واخرى ، الامر الذي يستوجب طريقة مختلفة في التخطيط وتوزيع الميزانيات بحيث تحصل المناطق الاقل نموا على حصة اكبر من المشروعات بهدف ايصالها الى المستوى الوطني العام في عرض الفرص والقدرة على استثمار الفرص القائمة. هذا يعرف في دراسات التنمية بالتوزيع المتوازن للثروة الوطنية.

الثاني: رغم اهمية الكفاءة العلمية في الاداريين ، الا ان المعرفة العميقة للبيئة الجغرافية والاجتماعية للعمل ، اي تلك العناصرالتي تندرج في الجانب الاول ، هي في الغالب ثمرة للمعايشة المباشرة والطويلة الامد. مدير المدرسة الذي يعرف عائلات الطلاب وتاريخهم ووضعهم الاجتماعي هو الاقدر بالتاكيد على فهم طبائعم ومشكلاتهم وعناصر قوتهم وضعفهم والعوامل المؤثرة في نفوسهم . مدير البلدية الذي هو ابن البلد اقدر من غيره على استيعاب حاجات قريته او مدينته والعناصر المساعدة والمعيقة في انمائها ، والامر نفسه يقال عن معظم جوانب العمل الاخرى.
لا ينبغي المبالغة بطبيعة الحال في تقدير اهمية هذا الجانب ، لكن من الخطأ ايضا اغفاله او تناسيه ، فاهل مكة ادرى بشعابها كما في الامثال.

بناء على تجربتنا الخاصة وعلى تجارب العالم نستطيع القول ان الادارة اللامركزية تضمن استفادة اكبر من الامكانات المادية والبشرية المتاحة في انجاز الاعمال المطلوبة . لان التنمية والتطوير ليست فقط خططا على ورق ، بل تفاعل بين المخطط والمدير وبين البيئة الاجتماعية التي يعمل فيها ، فضلا عن التناغم الضروري بين الخطط وبين الظروف البيئية والجغرافية المحلية .
التحول الى اللامركزية الادارية والتنموية يتطلب تمهيدات قانونية وتنظيمية ، سوف نعود اليها في وقت لاحق.

عكاظ 22 فبراير 2010

08/02/2010

مجتمع محافظ وليس رجعيا


في هذه الأيام شهدنا عددا من القضايا التي تعتبر علامات فارقة في مسار العمل الإداري العام. من كارثة السيل في جدة إلى حكم المحكمة العليا بإبطال الطلاق المبني على عدم تكافؤ النسب، كان للرأي العام دور فعال في إظهار أهمية المسألة والضغط على الإدارة لاتخاذ موقف يستجيب لتطلعات الجمهور.

يوم أمس كان صديق أجنبي يقول لي إن الجمهور السعودي محافظ، وهو يعني أن هذا الجمهور سلبي لا يصدر رد فعل حتى لو استطاع. وبناء على هذا التقييم يعتقد هذا الصديق أن مساهمة المجتمع السعودي في تحديث وتطوير نفسه وبلاده محدودة أو معدومة. كنت قد سمعت هذا الرأي تكرارا من متحدثين أجانب وهو أيضا متداول في صحافتهم.


المجتمع السعودي محافظ بالتأكيد وهذا الوصف يشمل حتى من يوصفون هنا بالليبراليين أو العلمانيين. لكن محافظة السعوديين لا تختلف عن محافظة نظرائهم الأجانب. هناك محافظون في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان وجميع دول العالم الأخرى، وربما يشكلون نسبة غالبة في مجتمعاتهم. وفي تركيا مثلا وصف رئيسها عبد الله غل حزب العدالة 
والتنمية الذي ينتمي إليه بأنه حزب محافظ، كما أن الحزب الحاكم في ماليزيا يوصف هو الآخر بأنه محافظ، رغم أن كلا من الحزبين يعتبر ــ بالمقاييس الشرقية ــ ديمقراطيا ليبراليا، وهما يتبنيان بالفعل أجندات ليبرالية. حزب العدالة التركي هو بالتأكيد أكثر ليبرالية من الجمهوريين الأتاتوركيين، وهو أكثر ليبرالية من القوميين ذوي الميول العسكرية.

بعبارة أخرى فإن اعتبار وصف «المحافظ» قرينا للسلبية والرجعية ينطوي على تكلف غير مقبول. نحن محافظون ولسنا رجعيين. نحن نحترم التقاليد القديمة لكننا لا نقبل بها قيدا أبديا على حياتنا. نحن نحترم تاريخنا لكننا لا نريد أن يكون التاريخ سجنا لعقولنا ومعارفنا. ربما جرت عادتنا لزمن طويل ــ نسبيا ــ على تناسي الأخطاء والسكوت عما يجري أمام أعيننا حتى لو كان مؤذيا، وهذي بالتأكيد مظاهر لسلوك سلبي لا أبالي. لكن هذا السلوك ليس عميقا في ثقافتنا، أو ــ على أقل التقادير ــ ليس هو جوهر ثقافتنا ومسارها الوحيد

أيامنا هذه تشهد تمظهرات لسلوك جمعي يتجه خصوصا نحو نقد وتصحيح العمل في المجال العام والتعامل بين الإدارة الرسمية والمجتمع. الجدل الشعبي الذي رافق كارثة جدة هو مثال على قابلية المجتمع للتفاعل مع قضاياه العامة ودفع الإدارة باتجاه التصحيح، ومثله الجدل الذي دار بعد صدور الحكم بالطلاق القسري في القضية المعروفة بعدم تكافؤ النسب. لو كان المجتمع السعودي سلبيا أو رجعيا لسكت عن هذه القضايا وتركها تمر مثل عشرات غيرها

هذا يقودنا إلى جوهر المسألة التي نحن بصددها، أي دور المجتمع فيمكن للمجتمع أن يلعب دورا فعالا في هذا الصدد، وإذا فعل فهو يقدم خدمة جليلة ويوفر أعباء سياسية ومالية كبيرة جدا. لكنه دور مشروط بعاملين آخرين: الإعلام الفعال والتنظيم المؤسسي. في كلتا القضيتين لعبت الصحافة المحلية دورا محوريا في نقل مجريات القضية من الدوائر المغلقة إلى الرأي العام، ولو لم تقم الصحافة بهذا الدور لما علم الناس بما جرى. المطلوب إذن صحافة أكثر حساسية وأكثر ذكاء. أما العامل الثاني 
ــ وهو للأسف مفقود حتى الآن ــ فهو جمعيات المجتمع المدني المتخصصة، سواء تلك التي تركز على حماية المستهلك أو تلك التي تعمل لتصحيح الأنظمة والممارسات الإدارية، فضلا عن الجمعيات العلمية والحرفية التي مهمتها تطوير حقول عمل محددة في المجال الحكومي أو الاجتماعي

لهذه المناسبة فإني أناشد الجهات المختصة التعجيل في إصدار نظام الجمعيات التطوعية الذي سبق أن نوقش باستفاضة في مجلس الشورى. هذا النظام يوفر إطارا قانونيا للعمل الشعبي الموازي والداعم للمؤسسات الرسمية. أعتقد أن التعجيل في إصداره سوف يكشف سريعا عن صورة جديدة للمجتمع السعودي، المجتمع النشط والحريص على تطوير نفسه وبلاده.


عكاظ 8 فبراير 2010

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...