16/11/2009

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

 

الجدل الدائر حول السماح للبعثيين بالمشاركة في الانتخابات العراقية ، هو مثال آخر على المسافة بين الالتزامات الاخلاقية والواقعية السياسية. اذا كنت تؤمن بهدف ، واذا كنت تملك القوة اللازمة لتحقيقه ، فهذا لا يعني بالضرورة انك سوف تصل اليه . في عالم السياسة ، ليس ثمة قوة مطلقة ، ولهذا فليس ثمة امكانية لقرارات او قناعات مطلقة .

هناك دائما مسافة بين ما تريد فعله وما تستطيع فعله. قد تملك اقوى جيش في العالم ، لكنك تعجز عن استعماله او قد تتضرر من استعماله. في نهاية المطاف يستعمل الانسان قوته للحصول على مكاسب او للتخفيف من خسائر . لكن هذا الامر لا يتحقق في معظم الاحيان. في افغانستان فشل الجيش الامريكي ، الاقوى والاكثر تقدما على مستوى  العالم ، في هزيمة طالبان ، المجموعة المتخلفة والفقيرة. وفي اليمن اقر رئيس الوزراء خلال المؤتمر الذي عقد في لندن في الاسبوع الماضي ، بان حكومته ليست متمسكة بالحل العسكري خيارا وحيدا لحل الازمة السياسية في البلاد.

تعتقد الحكومة العراقية ان حزب البعث قد انتهى سياسيا وهي تريد انهاءه قانونيا بحرمان اعضائه من دخول البرلمان والحكومة. لكن جولات العنف الاخيرة تظهر ان هذا الحزب لا زال حيا وان كان ضعيفا او مترنحا. واظن ان معظم البعثيين السابقين ، يريدون تجاوز هذا الحزب والخلاص من ارثه الدامي . فهو لم يعد طريقا الى الثروة والسلطة كما كان الامر قبل 2003 ، بل عبئا يصعب الدفاع عنه او تبرير الانتماء اليه.

 لكن السياسة ليست لونا واحدا. الاحزاب والايديولوجيات غالبا ما تكون اقنعة لمصالح ثابتة او مصالح في طور الانشاء . كل واحدة من دوائر المصالح هذه تجمع في داخلها شرائح من الناس الذين يبحثون عن دور او وسيلة للدفاع عن انفسهم او على الاقل تحديد مواقعهم وعلاقتهم مع المحيط . ربما لا يشارك جميع الناس في الحياة السياسية او ربما لا يعبأون بالسياسة اصلا . لكنهم في كل الاحوال يريدون ان يحددوا مكانهم كي يحتموا به ساعة الازمة .

المصالح السياسية مثل البضائع في السوق ، ربما تخسر شعبيتها ورغبة الناس فيها ، لكن اصحابها لا يرمونها في صناديق الزبالة الا اذا ضمنوا بديلا مناسبا . وما لم يحصلوا على هذا البديل فسوف يصرون على مواصلة عرضها ومحاولة بيعها مهما كان اتجاه السوق . ينطبق الامر نفسه على سوق السياسة . لافتات مثل الحزب الشيوعي وحزب البعث وامثالها لم تعد جذابة في سوق السياسة كما كان حالها قبل عشرين عاما .

 ولعل بعض اصحابها قد تخلوا عنها بعدما وجدوا بضاعة اكثر جاذبية . اذا اخذنا العراق كمثال فسوف تجد رجالا دافعوا عن حزب البعث حتى الاسبوع السابق لسقوط النظام القديم ، لكنهم الان اعضاء فاعلون في الاحزاب التي استفادت من سقوطه . هؤلاء اذن عثروا على بدائل فلم يعودوا مهتمين بتاريخ مضى. لكن ليس كل الناس كذلك .

تفجر الجدل حول حزب البعث وامكانية السماح له بالمشاركة في العملية السياسية بعدما استبعدت هيئة المساءلة والعدالة عددا من المرشحين للانتخابات القادمة ابرزهم صالح المطلك الذي كان مقربا من زوجة الرئيس السابق صدام حسين . يقول المطلق بتلميح يشبه التصريح انه ربما يتبرأ من حزب البعث لكنه لن يفعل ذلك في العلن. وتبريره يبدو منطقيا : اعداء البعث لن يصوتوا له في الانتخابات بسبب تاريخه ، لكن البعثيين الحاليين او السابقين سوف يدعمونه لانهم بحاجة الى من يحميهم ويدافع عن مصالحهم. بعبارة اخرى فان طريقه الى البرلمان يمر عبر البعثيين السابقين او الحاليين ، فاذا تخلى عنهم فلن يحصل على شيء . حجمه السياسي محسوب بعدد مؤيديه ، فاذا تخلى عنهم فلن يكون شيئا .

هذه الاشكالية ليست مشكلة للمطلق وامثاله ، بل هي في المقام الاول مشكلة للحكومة العراقية التي عليها ان تخرج بالبلد من حال التنازع والفوضى . المسالة اذن ليست موقفا نظريا من الحق والباطل ، بل هي عملية سياسية تقتضي الامتناع عن استعمال القوة التي مهما تضخمت فان لها حدودا .

 العراق مثل اليمن وافغانستان بحاجة الى سياسيين يجيدون محاكاة الواقع ، انه بحاجة الى سياسيين يجيدون المساومة وحبك الصفقات اكثر من حاجته الى البزات العسكرية. الحسم هنا ليس في الجبر بل في اتخاذ قرار يجمع المختلفين ويداوي الجراح ، حتى لو اقتضى تقديم تنازلات مؤلمة. الواقعية السياسية مؤلمة بذاتها وبغيضة ، لكنها الخيار الاخلاقي الوحيد حين تكون الخيارات الاخرى ملونة بالدم والبارود.

نوفمبر 2009

مقالات ذات صلة

بين الهند والموصل: اسرار الوحدة والخصام

تجنبا لداعش أخرى: اربعة عوامل للوقاية

خلاقة على منهاج نبوة

داعش الباقية

شفاء الصدور

العامل الديني كمولد للعنف

العراق: المهمة الكبرى بعد الموصل

العنف السياسي : 3 عوامل رئيسية

في مواجهة التيار الداعشي

كسب الارض وكسب القلوب

شراكة التراب وعدالة النظام الاجتماعي

"شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

شراكة التراب وجدل المذاهب

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

اعادة بناء الاجماع الوطني

انهيار الاجماع القديم

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

وطن الكتب القديمة

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

 

 

01/11/2009

حدود الديمقراطية الدينية - عرض كتاب

عرض كتاب
 حدود الديمقراطية الدينية: دراسة في تجربة إيران منذ ١٩٧٩
تأليف : توفيق السيف
عدد الصفحات: ٤٠٧
الطبعة: الأولى/ ٢٠٠٨
تشرين الثاني  2009
 شغلت إشكالية العلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية أذهان المفكرين على مدار تطور الفكر  السياسي. ومن أهم تجليات هذه الإشكالية في العصر الحديث علاقة الدين أو الإسلام تحديدا بالديمقراطية، وما يرتبط بها أو يتفرع عنها من إشكاليات فرعية نظرية وتطبيقية، والتي لا يكاد الجدل يخمد بشأنها حتى يثور من جديد.
وفي العقود الأخيرة، ولاسيما بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ ، احتدمت المناظرة حول مدى الانسجام والتنافر بين الإسلام والديمقراطية، وافترق المتناظرون إلى عدة تيارات. فهناك من يقطع بالتناقض المتأصل بين الإسلام والديمقراطية؛ كون الأول يمثل عقبة كؤودا أمام القيم والممارسة الديمقراطية. وثمة من يبشر  بديمقراطية الإسلام؛ على أساس أن جوهر الديمقراطية من صميم الشريعة الإسلامية، وأن ادعاء التنافي بينهما خطيئة. أما التيار الثالث، فيركز على البعد الإجرائي للديمقراطية ويعطيها الأولوية على باقي الأبعاد الفكرية، ويحاجج تبعا لذلك أن التقاليد السياسية الديمقراطية ليست غريبة عن التاريخ السياسي الإسلامي. وأخيرا، هناك من يجادل أن في الإسلام ديمقراطية خاصة؛ تخالف غيرها في نشأتها ومرجعيتها وغايتها ونطاقها...إلخ. 
ومن هنا تنبع أهمية الكتاب الذي بين أيدينا، والذي يبحث في إمكانية تطوير نموذج مختلف للعلاقة بين الدين والدولة الحديثة يعزز المشاركة السياسية، أو تصميم "نموذج ديمقراطي محلي" قادر على التفاعل مع الهوية والقيم الدينية للمجتمعات الإسلامية. ومن النظرية إلى التطبيق، يستقرئ مؤلفه الدكتور توفيق السيف- الباحث والكاتب المتخصص في العلوم السياسية والفقه الشيعي- تجربة إيران بعد الثورة، وبصفة خاصة التجربة الاصلاحية (1997-2004)، التي شهدت اشتغالا جزئيا أو كليا للدين في الحياة السياسية والاجتماعية، لاختبار فرضياته.
وليس ثمة أفضل من هذا التوقيت لمراجعة كتاب حول حدود الديمقراطية الدينية في إيران؛ فالانتخابات الرئاسية الإيرانية (يونيو ٢٠٠٩ ) على بعد أسابيع عدة، حيث يتصاعد التنافس والصراع بين المحافظين،    وعلى رأسهم الرئيس أحمدي نجاد، والإصلاحيين، ويمثلهم رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي، لكسب أصوات الناخبين، وينخرطون في نفس المناظرات المسطرة على صفحات هذا الكتاب. كما أن تجربة إيران توفر للقارئ فهما أفضل لإمكانات عملية التحول الديمقراطي في الدول الإسلامية وصعوباتها وحدودها، وفرصة فريدة لمراقبة تطبيقات الإسلام السياسي واختبارها.
وقبل الولوج في أغوار التجربة الإيرانية، يقدم د. السيف تحليلا لتطور إشكالية السلطة في الفكر السياسي الشيعي منذ القرن الثامن حتى المرحلة المعاصرة. ثم يناقش دور آية الله الخميني في تجسير الفجوة بين التشيع التاريخي والفكر السياسي المعاصر، وذلك بفضل التعديلات التي أدخلها على المعتقدات الشيعية الخاصة بالإمامة والسلطة، والصيغة التي قدمها للتوفيق بين مصدري الشرعية السياسية الديني والشعبي، والولاية العامة للفقيه في نظام جمهوري.
بعد ذلك، يدلف الكاتب إلى مناقشة التحولات في البنية الاجتماعية في إيران، وانعكاساتها على الخطاب الديني. ومن ثم، ينشغل بقراءة أبعاد التغير في الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية في السنوات التي أعقبت قيام الجمهورية الإسلامية، وتأثيرها في الثقافة السياسية والتنظيم الاجتماعي والمفاهيم الناظمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع.
وفي فصلين متتابعين، يُقدم د. السيف صورة مقارنة عن أيديولوجية التيار الديني المحافظ ونظيرتها الإصلاحية، ويعرض لأبعاد التباينات الحادة بينهما، ولاسيما فيما يتعلق بمفاهيم الجمهورية، ومصدر الشرعية السياسية، ودور الشعب، وسيادة القانون، وعلاقة الدين بالدولة، ونموذج التنمية الأفضل ، وغيرها. كما يناقش الأطر المرجعية التي يستند إليها كل من التيارين المحافظ والإصلاحي في أطروحاته، وكذلك التفسيرات الجديدة التي يعرضها الإصلاحيون للعلمانية. يتلو ذلك عرض للأحزاب الرئيسة الفاعلة في إيران؛ بغرض استقراء واقع القوى السياسية التي تدعم كلا من الخطاب المحافظ ونظيره الإصلاحي، ومدى فاعليتها في استمرار زخمه. ويختتم الكاتب مناقشته بتحليل ظاهرة المحافظين الجدد في السياسة الإيرانية، وتفسيرها تفسيرا بنيويا.
في محاولته تطوير نموذج ديمقراطي محلي أو إسلامي، أثبت د. السيف صحة الفرضية المتعلقة بقابلية القيم وقواعد العمل الدينية، ولاسيما المتعلقة منها بالشأن العام، للتكيف مع متطلبات الحياة المتغيرة. فضلا على ذلك، اتضح من دراسة خبرة المجتمع الشيعي أن انفتاح الفكر الديني على التطورات السياسية، أو انغلاقه دونها، ارتبط دائما بدرجة انخراط المجتمع في السياسة. لكن الأهم، يجادل السيف، هو أن انخراط الدين في العملية السياسية يمثل عاملا حاسما في تطور الفكر السياسي الديني؛ بمعنى أن هذا الانخراط من شأنه أن يجعل الفكر الديني أكثر تقبلا لضرورات الدولة الحديثة ومتطلباتها، الأمر الذي سيقود، بالضرورة، إلى تخليه  عن المفاهيم التي ظهرت أو تطورت في ظل الدولة ما قبل الحديثة، وبقيت جزءا من التراث الديني حتى اليوم. أما اتجاه هذا التطور (دعم الديمقراطية أو تسويغ الاستبداد)، فإنه يتحدد في ضوء عوامل أخرى، ولاسيما توازنات القوة في البيئة الاجتماعية، الثقافة السياسية السائدة، إضافة إلى الاتجاه العام في النظام الدولي بالنسبة لعملية التحول الديمقراطي.
في هذا الخصوص، أكدت الخبرة الإيرانية، كما يبرهن الكاتب، أن الدين يمكن أن يلعب دورا محوريا في تشكيل إجماع وطني على النظام السياسي، وتجسير الهوة التي تفصل المجتمع عن الدولة، وبالتالي تشجيع مشاركة المواطنين في الحياة العامة. ومن ثم، فإن العلمانية، برأي د. السيف، ليست جوابا مفيدا لمشكلة العلاقة بين الدين والديمقراطية، ولن تكون عاملا مساعدا على التحول الديمقراطي في إيران، بل قد تعوق ظهور ثقافة سياسية محلية جديدة قادرة على تسويغ المشاركة الشعبية.
يُقسم الكاتب مسار المصالحة بين الإسلام والديمقراطية في الخبرة الإيرانية إلى مرحلتين: المرحلة الأولى التي أعقبت انتصار الثورة، واستهدفت في المقام الأول إدماج الدين في مؤسسة الدولة، وإلغاء التباين بين الاثنين. وقد أثمر ذلك فتح الطريق أمام تعديل مواز في الأحكام وقواعد العمل الخاصة بكل من الدين والدولة؛ لجهة إزالة التعارضات وتسهيل استجابة كل من الطرفين لضرورات الآخر. واستهدفت المرحلة الثانية، أو مرحلة ما بعد الخميني، مصالحة الدين مع الديمقراطية، من خلال تعديلات واسعة في المفاهيم الدينية المتعلقة بدور الشعب وحاكمية القانون من جهة، وتعديل مفهوم الدولة المركزية من جهة ثانية.
يرى د. السيف أن صعود التيار الإصلاحي كان ثمرة فشل النموذج الثوري-التقليدي في التعامل مع التغيرات الجذرية التي شهدتها إيران والعالم، في تسعينيات القرن المنصرم؛ لدرجة أن هناك من وصف انتصار محمد خاتمي في انتخابات ١٩٩٧ الرئاسية بأنه ثورة ثانية. ومن خلال الفحص الموضوعي لتجربة الإصلاحيين في الحكم وأيديولوجيتهم، يلخص الكاتب خصائص الخطاب الإصلاحي بأنه خطاب يجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية-الليبرالية واقتصاد السوق الحر، ويتبنى عددا من المعالجات النظرية التي تمثل اختراقات في جدل الدين-الحداثة، وتتعلق بمسائل جوهرية مثل الطبيعة الدينية للدولة، ومصدر السلطة والسيادة، ودور الشعب وغيرها. وقد عالج المفكرون الإصلاحيون هذه المسائل من منطلقات دينية أصيلة، لكن تفسيراتهم الجديدة مكنتهم من التوصل إلى صياغات قريبة جدا من تلك المعروفة في الأدبيات السياسية الحديثة.
يستنتج الكاتب أنه في حين فشل التيار الإصلاحي في إحداث تغيير كبير في بنية السلطة أو المحافظة على دوره السياسي، فقد نجح في تغيير البيئة السياسية في إيران، وإرساء حزمة مهمة من الإصلاحات في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبصفة خاصة في علاقة الدولة بالمجتمع. ولا شك في أنها، ضمن هذه الحدود على الأقل، يزعم الكاتب، جعلت إيران أقرب إلى الديمقراطية مما كانت عليه قبل عشر سنوات.
بعبارة أخرى، تمثل تجربة الإصلاحيين الفكرية والسياسية نموذجا يثير الاهتمام في تجسير الفجوة بين الدين والديمقراطية، ويقدم مفكرو هذا التيار حلولا جديدة للكثير من المسائل التي ما زالت تثير الجدل في الشرق الأوسط حول إمكان التوصل إلى نموذج ديمقراطي محلي.
يستحق د. السيف الإشادة على تحليله لظاهرة المحافظين الجدد، وهم جيل جديد من المحافظين (تحالف التنمية "آباد كران")، يتمثل في الرئيس احمدي نجاد ومعاونيه؛ فهو موضوع لم ينل حقه من اهتمام الباحثين في المناظرة الدولية الراهنة حول الوضع الإيراني. وينطوي هذا التطور، في رأي الكاتب، على تحول هيكلي في النخبة السياسية الإيرانية، المحافظة بخاصة، يتجسد في انتقال السلطة الروحية، وتبعا السياسية، من كبار الروحانيين والجيل التقليدي بشكل عام، إلى جيل جديد ينتمي إلى الطبقة الوسطى الحديثة، ويتكون أساسا من الشباب والتكنوقراط. أما دلالات صعود المحافظين الجدد، فيشير الكاتب إلى تزايد الاتجاه نحو التشدد في إيران، وتمكن مرشد الجمهورية من استكمال سيطرته على خيوط السلطة (حيث يقف شخصيا وراء هذا التحول)، وتصاعد دور العسكريين في العملية السياسية.
ينحو خطاب النخبة المحافظة الجديدة، كما يشرح الكاتب، منحى تقليديا في الأمور المتعلقة بالدين والممارسة السياسية، ويتخذ في الوقت نفسه مسلكا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا يميل إلى تدخل الدولة في شؤون المجتمع، ويحبذ، بصفة خاصة، النموذج الصيني في التنمية من دون أن يكون جاهزا تماما للتعامل مع متطلباته وتحدياته، ويميل إلى تشديد الانقسام في الساحة الداخلية. وينظم التصور الخارجي للمحافظين الجدد مبدأ "أمة قوية تفرض احترامها"، لكنه في التطبيق العملي أفضى إلى وضع يقترب من العزلة الدولية.
ويخلص الكاتب إلى أن سياسات الرئيس نجاد أثمرت عددا من النتائج السلبية اقتصاديا وسياسيا، داخليا وخارجيا.
وبعد، فإن الكتاب يقدم مساهمة معتبرة إلى المناظرة الراهنة حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية في النظرية
 والتطبيق. في هذا المجال، يستخلص الكاتب أن تطور الفكر السياسي الشيعي في الخبرة الإيرانية بعد الثورة يشير إلى أن قيام نظام ديمقراطي على أرضية دينية هو احتمال واقعي وقابل للتحقيق. ويمكن لمثل هذا النموذج أن يوفر بديلا عمليا للمحاولات المتعثرة للتحول الديمقراطي في العديد من المجتمعات الإسلامية، ولاسيما تلك التي يرتبط تعثرها بالعجز عن ترسيخ الديمقراطية في الثقافة المحلية، واستنهاض المواطنين للمشاركة في التغيير.
كما يوفر هذا التحليل نافذة جديدة تطل بنا على الفكر السياسي الشيعي، والمسائل الكبرى التي انشغل بها مفكروه، مثل الإمامة أو الخلافة، والشورى، والسلطة، سواء من حيث مصدرها وطبيعتها ووظائفها، أو من حيث شرعيتها وحدودها، ومن ثم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
علاوة على ذلك، يتميز الكتاب بمصادره الغنية العديدة والمتنوعة بين مصادر أولية وأخرى ثانوية وبحوث ميدانية. وقد وظف الدكتور توفيق السيف إطارا نظريا ملائما، استقاه من عدة نظريات سوسيولوجية (ماكس فيبر، ألموند  ، كون ، وجون رولز) لتفسير العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفهم مدى التغيير الممكن في الفكر الديني كنتيجة لانخراط الدين في السياسة. كما استفاد من نظريات الثقافة السياسية لتفسير الحراك الديمقراطي في إيران. وعلى الرغم من بعض الهنات هنا وهناك، وبصفة خاصة ما يبدو أنه بعض التحيز ضد المحافظين، فإننا بصدد تحليل متميز ومبتكر لعلاقة الدين بالسياسة، ولمفهوم الديمقراطية الدينية أو الثيوقراطية وحدوده، وللخبرة الإيرانية بعد الثورة، وهو يشكل إضافة للمكتبة العربية.

26/10/2009

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

في احد مقالاته الساخنة جادل المفكر الكويتي د. محمد الرميحي بان انتشار التعليم ووسائل الاتصال قد لا يؤدي بالضرورة الى محو التعصبات القبلية والطائفية والعرقية في العالم العربي ، بل ربما يزيدها تعقيدا. كلام الرميحي يتعارض مع مسلمة معروفة في نظرية التنمية الكلاسيكية ، لكنه يستند الى حصيلة تجربة فعلية يعيشها العالم منذ اوائل العقد الماضي وحتى اليوم.


من قرأ كتاب "موت المجتمع التقليدي" للمفكر الامريكي دانييل ليرنر فسوف يتذكر بالتاكيد المثل العربي القديم "المرء عدو ما جهل" ، فهو يعود دائما الى التباعد الثقافي كسبب للتطرف والانقطاع الاجتماعي وعسر العلاقة بين الاطياف الاجتماعية ، او ما يسميه اجمالا بالعجز عن التكيف. ويعتقد بناء عليه ان توسع الحواضر وانتقال انماط المعيشة المدينية الى الارياف سوف يوفر فرصا جديدة للتواصل والتفاهم بين المختلفين ، وصولا الى تراجع تاثير الهويات الصغرى لصالح الهوية الوطنية الجامعة.

في دراسة سابقة حول مشكلات التحديث في الشرق الاوسط ، جادلت بان نظرية التنمية تلك تقوم على فرضية ميكانيكية نوعا ما ، فهي تتعامل مع الانقسامات الاجتماعية كحالات مستقرة او ساكنة ، وتعالج عملية التغيير كما لو كانت تبديلا موضعيا لعناصر مادية. لكن التجربة تدل على ان الانتقال من حال الانقسام الى الاندماج لا يشبه ابدا تبديل قطع الغيار في سيارة عاطلة. بل هو اشبه بالعلاج النفسي الذي ينبغي ان يأخذ بعين الاعتبار مختلف الظروف المحيطة بالمريض ، من نظامه الغذائي الى ثقافته الى مستواه المعيشي فضلا عن علاقته مع المحيطين به في البيت والعمل.

يعيب هذه النظرية ايضا افتراضها حياد المؤسسة السياسية والقوى الاجتماعية المؤثرة. حيث تكشف تجربة دول الشرق الاوسط ان السياسات الرسمية لعبت في معظم الاحيان دورا معيقا للاندماج الوطني ، لان رجالها كانوا في الغالب منحازين ضد الاقليات والشرائح الاجتماعية المهمشة. في جنوب تركيا على سبيل المثال استمر الصراع بين الاقلية الكردية والحكومة نحو ثلاثين عاما.

 وقد فشلت جميع محاولات الحل بسبب ارتياب وزارة الداخلية في ولاء المجتمع الكردي. ونتيجة لذلك بقيت المناطق الكردية مهمشة تنمويا كما حرم الاكراد من الوصول الى وظائف رفيعة او الحصول على فرص متساوية في المجال الاقتصادي، بل كانوا يواجهون مشكلات حتى في علاج مرضاهم ودفن موتاهم وفي شراء مساكن واملاك خارج مناطقهم.

استمر الوضع المتازم في الجنوب التركي حتى اوائل العقد الجاري حين قررت حكومة حزب العدالة والتنمية سحب القضية من وزارة الداخلية وقيادة الجيش وايكالها الى مكتب رئيس الوزراء. كانت اول خطوة فعلية هي الاستجابة لمطلب قديم للاكراد بالسماح لهم بتدريس ثقافتهم الخاصة في مدارسهم وانشاء اذاعة ناطقة بلغتهم واصدار قانون يجرم التمييز ضدهم في الوظائف ويلغي المراقبة الامنية على نشاطهم التجاري.

 منذ الاسابيع الاولى لاعلان هذه الاصلاحات ظهر اثرها الايجابي فقد تراجع العنف السياسي بشكل ملموس، وتحول الجنوب التركي المتازم الى منطقة جاذبة للاستثمار والتجارة ، كما ان سمعة تركيا في  العالم قد تحسنت. الارتياح العام الذي ساد تركيا بعد حل الازمة الكردية في الجنوب ادى ايضا الى تعزيز شعبية الحزب الحاكم ونجاحه دورة ثالثة في الانتخابات العامة ، وهو انجاز لم يسبق ان حققه اي حزب سياسي في تركيا.

كشفت التجربة التركية عن الدور المحوري للمؤسسة السياسية في ادارة مشكلات الانقسام. لقد فشلت جميع الحكومات السابقة لانها عالجت الازمة الكردية من زاوية امنية ، ولانها اوكلت الامر الى اشخاص غير محايدين. لكن الحكومة الحالية حققت نجاحا باهرا حين استبعدت المنظورالامني الذي طابعه الارتياب ، وانطلقت من ايمان بالمساواة بين الاكراد وبقية المواطنين .

من المؤكد ان تركيا واكرادها بحاجة الى سنوات اخرى لتصفية بقايا المشكلات السابقة ، لكن ما تحقق فعلا هو نجاح كبير. التجربة التركية مثال واضح على الحاجة لاستبعاد المنطق الامني من العلاقة بين الدولة والاقليات التي تعاني من التهميش او التمييز. لم ينجح المنطق الامني في أي مكان في العالم ، بل ان الاصرار عليه كلف الحكومات اثمانا باهضة ، ولم يات بالاستقرار ولم يعزز الوحدة . في المقابل فان العلاجات التي اعتمدت الوسائل السياسية والاقرار بالحقوق الاولية للاقليات نجحت تماما او نسبيا في تخليص البلاد من معضلات مزمنة.

عكاظ 26 اكتوبر 2009

20/10/2009

العبء الطائفي

اجمل ما في الديمقراطية ، هو انها تتيح الفرصة للناس العاديين كي يشتركوا في تحديد طبيعة الدولة التي يريدونها. ومع ان تجربة العالم العربي في المشاركة السياسية لا تزال غير ناضجة تماما ، الا ان الانتخابات العامة الدورية ، تتيح على اي حال فرصة للتعبير عن المزاج الشعبي ، وتحويله كليا او جزئيا من مطلب او طموح الى سياسة قابلة للتنفيذ ، من خلال مؤسسات الدولة.

مناسبة هذا الكلام ، هو بدء العد العكسي للانتخابات العامة في العراق ، المقررة في يناير 2010. حيث تكشف تصريحات السياسيين من مختلف الاتجاهات ، عن اجماع على تجاوز الانقسام الطائفي الذي برز في انتخابات العام 2005. هذا الاجماع هو انعكاس لفعل شعبي ، ظهر بجلاء في الانتخابات المحلية التي اجريت مطلع العام الجاري ، والتي كشفت عن تراجع التاييد الجماهيري للاحزاب التقليدية واحزاب الطوائف ، بشكل ملفت حتى في المدن التي تعتبر قواعد مضمونة لها. وقد ظهر تاثير هذا التحول حتى في كردستان ، التي تعتبر محجوزة للحزبين الكرديين الكبيرين ، فقد نجح عدد من التنظيمات الصغيرة والجديدة ، في تحقيق اختراقات ملفتة. وفي وسط وجنوب العراق حصل على النصيب الاعلى ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي ، والذي خاض الانتخابات بشعارات "دولتية" اذا صح التعبير ، شعارات تتحدث عن حكومة قوية وسيادة القانون والمساواة بين العراقيين ، وجعل المواطنة معيارا وحيدا للعلاقة بين المجتمع والدولة.

يعتقد كثير من المراقبين ان تلك الشعارات اعطت املا لعامة العراقيين ، بان الطبقة السياسية تستطيع – اذا ارادت -  اقامة دولة تعبر الحواجز الطائفية وتمثل الجميع. في الحقيقة فان اكبر هموم العراقيين هو انهيار هيبة القانون ، وانكماش سلطة الدولة وظهور قوى اهلية مسلحة او شبه مسلحة ، تتحدى سلطة الدولة بل وحتى وجودها.  التاثير الواسع لتلك الشعارات التي طرقت على وتر حساس في نفوس المواطنين ، حمل بقية القوى السياسية على مراجعة برامجها الدعائية باتجاه التركيز على الجانب الايجابي ، اي البرامج والسياسات التي سوف تتبناها او تسعى لتطبيقها اذا نجحت في الانتخابات. خلافا للعادة التي جرت خلال السنوات الخمس الماضية ، حين كانت تلك القوى تخصص النسبة الكبرى من اعلامها اليومي ، لامتداح رجالاتها والتنديد بسياسات واعمال الحكومة .

كانت المحاصصة الطائفية وسيلة وحيدة للخروج من ظرف التقاتل والاستقطاب الشديد ، الذي اعقب سقوط النظام السابق. لكن هذه الوسيلة التي بدت ضرورية في ذلك الوقت ، فقدت اليوم مبرراتها ، بعدما سار قطار السياسة على السكة ، وفشل الرهان على الحرب الاهلية  ، او تصاعد طواحين العنف. اصبحت الطائفية اليوم صندوق الزبالة الذي يرمي فيه الناس والسياسيون اوساخ السياسة ومبررات الفشل . ولهذا فان الطائفيين او المراهنين على النزاع الطائفي ، قد خسروا واحدة من اهم اوراق اللعب التي كانت بايديهم حتى وقت قريب. ومع انه من المبكر القول ان الشعار الطائفي قد ذهب الى غير رجعة ، الا ان ميل الجميع تقريبا الى نبذ التقسيم الطائفي ومبرراته ، ونبذ الداعين اليه والمشجعين له ، وكذلك رموزه هو امر يبعث الامل .

لم تكن الطائفية مطلبا لاي من القوى السياسية الرئيسية في العراق ، لكن انعدام الثقة بين المكونات الاجتماعية ، والقلق من الاستبداد ، والاستئثار وغموض طبيعة النظام السياسي الذي يراد اعادة بنائه في هذا البلد ، جعلت المحافظة على حصة الطوائف في النظام السياسي ، مطلبا ملحا لجميع القوى السياسية . هذا الهم لم يكن مقصورا على الاحزاب او زعماء السياسة ، بل كان هما شعبيا في المقام الاول ، ولهذا فشلت المجموعات التي تعتبر محايدة طائفيا في انتخابات 2005 وفازت المجموعات التي تتحدث صراحة عن موقف طائفي ، او تتبنى حقوق الطائفة. وهذا هو الذي اوصل العراق الى ما عرف لاحقا بالمحاصصة الطائفية.

لن تزول الطائفية في العراق لمجرد انتصار فريق غير طائفي او قبول الجميع بعبور الاطارات الطائفية . يحتاج الامر الى تعديلات جذرية في الثقافة والتنظيم الاجتماعي والمؤسسة السياسية وتوزيع الموارد العامة. واظن ان على السياسيين ان يتحملوا مسؤوليتهم في هذا الصدد لان الدور الاكبر في علاج المشكل الطائفي يقع على عاتق المؤسسات السياسية ، الحكومة والمعارضة . ويظهر لي من بحوث سابقة ان ضعف المؤسسات السياسية خارج الدولة ، اي الاحزاب والمنظمات التي تؤطر المطالب الشعبية قد ادى الى تلبس هذه المطالب بعباءة الاوصاف التقليدية كالطائفة والعشيرة والمنطقة الخ ، وهو الامر الذي ادى في احيان كثيرة الى تزييف الوعي السياسي وتفريغ المطالب من مضمونها المدني او اضعاف الجانب المدني من المطالب الشعبية واعادة انتاجها في اطار طائفي او قبلي او عشائري.

مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

اتجاهات في تحليل التطرف

إشارات على انهيار النفوذ الاجتماعي للقاعدة

اعادة بناء الاجماع الوطني

اعلام القاعدة في تظاهرات عربية

انهيار الاجماع القديم

تجارة الخوف

تجريم الكراهية

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

ثقافة الكراهية

حين تتحول العلمانية الى ضرورة

خديعة الثقافة وحفلات الموت

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

الطائفية ظاهرة سياسية معاكسة للدين

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

العبء الطائفي

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

في انتظار الفتنة

كي لا نصبح لقمة في فم الغول

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

المسالة الطائفية في المملكة :دعونا نتجاوز الفشل

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم



12/10/2009

شغب الشباب في اليوم الوطني


الشغب واعمال التخريب التي شهدتها مدينة الخبر يوم الاحتفال بالعيد الوطني ، بحسب المعلومات التي اوردتها الصحافة المحلية ، تؤكد الحاجة الى معالجة لا تقتصر على التعامل الامني الميداني. لا يمكن القطع بان اعمال الشغب تلك هي نتيجة لعمل منظم ومخطط له بشكل مسبق ، رغم اننا لا نستبعد هذا الاحتمال . لكن بعيدا عن الجدل في هذا الاحتمال او ذاك، فان تلك الحوادث تستدعي تاملا عميقا في الدواعي والظروف التي تحمل عددا كبيرا نسبيا من الشباب على اتباع سلوك من هذا النوع ، مع علمهم بالنتائج السلبية التي يمكن ان تترتب عليه ، ومن بينها الاعتقال او الفصل من العمل .
يمكن ان نناقش المسألة في اطار "تنامي الميل للمنازعة عند الشباب" وهي ظاهرة اجتماعية معروفة. او يمكن مناقشتها كواحد من انعكاسات الجدل النفسي الداخلي الذي يرافق اعادة تشكل الهوية الشخصية ، ولا سيما في ظرف التفكك غير المخطط للهويات التقليدية ومنظومات القيم لصالح اخرى متوائمة مع الظرف الثقافي والاقتصادي الفعلي الاقرب لظرف الحداثة . واخيرا قد يمكن فهمه كتعبير عن رغبة عارمة في تاكيد الذات والحصول على دور في الحياة العامة . هذه الاحتمالات كلها هي مخرجات وانعكاسات لظواهر اجتماعية طبيعية تشهدها المملكة في سياق تطورها الاجتماعي والسياسي ، وهي تحدث في كل مجتمع يعيش ظرف نمو احادي او غير متوازن.

وحتى لو اخذنا بفرضية كون تلك الاعمال منظمة ومخططة من قبل جهة ما ، وهو امر غير مستبعد كما سلف ، فانه لا يمكن القطع بان استعداد الشباب للانخراط فيها هو نتيجة لالتزام ايديولوجي عميق . لكن يمكن القطع بان التخطيط ما كان لينجح لولا وجود قابلية في نفوس هؤلاء الشباب ، سببها الرئيس هو احد الاحتمالات الثلاثة المذكورة. بعبارة اخرى فان الذين يمارسون الشحن الايديولوجي ، ويشجعون الشباب على التمرد ويبررون تخريب املاك الاخرين وايذاءهم ، يستثمرون استعدادا قائما في نفوس الشباب وقابلية متوفرة سلفا ، هي نتيجة للشعور بالاحباط او الاغتراب او انعدام التوازن او التضاد الثقافي او الاقتصادي.

 واذا اردنا اتقاء تكرار هذه الحالة في المستقبل او توسعها ، فاننا بحاجة الى اسراتيجية موسعة تشبه ما يسمى في دول اخرى بشبكة الامان الاجتماعي . شبكة الامان هي نوع من المبادرات التي تستهدف تقليل الانعكاسات السلبية للنمو الاقتصادي غير المتوازن على الشرائح الاكثر عرضة للضرر. صحيح ان معظم الدول التي طبقت هذه الفكرة ركزت على الجانب الاقتصادي ، الا ان الفكرة بذاتها ترمي الى تعويض الفئات الاضعف ، التي لا تستطيع مواكبة التغيير في السوق او في الثقافة او في النظام الاجتماعي.

استراتيجية كهذه ينبغي ان تكون استثنائية ، اي غير ملتزمة بحدود القوانين والاطارات القائمة فعليا ، لانها قامت في الاساس بسبب الاعتقاد بعدم قابلية تلك الاطارات لاستيعاب كافة مخرجات النمو ولا سيما احتواء الحالة المراد علاجها. خلال السنوات الاخيرة شهدنا ظهور مبادرات عديدة تهتم – كما هو معلن – بالشباب . لكن يؤسفني القول ان معظمها مصاب بضيق الافق ، فقد تعامل مع الموضوع كحلقة منفصلة ، لا كجزء من ظاهرة اجتماعية اوسع. بعض هذه المبادرات ركز على توفير الوظائف وبعضها اهتم بما يشبه النشاطات الكشفية واخرى اهتمت بالرياضة . وهذه كلها علاجات لجوانب من المسألة  ، لكنها تفتقر الى الشمولية المطلوبة كما تفتقر الى قاعدة نظرية تفسر جوهر المشكلة وتداعياتها وتمظهراتها المختلفة .

واعتقد ان المدخل الاوسع لمعالجة قضايا الشباب هو تمكين المجتمع المدني من تنظيم نفسه واطلاق مبادراته الخاصة. ولهذا فقد يكون من الضروري التعجيل باصدار نظام الجمعيات الاهلية الذي اقره مجلس الشورى منذ زمن طويل نسبيا . هذا النظام هو الاطار القانوني الذي يمكن ان يستوعب المبادرات الاجتماعية وينظمها في الاتجاه المطلوب.
اما على مستوى الحدث نفسه ، فان توقيته يكشف عن تفارق بين مفهوم الوطن والاحتفال به بين المستويين السياسي الديني . ولا اظن ان مبعث هذا التفارق هو اجتهادت او اراء فقهية مجردة عن الانعطاف السياسي . لكن هذا بحث يطول ، و ربما يكون موضوعا لمقالات تالية .
عكاظ 12 / 10 / 2009

مقالات ذات علاقة

·         تجارة الخوف
·         تجريم الكراهية
·         طريق التقاليد
·         فلان المتشدد


05/10/2009

مشروعات في صحافة غافية


تلعب الصحافة المحلية الدور الأبرز في صياغة وعي الجمهور بالدولة والإدارة العامة وبالواقع الذي يعيشه. الصحيفة اليقظة ترصد ما يقال وتبحث عما يمكن أن يكون وراءه، وتحقق في سلامته قبل أن تعرضه على القارىء. والصحفية الغافية أو المتثائبة تكتفي بالفرجة والنقل بل ولا تجد حرجا في «تلوين» ما يقال حتى يصبح المنشور جذابا أو ربما خداعا.
ليس لهذا الكلام مناسبة سوى تكرر الأخبار التي تنشرها الصحافة المحلية والتي بدا لي أنها تنطوي على الكثير من نقاط الشك. وأجد في بعض الأخبار والتعليقات مثالا على الصحافة الغافية أو الغافلة، وفي بعضها الآخر مثالا على الصحافة اليقظة الواعية. الغفلة المقصودة قد تتمثل في نقل أمنيات لأحد المسؤولين وعرضها على القراء باعتبارها خبرا عن واقعة. وقد تتمثل في تغيير صيغة كلام المسؤول بتحويله من صيغة «سوف نفعل» إلى صيغة «قد فعلنا»، وأحيانا من صيغة «نفكر في» إلى صيغة «نعمل على».
وقد تتمثل الغفلة في تضخيم عمل صغير وعرضه كحل نهائي وتاريخي لمشكلات كبرى. مثل ذلك الذي تحدث عن مشروع غير مسبوق لإصلاح الثقافة العربية، وتبين في نهاية المطاف أنه يتحدث عن «كتاب» يعتزم تأليفه. أو ذلك الزعيم الذي قال أنه توصل إلى الحل النهائي لإيديولوجيا الحكم وفلسفة السياسة في العالم كله ووضع ما أسماه «النظرية العالمية الثالثة». وحين اطلعت على تلك الجوهرة التي طال انتظار العالم لها، وجدتها تتلخص في ثلاثة مقالات تفتقر إلى التماسك العلمي والاستدلال، بل تفتقر إلى أي أساس يسمح باعتبارها «نظرية» بالمقاييس العلمية المعروفة. لكن الناس تتكلم وتكتب، والناس تقرأ وتضحك، أو تقرأ وتبكي، أو تقرأ ثم تذهب إلى السوق للاستفادة من ورق الصحف في لف الخبز والخضراوات وغيرها من الاستعمالات المفيدة.
عودا على الصحافة الغافية، قرأت يوم أمس خبرا تنقله الصحافة المحلية عن وزير الكهرباء، يقول إن الشركة السعودية الموحدة للكهرباء قد «خصصت 80 مليار ريال» لاستيعاب الطلب المتزايد على الكهرباء والحد من انقطاع التيار خلال السنوات القادمة. ويقول الخبر أيضا إن المملكة ستحتاج إلى 30 مليار ريال سنويا لهذا الغرض. نفهم أن تعبير «تخصيص المال» يعني أنه موجود ومحجوز لعمل محدد. ونفهم من السياق أن ذلك المال سيصرف خلال الأعوام الثلاثة القادمة.. لكن الصحيفة لم تقل لنا متى جرى تخصيص ذلك المبلغ الضخم ومن أين جرى تأمينه.. من ميزانية الدولة أو من قروض بنكية أو من إيرادات الشركة نفسها ؟. وإذا فرضنا أنه سينفق مثلما يفهم من الخبر خلال سنتين ونصف، فماذا عن السنوات التالية ؟.
ربما يكون كلام الوزير سليما لكني لم أفهم فحواه، وربما يكون كلامه انتقالا بين صيغة «يجب أن نفعل» وصيغة «فعلنا» أو «سوف نفعل». وربما يكون مجرد حديث عن أفكار وهموم أراد معاليه اطلاع المواطنين عليها، وله الشكر على ذلك. لكن العتب على الصحيفة التي لم تقدم الخبر بالصيغة التي توضح المقصود.
في مكان آخر تتحدث صحيفة عن مشروع لإنشاء سكة حديد تمتد من جنوب المملكة حتى جدة. وعن مشروع آخر يربط الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي. وذكرني هذا بمشروع جرى الحديث عنه في السنوات الماضية يتناول إعادة إنشاء الخط الحديدي الحجازي، ومشروع لإنشاء جسر يربط المملكة بمصر، وتعرض هذه المشروعات كلها باعتبارها خططا قيد التنفيذ أو بانتظار التنفيذ. لكن لو دققنا في كل مسألة على حدة فسوف نجد أنها مجرد أفكار أو اتفاق على دراسة المشروع أو خطة بعيدة المدى للتنفيذ بعد نصف قرن أو ربع قرن إذا توفرت شروط مناسبة أو .. أو .. إلخ. بعبارة أخرى فإنها ليست مشروعات على الطاولة، بل أوراق على الرف.
لكن الناس يقرؤونها على طريقة الصحافة الغافية فيستبشرون خيرا ويظنون أن مشكلة المواصلات بين جازان وجدة ستنتهي بعد سنتين أو ثلاث، أو أن مشكلة انقطاع التيار ستصبح ــ بعد سنة أو سنتين ــ تاريخا يحكى للأولاد، أو أن الطبيب سيأتي للمريض في بيته بدل أن ينتظر في ممرات المستشفى ساعات كي يرى طبيبه، أو أن الطريق الذي لا يراه مدير البلدية كل يوم قد رصف وأضيء وزرع وبنيت أرصفته مثل الطريق الذي يراه الرئيس صباحا ومساء، أو ... أو .. إلخ.

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...